"آخِذة كَسرة" عن أوجاع جسدين: المرأة والوطن
"آخذِة كسرة" ليس مجرد تجربة مسرحية، بل هو شهادةٌ على قدرةِ الفنّ على تحويلِ الهزائمِ إلى انتصارات. ندى بو فرحات لم تخرج من الحفرة بعد، لكنها حوّلتها إلى منبرٍ يُسمع منه صوتُ المرأة، صوتُ الإنسان العادي الذي يرفضُ أن يكون ضحية.
-
ندى بو فرحات في عرض "آخِذة كَسرة"
بين عكّازين وكرسيٍّ متحرّك، تشقُّ ندى بو فرحات طريقها على خشبة مسرح وكأنها تمشي على حافةِ حفرةٍ أخرى. هذه المرة، حفرةٌ من ضوء وكلمات، تليق بممثلة حوّلت سقوطها في "ريغار" في محلة مار مخايل وكسور أصابع قدمها اليسرى، إلى استعارة وجودية عن سقوطِ وطنٍ بأكمله، مغتنمةً فترة نقاهتها وتشافيها، لكتابة نص يمزج الشخصي بالعام والفردي بالجماعي، ويحكي وجع المواطن والوطن في آن.
في هذا الفضاء الواقعي بين الستاند أب الكوميدي وجدية المونودراما، تنسج الفنانة حكايتها التي تبدأ من القدم المكسورة ولا تنتهي عند أيٍّ من كسورِ لبنان، تروي كسورها الشخصية لتلامس من خلالها كسور المتفرجين جميعاً.
يجيد المخرج إيلي كمال، شريكها الزوجي والمسرحي، في تحويل أدواتِ العلاجِ إلى رموزٍ جمالية، فالكرسي المتحرك لم يعد مجرد دعمٍ للجسد، بل أصبح منصةً تتحرك بين الماضي والحاضر، بين الذاتي والجماعي. والعكازات تتحول إلى جسورٍ تربط بين تجربةِ الفردِ ومعاناةِ المجتمع. هذه الرؤية الإخراجية تثبت أن الفنَّ الحقيقيَّ قادرٌ على تحويل أدواتِ الألمِ إلى أدواتِ خلاص.
جسد الأنثى ووطن الانكسارات
بتلقائية الفنانة المخضرمة، تنتقل بو فرحات من حكاية الحفرة إلى حفرة الجسد الأنثويّ نفسه. تتحدث عن "سن اليأس" بالصدقِ نفسه الذي تتحدث به عن انهيار البنى التحتية. هنا يلتقي الخاص بالعام، الشخصي بالوطني، في نسيجٍ سردي متماسك. الجسد الأنثويُّ يتحول إلى مرآة تعكس تحولاتِ الجسدِ الوطني، كلاهما يُهمل، كلاهما يُنسى، وكلاهما يصارع من أجل البقاء.
ببراعة فنية لافتة، تنسج بو فرحات خيوطاً خفية بين الانكسار الشخصي والانهيار الوطني، فالكسر في قدمها من سقوط في الريغار لا يختلف في جوهره عن انهيار البنى التحتية لوطنٍ فيه مَن يسرق أغطية الريغارات كي يبيعها في سوق الحديد، وفيه مَن يسرق أموال المواطنين المودعة في المصارف ولا يتورع عن بيع الوطن نفسه، وكلا الجسدين - جسد المرأة وجسد الأمة - يعانيان من إعاقة مؤلمة.
كما تتحول معاناة العلاج والشفاء إلى مرآة تعكس أزمات المستشفيات والخدمات الصحية، في تشابه مأساوي يجعل من الألم الفردي تعبيراً عن معاناة جماعية. حتى العكاز الذي يدعم الجسد المكسور يصبح استعارة مؤثرة عن التماسك الاجتماعي الهش الذي يحاول إبقاء الوطن واقفاً على قدميه.
ضحكٌ على حافة الهاوية
ما يميز العمل هو القدرة على تحويل المأساةِ إلى نكتة، والوجع إلى ضحكة. لكنها ضحكة تعلق في الحلق، ضحكة تشبه البكاء. الستاند أب الكوميدي هنا ليس هروباً من الواقع، بل هو وسيلة مقاومة أكثر إيلاماً من الصراخ. بتلقائية وحضور مميز، تدخل ندى بو فرحات في حوار مع الجمهور وكأنما تجلسُ في صالونِ منزلها، تروي عن زوجها، عن أولادها، عن حياتها، عن بلدها.
وفي الخلفية، يظل سؤال المستقبل المشترك يطنّ مثل وساوس مخيفة: هل يمكن التعافي من كل هذه الكسور؟ أم أننا أمام إعاقة دائمة تهدد بابتلاع أحلام الجسد والوطن معاً؟ لا تروي ندى حكايتها فقط، بل تفتحُ أبواب الذاكرة الجمعية على مصاريعها. تذكرُ تفجيرَ مرفأ بيروت وقصفَ الضاحية الجنوبية لبيروت، لا كأحداث منفصلة، بل كفصول من الرواية نفسها التي تبدأ بحفرة في شارع مار مخايل. الحفرة تصبح رمزاً جامعاً لكلّ الانهيارات، والقدم المكسورة تتحول إلى استعارة عن إعاقة وطن بأكمله.
"آخذِة كسرة" ليس مجرد تجربة مسرحية، بل هو شهادةٌ على قدرةِ الفنّ على تحويلِ الهزائمِ إلى انتصارات. ندى بو فرحات لم تخرج من الحفرة بعد، لكنها حوّلتها إلى منبرٍ يُسمع منه صوتُ المرأة، صوتُ الإنسان العادي الذي يرفضُ أن يكون ضحية.
في الخلاصة، تثبت ندى بو فرحات أن الفنَّ قد يكون أجمل إجابة عن قبح الواقع، وأن الضحك في وجه الألم أشبه برقص على حافة الهاوية.
(*) "آخذة كسرة" قُدِّمت على مسرحي "مونو" في الأشرفية و"لاسيتيه" في جونية، وتُقدَّم في 4 عروض إضافية في كانون الأول/ديسمبر الجاري على خشبة مسرح "المدينة" في الحمرا/بيروت

