"أخبار نصف جيدة" هي رواية غزة ومقاومتها للاحتلال

رواية "أخبار نصف جيدة" للكاتب الفلسطيني المتوكل طه، رواية تقودها تقنية تيار الوعي، وعوالم المجاز لأن ما يفعله أهل غزة للثبات والبقاء والحضور فاق ما عرفته عوالم الخيال.

  • رواية
    رواية "أخبار نصف جيدة"؟ لا شيء.. يتقدم الوعي!

أجل،

إنني أخرج رأسي من رواية الكاتب الفلسطيني المتوكل طه "أخبار نصف جيدة"  بصعوبة بالغة، أخرجه مدمى، يشيل به طنين حشرات لم أعرفها، ولم أسمع بها من قبل، وأتودد إلى هواء نقي لا رائحة بارود فيه، فتفتك بي أسئلة ملعونة، أراه مثل قرص عسل النحل مثقّباً، لكن لا عسل فيه، ولا رهجة، فكل الثقوب مملوءة بالحيرة المطلقة.

  أجل، هذه الرواية "أخبار نصف جيدة" تكتب الحدث في غزة، في سطر طويل عريض، عبر حوالى 192 صفحة من الحجم الوسط، وهي صادرة عن دار طباق للنشر في مدينة رام الله للعام 2025، وهي مغموسة بدماء الناس، ورحيلهم، وأخبارهم، ومروياتهم، وقصصهم، وحكاياتهم، وأحزانهم، ورجاءاتهم، وتشوفاتهم، وانشدادهم إلى الأرض/ المكان، وإلى التاريخ/ المعاني، وإلى ذواكرهم/ أناشيد العافية الوطنية وقت انهمار العتمة الكثيفة المتشظية.

  الرواية، وحين يشخص القارئ مكانها، هي رواية غزة، من بيت لاهيا، وبيت حانون، ومخيم جباليا، والعطاطرة في شمال القطاع إلى رفح، إلى آخر حبة رمل فلسطينية تتقاسم أنفاس الهواء في سيناء المصرية جنوباً، وعلى الرغم من أنّ الأحداث والحادثات تضيق ساحة المكان، بسبب الحرب، إلا أنّ المكان يتمدد ويتطاول، فيصير أوسع من الجغرافية المقاسة بالأمتار، يصير بوسع الحكايات والأخبار وأكثر، وتصير مجازاً فيأتي بالأمكنة الفلسطينية (نابلس، جنين، قلقيلية، طولكرم، رام الله، القدس، بيت لحم، أريحا، الخليل) قرى ومدناً ومخيمات لترى حرائق المكان الغزي الناشبة في كل شيء، من البيوت إلى الأشجار، إلى التراب، إلى الدروب، إلى المقابر، فالمكان الغزي، وإن كان في الواقع ضيق على أهله، فهو رحب، وقابل للتمدد والاستطالة كيما يوازي امتدادات أفعال أهل غزة وحكاياتهم الدائرة حول الصبر، والثبات والمواجهة،والآبدات من القناعات /العقائد؛ إنه مكان لا يشبه الحرب الهائجة مثل الريح التي فُرضت عليه، وألوانه لا تشبه لون الرماد الذي كسا كل شيء، وألفته لا تشبه غربة الحرب ووحشيته الراعبة، وأسئلته مختلفة إلى حد التناقض والهيمنة مع أسئلة الحرب، أما الحدث الذي يشيل به المكان فهو الوحشية التي لم يعرفها عالم البشر من قبل، فالبيوت، فجأة، تهبط في الليل والنهار فوق أهلها، تأخذهم جميعاً في إطباقة واحدة، ولا تتيح لأحد منهم أن يتألم أو يصرخ، أو ينادي، أو يسأل، أو يلتفت، أو يكمل كلامه، أو يبتلع لقمته، أو ينهي دخينته، أو حلمه؛ والمدارس،والمشافي، والمراكز، والحدائق، والأرصفة، واسطبلات الخيول، والظلال الواهية لبيت مهدوم أو شجرة أخذت نصفها قنبلة،.. صارت كلها معنى من معاني الإيواء، والناس فيها يعرفون أنهم سيقتلون، لأنهم مستهدفون، ومع ذلك يقولون: الموت مع الناس (وناس)! المكان الغزي، رغم حمولته الباهظة من الركام، والموت، والدماء، والأنات، وتعدد الضربات، وكثرة المحو، وشراسة النيران.. يظل في رواية "أخبار نصف جيدة" حياً، لا يخلو من الحنان، والترحيب، والابتسام في وجوه المشردين والمطرودين قسراً من مكان إلى آخر، يظل مكاناً له ألفته، وما بقي فيه من البيوت والأشجار، والأرصفة، والأسوار، جميعها لا تخفي ظلالها، وإن تقاصرت أو تناقضت أو امتلأت بالرماد والغبار والموحشات ، مكان سواء أكان تلاً، أم وادياً، أم شاطئاً، أم دغلة أشجار أم كثبان رمل.. هو مكان مألوف يتحدث مع الناس، والناس يقصون عليه حكاياتهم، وأخبار الفقد، ومطولات الحزن، وأحلامهم التي ما بدلوها أو غيروها، أو حيّدوها، ورغم كثرة المفقودات، والفقد، والعبوس، فهو مكان لا يخلو من الطراوة، والوداعة والمؤانسة، ولا سيما أنه غدا معروفاً بعد تكاثر تردد الناس إليه كما لو أنه غدير ماء، دروب كثيرة، بادية ومضمرة، معروفة ومجهولة أحاطت بالأمكنة التي عمها الناس (المساجد، الكنائس،المشافي، الحدائق، الأرصفة، الخيام)، وهو مكان رغم فقره الشديد، وأحزانه العامة، يلتم أهله وسكانه فيه على الحكاية الفلسطينية، على سردية البقاء ومراوغة الحرب للافتكاك من سطوتها وشروطها وممكناته الظالمة.

  أما الزمن في الرواية، فهو زمن عرفه أهل غزة، حتى صار ولداً من أولاد البيوت، ولكنه في هذه المرة، أكثر وضوحاً وصلابة وثباتاً لأن أحزانه ولود ومتكاثرات صباح مساء، ولأن أخباره عطشى لكل أليف ومؤنس؛ فالزمن زمن خراب غير مسبوق، وزمن تدمير لا صورة قبيحة له من قبل على هذا النحو، وزمن فقد تعاظم حتى طال النباتات والتراب والهدوء والهواء ورغيف الخبز وجرعة الماء وحبة الدواء؛ زمن يجول في دورة متغيرات لم يعرفها الناس والمكان والتصورات من قبل، فالمدارس غدت مجموعة طلاب يقتعدون خيمة أو رصيفاً، طالب دكتوراه يناقش رسالته عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلال أيام لأنّ شبكة التواصل تأتي، ولا تأتي، وحشود من الطوابير على الماء، وأمام الأفران، والمشافي، والمؤسسات الخيرية، وأسئلة حيرى تبحث عن الأمان مثل طيور الليل وهي تواجه الثعابين.

  أما الناس في الرواية "أخبار نصف جيدة" فهم أبطالها، كل صاحب خبر، أو قصة، أو حكاية، أو فعل، أو مروية، هو بطل من أبطال الرواية، البيوت المهدومة، والمنتظرة للهدم هي من أبطال الرواية لأنها تتكلم وتقص، وتروي بأصوات عالية جداً، والشهداء هم أبطال الرواية، لأنهم وإن رحلوا تركوا سيرهم حديثاً للناس، والأسرى، هم أبطال الرواية أيضاً، لأنهم وإن غابوا، عادوا بأجساد ناحلة، وعيون يقظى، وذواكر حية ليقولوا تحملنا كل شيء من أجل "العشق الفلسطيني"، لقد عادوا، رغم ضعف الأجساد وكثرة الجروح، عشاقاً يضيئون الخيام؛ وظلال أشجار الكينا والجميز، وأرصفة الليل المضاء بشموع صنعتها أيدي أطفالهم، ومعلبات الفول منتهية الصلاحية هي كذلك أبطال الرواية، لأن الأمهات قلن لأطفالهن المرددين تذمراً  (فول، فول)، الفول لا تنتهي صلاحيته يما؛ والطائرات الورقية التي صنعها الأطفال من مناشير الطائرات الإسرائيلية التي تطلب من الأهالي إخلاء الأمكنة، والذهاب إلى أمكنة أخرى، هي من أبطال الرواية، لأن بعضها حين طار، طار وحلق في الأعالي، ولم يعد إلى الأرض؛والحمامات الملأى بالقاذورات والفضلات، بسبب غياب الماء، غدت من أبطال الرواية، لأنها باتت فسحة لتوزيع الأخبار وتعددها في أوقات الانتظار؛ وقدور الشوربة الصارخة بأن لا حطب ولا قطع بلاستيك ولا ورق جرائد، ولا كتب جامعية تتوافر عليه من أجل إنضاج الشوربة، باتت هي من أبطال الرواية أيضاً، وقد اجتمعت حولها الصحون والطناجر والدلاء والصواني؛ والأطفال، والحكايات، والأسئلة، ولا فرح للأطفال وقتئذ إلا حين تنجو القدور من قصف الطائرات، وعودتهم بشيء يرتج داخل الأواني والمواعين.

  رواية، لا تنفصل عن طبيعة الحرب، فهي رواية  أخبار حقاً، مثلما هي الحرب رواية أخبار وأرقام، وتعداد للجنازات، والطرق التي أغلقت، والدروب التي امحت، والبيوت التي ما عادت بيوتاً، والحقول التي ما عادت تتباهى بألوانها وتنوعها، والمشافي التي خلت من كل عافية ورجاء، إنها رواية تشبه الحرب في مكاثرة الأحزان والأهوال والخوف والكوارث والمفاجآت والتحولات، ومع ذلك يظل الموت هو عنوانها العريض، والمناداة بوقف الحرب هي المناداة الأعم، والفقد هو لسان حال الناس، فلا شيء حاضر أو موجود أو متوقع.. سوى الفقد.

  وهي رواية ثنائيات عطشى لمحو حد من حدي المعادلة القائمة، الخوف والأمن، والموت والحياة، والسجن والحرية، والوطن والاحتلال، واليأس والأمل، والموات والنشور، والنصر والهزيمة.

  رواية "أخبار نصف جيدة" للكاتب الفلسطيني المتوكل طه، رواية تقودها تقنية تيار الوعي، وعوالم المجاز لأن ما يفعله أهل غزة للثبات والبقاء والحضور فاق ما عرفته عوالم الخيال، لأن ما ألقي عليهم من حديد ... لم تعرفه حروب البشريةالسابقة، وما أبداه الإسرائيليوين من أحقاد لم تعرفها غابات الوحوش، ولا الدينصورات، ولا أسماك القرش في البحار والمحيطات، أحقاد سود عمياء، حامضية، شائهة، أفعالها ناقصة، معيبة، يلفها التوحش والعار والبربرية.

  تقنية تيار الوعي في الرواية جلية، وخادمة للسرد، وذات حيوية تساهر الذات الغزية المدافعة عن البيت، والأرض، والطريق، والعقل، والأخلاق، والقيم النورانية، والأحلام؛ فأبطال الأخبار والحكايات والمرويات هم الناس، بعيداً عن النمطية، والفئات،والشرائح الاجتماعية، والمسؤوليات.. لأن الوعي الوطني عم الجميع، وهو ثقافة من يبيع في السوق الشعبية، ومن يدرس الكيمياء في الجامعة، أو من يصيد السمك على شط غزة ليلاً لا رفيق له سوى قنديل يغطيه بقماش، أو الأسير الذي يعذب في (سديه تيمان).

  صحيح أنّ أبطال الرواية كثر ومتعددون بأصواتهم واختلافاتهم، لكن الوعي هو رفيقهم الأوفر حضوراً حتى في المقابر، وفي المشافي الخالية من حبة دواء أو من قطعة لاصق طبي، وقرب قدور الشوربة التي تنتظر قدوم كيس عدس أو معكرونة، أو عربة كارو تحمل شيئاً من الورق أو الحطب أو الشوك، أو أغصان الأشجار أو الكتب المطبوعة لابن خلدون، والمتنبي، وغوته، وتشيخوف، أو شكسبير، الوعي في الرواية هو من يماشيها كلمة كلمة، ليصير سطراً جليلاً من الاستهلال إلى الخاتمة.

  رواية تحكي، وتصوّر، وتستبطن، وتلتفت، وتنقب، وتساهر، وتسمع، وتتقصى كل شيء تراه أو تسمع عنه... لتجهر بحزن أهل غزة المحمول على تاريخ سار، ومجد لا يغيب، وثبات مشتق من ديمومة العشب والشجر والتراب والبحار، ومستل، بهدوء رزين، من كتاب الفعل والكرامة والكبرياء.

اخترنا لك