"شهرزاد" من "ألف ليلة وليلة" إلى هاروكي موراكامي

بين شهرزاد "ألف ليلة وليلة" وشهرزاد هاروكي موراكامي.. كيف يكون السرد معادلاً للحياة؟

من يقرأ قصة شهرزاد للروائي الياباني هاروكي موراكامي، يستطع تلمّس أن شهرزاد هي الراغبة في رواية القصص، فضلاً عن أنها تسعى لتهدئة "هابارا"؛ ذاك الرجل المنعزل في منزله. فحين ينتهيان من علاقتهما الجسدية تروي له حكاياتها التي لم يستطع معرفة ما إن كانت مختلقة تماماً أم أنها صحيحة جزئياً ومتخيّلة في جزء آخر، وبدا له أن الواقع والتخمين والخيال والملاحظة تتشابك فيها بصورة وثيقة، لكنه مع ذلك كان مستسلماً لها بسذاجة، وبشوق دائم إلى معرفة تتمة القصة.

هذا الأسر الحكائي هو ما ميّز الشهرزادات على اختلاف مبدعهم، وبالنسبة إلى شهرزاد موراكامي، وبحسب توصيف "هابارا" ذاته، فإن لديها "موهبة سرد القصص التي تمس القلب، بغض النظر عن نوع قصصها، فإن كل ما ترويه يأخذ في فمها نكهة معينة. صوتها، خطابها، إيقاعها، كل شيء كان يليق بها. كانت تجيد كيف تجذب انتباه المستمع، وتغريه، وتحمله على التفكير والتكهن، وبعد ذلك، في النهاية، تمنحه بالضبط ما كان يبحث عنه. براعتها المذهلة تجعل المستمع ينسى الواقع المحيط به، ولو للحظات قليلة. حينذاك تختفي الهموم أو الذكريات غير السارة، المؤلمة، التي قاومت بعناد، مثل سبورة مغسولة بقطعة قماش مبللة".

ممرضة المعزولين

هل كانت شهرزاد موراكامي ابنة الخامسة والثلاثين، والتي تجمع بين كونها ربة منزل وممرضة سابقة، هي ممرضة المعزولين؟ إذ لم يكن ثمة ما يجبرها على زيارة هابارا مرتين أسبوعياً كما كان يحدث بما يشبه اتفاقاً ضمنياً بينهما. لكن مع إبدال صياح الديك، الذي ينهي عن الكلام المباح في "ألف ليلة وليلة"، بمنبّه يشير إلى الرابعة والنصف عصراً موعد تحضيرها العشاء في منزلها.

وإن كانت شهرزاد تلك عبارة عن سمكة جلكي في حياتها السابقة، كما قالت في إحدى قصصها، تتمسك بفمهها بإحدى الصخور البحرية وترخي ذيلها، بحيث تبدو كأعشاب البحر، وتنتظر أن تمر فوقها سمكة سلمون مرقطة. حينها تترك الصخرة وتلتصق بسمكة السلمون تلك، تقشط جلدها ثم تبدأ أكل لحمها بفمها المخروطي الماصّ والذي لا يحوي أسناناً، فهل كانت بسردها لقصصها تسعى لأن تعيد إحياء ذاتها بهيئة تلك السمكة، أم أنها تبتغي تحويل فن الروي إلى آلة زمن تعيدها شابة، وتحديداً في عمر السابعة عشرة طالبةً في المدرسة الثانوية وذكرياتها عن حبها لزميلها الملتزم دراسته ولعبه في فريق كرة القدم، والذي لم يلتفت إليها قط؟

ربما هي هذا وذاك، فكما صرحت ضمن سرديّتها كانت "سارقة حب"، كما كان لها إمكان تحويل سلطة قوة سرد القصص على نفسها، "مثل منوّم مغناطيسي عبقري تمكن من تنويم نفسه باستخدام مرآة". هذا الأمر مميز جداً في شهرزاد موراكامي، إذ إنها استطاعت أن تعيد الشباب لذاتها بسطوة الحكاية، وفي الوقت ذاته أن تصنع واحة في الجزيرة القاحلة التي كانها هابارا، بحيث عززت مقدرته على النسيان وهو أكثر ما كان يتمناه في هذا العالم.

إذاً هي ممرضة المعزولين، وسارقة حب، وآلة للزمن، هذه الثلاثية هي ما جعل "هابارا" يخاف أن تنتهي حكايته مع شهرزاده على رغم كونها كما وصفها ذاتها مرة "امرأة يصعب فهم عواطفها ونياتها من نواح متعددة"، وما أربكه أيضاً أن الحب معها والقصص التي أخبرته بها كانت متشابكة للغاية، بحيث كان من الصعب رسم الخط الفاصل بينهما. من المستحيل النظر فيها بشكل منفصل. وكما يشير موراكامي في قصته "لم يكن هابارا يحب شهرزاد حقاً، ولم يكن الجنس معها بصراحة مثيراً، إلا أنه شعر بالارتباط الشديد بهذه المرأة كما لو كان مخيطاً بها".

مقارنة مستحيلة

هذه العلاقة غير المفهومة تتعزز عند قراءة صفات هذه الشهرزاد الجمسانية. إذ جاء في القصة "على الرغم من أفضل إرادة في العالم، فإنه كان من المستحيل مقارنة بنية شهرزاد بجسم بطلة ألف ليلة وليلة المتألقة. فربة المنزل هذه مثقلة هناك وهناك ببعض الانتفاخات (تشبه إلى حد ما المعجون الذي يملأ الشقوق) وهي لم تعد شابة بالفعل. كان لديها ذقن مزدوج طفيف وخطوط دقيقة من التعب تسللت إلى زوايا عينيها. تصفيفة شعرها وملابسها وتبرجها، على رغم أنها ليست مهملة حقاً، لكن لم تكن شيئاً رائعاً أيضاً. لم تكن ملامح وجهها قبيحة بل متشققة، والانطباع الذي تتركه كان ضبابياً نوعاً ما".

هذه الضبابية غلّفت مناخات قصة موراكامي وشخصيتيها، فلم نعرف سبب عزلة هابارا وعدم خروجه نهائياً من المنزل، وتخليه عن التواصل مع أي أحد سوى شهرزاد، التي تحضر له ما يحتاج إليه من أشياء البقالة، إلى جانب أفلام وكتب ليكسر فيها وحشته. وفي الوقت ذاته لا ندري إن كانت تمارس الجنس مع هابار انتقاماً من زوجها لخيانته لها مثلاً، كما فعل شهريار في ألف ليلة وليلة بعد أن خانته زوجته فبات يمضي كل ليلة مع إحدى عذراوات مملكته، ثم يقطع رأسها في الصباح. حتى إننا لا نعلم سبب اختيارها للزيارة مرتين أسبوعياً فقط، هل هي فسحة لشحذ مخيلتها ومداورة سردياتها، ثم اختيار نهايات مشوقة أكثر؟

أسئلة كثيرة تفرضها تلك الضبابية، لكن أبرز ما يميز شهرزاد موراكامي، أنها كانت هي مصدر حكاياها الوحيد، كما أن تأثير سردياتها لا ينعكس على المستمع فقط، وإنما على ذاتها بنسبة كبيرة، بينما شهرزاد ألف ليلة وليلة، فإنها "لم تجمع حكاياتها عن طريق الرواية الشفهية بقدر ما جمعتها من الكتب، أساتذتها هم الكتب فقط، والبالغ عددها ألفاً، بحيث درست الطب والشعر والتاريخ وأقوال الحكماء والملوك. فمن هذه الذاكرة المكتوبة والزاخرة استقت مادة حكاياتها ونهلت مادة العبرة التي قدمتها إلى شهريار ليلة بعد ليلة. كانت الكتب راقدة ثم أقدمت شهرزاد على إيقاظها بفتحها على الخارج، بإخراجها من انطوائها. أصبحت الكتب عبر صوتها مبدأ من مبادئ الحياة. هي العارفة أن المعرفة لا تكتمل إلا إذا تم نقلها وتعليمها وتالياً إذا أثرت في الناس"، بحسب كتاب "العين والإبرة دراسة في ألف ليلة وليلة" للناقد عبد الفتاح كيليطو.

مرايا الحكايات

شهرزاد لم تكن طرفاً في الحكاية التي تسردها، بل كل ما روته يشير إلى راو مجهول، وما يدل على ذلك قولها في افتتاحية كل ليلة "بلغني أيها الملك السعيد" أو "حدثني" أو "روي"... أما عن أثر حكاياتها المتوالدة فيستهدف الملك شهريار، إذ "كانت الحكايات مرايا تأمّل فيها الملك حكايته الخاصة، وتمكن بفضلها من التغلب على عزلته، ثم فإنه استطاع من فرط تماهيه مع شخصيات خيالية، أن يكتسب رؤية جديدة للأشياء ويتخلى عن حقده"، والكلام لكيليطو أيضاً.

"شهرزاد كانت تمثل المعرفة مقابل السلطة" كما أشارت سروة يونس الدلي في كتابها "شخصيات ألف ليلة وليلة.. من البناء إلى التوظيف في الرواية العربية"، فهي تطوعت لإنقاذ بنات جنسها، وساعدها حسنها وسعة ثقافتها وحفظها للعديد من كتب التاريخ والأدب على تحقيق رغبتها، فخلّصت شهريار من عقدته الدموية ليصبح ملكاً أحكم وأعدل من ذي قبل، وذلك عن طريق سرد القصص بأسلوب ذكي، لتشكل تلك الشخصية، بحسب الدلي "الأمل بعد اليأس، السعادة بعد الحزن، الحياة بعد الموت، وذلك عبر إمساكها بزمام الحكايات والامتثال لصيغة سردية، تبرز فاعليتها في سعيها للحفاظ على حياتها من سيف زوجها من دون أن تزعجه بالمواعظ والنوادر المباشرة، بل جاءته بقصص مشوقة، أثارت عنده ولعاً بهذا الفن ولمدة ألف ليلة وليلة. بمعنى أن شخصية شهرزاد لم ترق إلى الخشية كي تؤدي دور المرأة الشابة المهددة بالموت، وهكذا يبدو أن الليالي قد اختارت أن تتموضع خارج مأساتها".

هذا ما أكده الفيلسوف الفرنسي تزفيتان تودوروف، حين أوضح أن "السرد العجيب الذي قامت به شهرزاد جعل من فعل السرد مساوياً لأن تعيش، وأصبح السرد هو المعادل الكلي للحياة. لذلك، أنقذت مجتمعاً بكامله من قسوة ملكه. وهو القادر بسلطته على الخلاص منها في ليلتها الأولى، وبهذا تكرس فيها الفعل البطولي، فكانت شخصية رئيسة بطولية حققت حياة هذا المجتمع، في مقابل البطل المضاد الذي جسّده شهريار".

السّرد الشّافي

وكما تحقق لشهرزاد موراكامي أن تكون ممرضة المعزولين، فإن سابقتها كانت "الطبيبة النفسية لشهريار، تعالجه بحكايات وقصص تفصيلية تجسّم أمامه كل مظاهر الحياة الإنسانية ومنها العقد النفسية التي يعانيها بصورة خاصة، وأهمها غدر النساء، أي أنها قادته عبر الواقع والخيال إلى الشفاء". وذلك كما أشار الباحث ماهر البطوطي في مقالته "فرويد ونوازع النفس البشرية في ألف ليلة وليلة" المنشورة ضمن مجلة "الهلال" المصرية عام 2005.

أضف إلى ذلك أنها "استطاعت أن تغير المتعة الجنسية وهي متعة انتقامية وخوف كامن في داخله من الخيانة، إلى متعة الحكي، وتعد المرأة المصلحة أو المفارقة لبنات جنسها بما تمتلك من قوة الطبع والذكاء، وتشغل مكانة البطل في السيرة، فالأبطال في السّير رجال لهم أفعال قد تصل إلى البطولة في الحروب، فكان عليها التسلح بحلم وعلم ودراية وحكمة حتى تواجه مصيرها وتكون بطلاً أنموذجاً ومثالاً للخير".

وبغض النظر عن الاختلافات بين شهرزاد موراكامي وشهرزاد ألف ليلة وليلة، فإن كلتيهما آثرت دور الفاعل على المفعول به، وسواء بدأت حكاياتهما بـ"بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد"، أو انتهت بمنبّه ساعة تقليدي، فإنه بين بداية الحكاية ونهايتها ثمة وجود حيوي للسرد العجيب والسحري، الذي يأتي بمنزلة تميمة للخلاص، تعارض الموت بكل أشكاله وتبعث الحياة في أوصال النفس والجسد معاً، من خلال إمتاع متجدد ومؤانسة لانهائية.