"الطريق إلى بئر سبع" لإثيل مانين: طريق التهجير الذي لا ينتهي

الرواية تحكي قصة آل منصور العائلة المسيحية البورجوازية، التي تهرب من منزلها في مدينة اللد،  بعد أن يقتحم رجال عصابات الهاغانا دارها، ويحطمون أثاثها ويغتصبون نساءها بعد اعتقال رجالها في المسجد الكبير.

  • "الطريق إلى بئر سبع" لإثيل مانين

العودة إلى رواية الكاتبة إثيل مانين " الطريق إلى بئر السبع" تشبه العودة إلى البئر التي تنبع منها كل مآسي التهجير والاقتلاع من الأرض والتاريخ والذكريات، وهي عودة إلى بدايات عصر الشتات الفلسطيني، فمن سطورها نشتم رائحة  الطلقة الأولى، في بداية هذا الطريق الممتد منذ بواكير نكبة عام 1948 ، إلى آخر صلية من الصواريخ الإيرانية التي سقطت على مدينة بئر السبع. 

تحتقب "إثيل مانين "رحلة الشتات الفلسطيني في حقبة واحدة وتدمج الأزمنة في زمن واحد، هو زمن القهر الفلسطيني المتمثل بتهجير لا نهاية له، وتجتاز  قوافل النازحين عشرات السنين، تبدل قراها ومدنها وأوطانها كما تبدل الناس ثيابها، كأنّ الفلسطيني والنزوح مرآتان متقابلتان تعكس كل منهما وجه الأخرى.

الرواية التي صدرت عن دار Jarrolds Publishing في لندن عام 1955 باللغة الإنجليزية، وترجمها حلمي مراد تروي قصة آل منصور العائلة المسيحية البورجوازية، التي تهرب من منزلها في مدينة اللد،  بعد أن يقتحم رجال عصابات الهاغانا دارها، ويحطمون أثاثها ويغتصبون نساءها بعد اعتقال رجالها في المسجد الكبير .

 لا يلبث آل منصور  والحال هذه أن يتركوا ديارهم وأرزاقهم وأطيانهم على عجل، و يهاجروا كعشرات الألوف من الناس متجهين إلى رام الله التي لم تكن العصابات قد وصلت إليها، تسير قوافل الهاربين من وجه الموت تجوب الأرض، وتضرب في التلال والسهول الجرداء متجاوزة الفيافي والسهول والوديان سيراً على الأقدام، وتلقى في طريقها صنوف العذاب من جوع وعطش وحر، أُجبر الناس على احتساء بولهم وبول أطفالهم " إنه الماء ! إنه شيء يرطبون فيه أفواههم الجافة وشفاههم المشققة، التي انتشرت على حوافيها إطارات من الملح بيضاء مع ارتقاء الشمس في كبد السماء"، وفي المسير مرضى ومسنّون لا يقوون على السير  في الطرقات الوعرة، فيتركهم  ذووهم ليموتوا على قارعة الطريق وأطفال ينفقون كما تنفق الماعز فتحفر أمهاتهم التراب وتواريهم تحته وتمضي إلى المجهول.

 تصل أمواج النازحين من اللد إلى رام الله فتفيض شوارعها بالناس الباحثة من دون جدوى عن ملجأ يلمها من الشوارع الغاصّة بالنازحين.

كان آل منصور من المحظوظين بسبب وجود أقارب لهم في رام الله ، وجدوا عندهم المأكل والمشرب والمسكن الآمن، لكن النفس ثقيلة، والناس لا تسعها إلا بيوتها، وآل منصور يمتلكون داراً وأراضي وأطياناً في أريحا، ما لبثوا أن لجأوا إليها رغم حرارة الصيف الخانقة في جارة البحر الميت .

أنطون صغير آل منصور يعود الى رام الله لمتابعة دراسته الإعدادية وهناك يتعرف على وليد، الشاب، المسلم، الشجاع، المهجّر من "بئر السبع" المتحرّق شوقاً لرؤيتها، لكن الطريق إلى "بئر السبع" الذي كان الناس يسلكونه من قبل إلى القاهرة بغير عائق، بات محفوفًا بالمخاطر ولا يجسر أحد على ارتياده بسبب قناصة اليهود المتربّصين في التلال على جانبيه وعند منعطفاته الكثيرة.

 ما انفك الأمل في رؤية بئر السبع يراود الفتى، حتى أتى ذلك اليوم الذي اصطحب فيه صديقه أنطون معه إلى قرية الظهيرية المحاذية لبئر السبع والتي يقطنها أعمامه، ومن هناك انطلقا في رحلة غرضها  الصعود إلى التلال و مشاهدة "بئر السبع" ولو عبر الوادي ورؤية بساتين البرتقال ومزرعة الدواجن، وأجمة الزيتون التي استولى عليها اليهود واستغلوها أبشع استغلال.

ارتقى الشابان الصغيران التلال المشرفة على بئر السبع، ومن هناك راحا يتأملان الأرض الوادعة، وقد هالتهم المفارقة بين الجمال الآسر والوحشية الغاصبة، ومن على تلك التلال راحا ينسجان بخيال صبياني خطط التسلل إلى الداخل، بعد أن فقدا الأمل بنجدة الفيلق العربي الذي سمعوا بأخبار مجيئه لاستعادة الأراضي العربية منذ بداية الاحتلال والقضم والتهجير، ولم يروا له أي أثر على أرض الواقع.

الرواية التي صدرت في خمسينيات القرن العشرين تندرج ضمن الأدب المقاوم المؤيد للقضية الفلسطينية، فهي تفضح الدور البريطاني في تمكين الاحتلال من الظلم الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني وتسلّط الضوء على المعاناة اليومية للاجئين الفلسطينين، وما كان ذلك ليكون لولا تعاطف الكاتبة إثيل مانين وإيمانها العميق بعدالة القضية الفلسطينية. يعد هذا التعاطف محاولة مبكرة  لإنصاف الشعب الفلسطيني وتعتبر " الطريق إلى بئر سبع " وثيقة تاريخية مهمة تنقض السردية الصهيونية والغربية التي سادت أوروبا حينذاك حول الأرض التي لا شعب لها، وعرفّت الجمهور الغربي بحقيقة النكبة الفلسطينية وتداعياتها على السكان الأصليين من قتل وتدمير وتهجير، من وجهة نظر الضحايا أنفسهم : وليد، بطرس، فريد، أنطون، ماجدة، وماريان الذين وقفوا عُزّلًا في وجه عصابات الهاغانا والشتيرن، هذه العصابات التي ظهرت فجأة وراحت تشن هجمات منظمة على القرى والمدن الآمنة، هجمات تفتقر إلى الحد الأدنى من الإنسانية والقيم الأخلاقية "نزعت منه المرأة المجندة، مفاتيح السيارة، وركب الجنود الثلاثة سيارته، وأطلت من النافذة المجاورة لمقعد السائق لتقول له: من الخير لك ولأسرتك، أن تغادروا الدار سريعًا، وإلا فلن تساوي حياتكم جميعًا فلسًا واحدًا، وضحك رفيقاها، وعندئذ استطردت مزهوّة بوقاحتها: حتى ولا ثمن رصاصة ، ثم بصقت عليه وانطلق الثلاثة بالسيارة ..." 

تتوزع مآسي النزوح على صفحات الكتاب، مضيئة لحظة التهجير الأولى، لحظة تناسلت منها كل موجات النزوح الفلسطيني في الأزمنة اللاحقة بكل أدوار انتقالها وارتقائها بصورها المتنوعة في الزمان والمكان.

اخترنا لك