"يوم الجراد" و"يوم السيل": إنسانية العُرف القَبَلي في اليمن
ما السِمتان الأساسيتان ليومَي "الجراد" و"السيل" في العُرف القبَلي اليمني؟ ولماذا يُعدّ "الصلح في عرض حرب" تجلياً للفطرة الإنسانية؟
من خصائص المجتمع اليمني، والقَبَلِي منه على وجهٍ خاص، اعتيادُه على ما يحدث فيه بين الحين والآخر من صراعٍات وحروبٍ وثارات قبلية، تنعكس سلباً على مجريات الحياة العامة. وعلى ذلك، فإن هذه السمة الاجتماعية، قد أفضت إلى أعرافٍ خاصة بها، لا سيما ما يقوم منها على اتخاذ ما يمكن اتّخاذُهُ من إجراءاتٍ إيجابية، تعمل على توفير أبسط ما يمكن توفيره من أنساق الحياة، بعيداً من أُتون الصراع. من مثل العُرف الخاص باليومين الطارئين: "يوم الجراد"، و"يوم السيل".
حياة متشابكة وخطرٌ واحد
-
يتجلّى في العُرف القَبلي نسقٌ من الفطرة الإنسانية المجبولة على نزعة المحافظة على النسل البشري
يغلب على طبيعة القبائل اليمنية أن تتشابك فيها مقومات الحياة في مناطق وقرى متجاورة، تتداخل فيها أسباب المعيشة، كما تتداخل المزارع المملوكة لأطراف متعددة. وحينما تندلع الحروب بين هذه القبائل، فإن الحرب تفرض منطقها. إذ يتحصّن أفراد كل طرف في مواقعهم، فيتعذر عليهم الوصول إلى أراضيهم، التي تُعدّ المحاصيل فيها هي المقوّم الرئيس لحياتهم.
وبالتزامن مع احتدام الحرب، عادةً ما يحدث أن تتعرض المحاصيل الزراعية لمخاطر التدمير، وما يترتب على ذلك من تهديد مباشر لمعيشة الناس المقيمين في مناطق الصراع، سواءٌ كانوا ضمن أطرافها أم لم يكونوا. وعلى ذلك؛ فإن الاستشعار الجمعي لخطورة ما يمكن أن يحدث، يفضي إلى توافق أطراف الحرب، على الإعلان عن تفعيل العرف القبلي: "الصلح في عرض حرب"، المعني بإيقاف القتال طيلة اليوم الطارئ الذي تلوح فيه ملامح أخطار محدقة بمصادر المعيشة، والمعنيُّ في الوقت نفسه بتأكيد استمرارية اعتناء الأطراف كلها، بهذه المصادر (الأرض/ والمحاصيل الزراعية)، حتى يزول الخطر.
"يوم الجراد" و"يوم السيل".. عقوبات قاسية
-
في حال أبدى المعتدي نوعاً من التعنت والرفض فإنه سيضع نفسه في مواجهة تكتل قبلي متكامل
غالباً ما يرتبط الخطر الطارئ الذي يهدد الأرض والمحاصيل الزراعية، بيومين اثنين، لكل منهما خصوصيته. يُعرف اليوم الأول منهما باسم "يوم الجراد" [1]، الذي يداهم الحقول ويفتك بكل ما يقع عليه فيها. وحينما تظهر بوادر هذا اليوم، فلا مناص من أن يتخذ المتحاربون هذا الإجراء القبلي، الذي يمنحهم حرية التوجه بأمانٍ إلى مزارعهم؛ لمواجهة كارثة الجراد والحد من آثارها.
أمَا اليوم الثاني، فيُعرف باسم "يوم السيل". وهو اليوم الذي تتساقط فيه الأمطار بغزارة، فتجري السيول في الأودية، لكن أجواء الحرب لا تتيح للناس الوصول إلى مزارعهم لتوجيه مياه السيول إليها، ومعنى ذلك حرمانها من الماء، وذبول محاصيلها طيلة العام. ولتجاوز هذا المأزق، يلوذ المتحاربون بهذا العُرف القبلي، الذي يستطيعون من خلاله التوجه إلى مزارعهم، وريّها بماء السيول، ثم يعود كلُّ واحدٍ منهم إلى موقعه الذي جاء منه.
لا شك في أن خصوصية الموقف وتداعياته والمخاطر التي تحتّم الرضوخ للتصالح المؤقت والسلم الآني لمواجهتها، كفيلة في دفع كل شخص إلى الالتزام بهذا العرف القَبلي. وعلى ذلك؛ فقد يحدث أن يخترق أحدهم هذا القانون، ويعتدي على خصمه في "يوم الجراد"، أو "يوم السيل". لكن العرف نفسه قد سد هذه الثغرة، فسنّ عقوبة قاسية، لا يعاقب بها من يُقدِم على هذا الجُرم وحده، بل ومعه الطرف الذي ينتمي إليه.
إن قاعدة هذا العرف القبلي والتقاليد الشعبية المرتبطة به، تؤكد أن مَنْ يُقتل في يومٍ من هذين اليومين ("يوم الجراد"/ أو "يوم السيل") يجب ألّا تقل ديته عن 35 دية. منها 5 ديات "دم"، و30 دية "ذم". أمّا دية "الدم" فالمراد بها القصاص؛ إذ يُقدِّم المعتدون 5 من خيرة رجالهم، يُقتلون مقابل الشخص الواحد (المجني عليه). واللافت أن من يختار هؤلاء الخمسة هو الطرف الآخر (المُعْتَدَى عليه)، وقد يكون الجاني واحداً ممن وقع عليه اختيارُه، كما يمكن ألّا يكون واحداً منهم؛ حينما يُستبْعد لقلة شأنه وتواضع مكانته.
أما الديات الــ 30 (ديات الذم)؛ فيُراد بها تلك السلسلةُ المتصلة من العقوبات الاجتماعية والاقتصادية، التي يُعاقب بها الطرف المعتَدِي، بما فيها العقوبات المعنوية تحقيراً وإهانة ومذمة، تظل ملاصقة له، وقاسية عليه، بتعقيداتها وآثارها، التي تكاد أن تفوق آثار دية الدم، تلك التي تصل إلى تنفيذ القصاص على 5 أشخاص مقابل شخص واحد.
ضامن تنفيذ العقوبات
تُطلِق الأعراف القبلية في اليمن، على جريمة القتل التي تُرتكب "يوم الجراد"، أو "يوم السيل" تسمية " القتل في عرض صُلح". وتُعدّ هذه الجريمة أشد جرائم القتل مقتاً ومذمّة في الوسط الاجتماعي. ولأنها كذلك، فإن الطرف المُعتَدِي هو الأكثر انتصاراً للثأر فيها؛ إذ يسارع فور إدراكه أن الجاني واحد من أفراده إلى التعاطي الإيجابي مع الموقف، من خلال التقليد الخاص بهذه الحال، ذاك المتمثّل في "التعييب الذاتي"، أو "تعييب الشخص لنفسه". ومعنى ذلك، أن يُقِرّ الشخص أو الجماعة التي ينتمي إليها بما اقترفه من فعل العيب في حق الآخر، مع تأكيد استعداده تحمّل المسؤولية الكاملة، وما يرتبط بها من العقوبات والمذمّات المتعددة والقاسية.
قد يتساءل متسائل عن أيّ قوة يمكنها أن تضمن تنفيذ هذا القانون القبلي؟ لا شك في أن تنفيذ عملية تنفيذ هذا الإجراء القبلي، مرتبطة بقوة قادرة على ذلك؛ هي قوة العرف القبلي نفسه، المستندة إلى دعمٍ اجتماعيّ وشعبيّ مطلق، يُجبر الطرف المعتدِي على تنفيذ العقوبات، و"تعييب" نفسه، وإرضاء الطرف المعتدَى عليه، ورد اعتباره بما يرضيه. إذ يمكن أن يظفر بتنازل المعتدَى عليه عن بعض الحقوق والعقوبات، فيما لو بذل جهداً مكثّفاً في استرضائه.
أمّا في حال أبدى الطرف المعتدِي نوعاً من التعنت والرفض، فإنه سيضع نفسه في مواجهة تكتلٍ قبلي متكامل، غير مقصور على الطرف المعتدى عليه وحده، بل يشمل كافة القبائل والمناطق المحيطة، التي ستعلن الحرب عليه، وتفرض حصاراً مطلقاً على أفراده، وتمنعهم من الوصول إلى مزارعهم. كما ستمنعهم من الوصول إلى المراعي والأسواق، ناهيك بما سيُتَّخَذُ ضدّهم، من إجراءات وعقوبات إضافية، تفوق قدرتهم على احتمالها.
لذلك، فإنه من النادر أن تصل الأمور إلى هذا المستوى من العواقب غير المقدور عليها، لأن الطرف المعتدي، لا بد أن يضع ذلك في حسبانه منذ البداية، فيحرص على تسوية الأمر، والامتثال لتنفيذ العقوبة المقرّة عليه.
يتجلّى في هذا العرف القَبلي (الصلح في عرض حرب) نسقٌ من الفطرة الإنسانية، المجبولة على نزعة المحافظة على النسل البشري، من خلال المحافظة على ما يمكن المحافظة عليه من مقومات الحياة، التي اقتصرت هنا على الأرض ومحاصيلها الزراعية.
وفي السياق نفسه، يمثّل هذا التقليد القَبَلِيّ سمةً إيجابية، في منظومة الأعراف والعادات الشعبية في اليمن. تلك المنظومة القبلية، التي تنبثق فيها هذه القيمة الإنسانية، من قلب الحروب والصراعات والثارات؛ فتجسّد لوناً من ألوان الانتصار للممكن من مسارات الحياة والسلم الاجتماعي.
[1] في مواسم الأمطار، عادة ما تكون المحاصيل الزراعية في اليمن مهددة بأسراب الجراد، التي يغلب عليها انتماؤها إلى نوع من الجراد الصحراوي النطاط المهاجر.