سوريا في المحور الأميركي... المعاني والاحتمالات

أن تكون سوريا حليفةً لأميركا يعني، عملياً، أن تصبح جزءاً من مشروع إعادة رسم النظام الأمني في الشرق الأوسط، لا مجرّد ساحة من ساحات صراعه.

  • سوريا.. من حرب داخلية طاحنة إلى نافذة انتقال جديدة.
    سوريا.. من حرب داخلية طاحنة إلى نافذة انتقال جديدة.

تعيش سوريا والشرق الأوسط لحظة تحوّل مفصلية يمكن وصفها، بلا مبالغة، بأنها مرحلة إعادة تركيب خريطة النفوذ على الأرض السورية. زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى واشنطن، ولقاؤه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ثم إعلانه أنّ "سوريا أصبحت حليفةً للولايات المتحدة"، ليست خطوة غير بروتوكولية في سياق انفتاح دبلوماسي عابر، هي تتويج لمسار سريع ومكثّف من التبدّلات الإقليمية والدولية، تشترك فيه أنقرة و"تل أبيب" وواشنطن، ويتجاوز حدود الداخل السوري إلى إعادة صوغ توازنات الشرق الأوسط برمّته.

المشهد لا يقتصر على تبدّل سلطة في دمشق، بل على إعادة ترتيب منظومة القوى عبر مفاتيح أمنية وعسكرية واستراتيجية جديدة، تجري هندستها فوق الأنقاض الثقيلة لحربٍ امتدّت لأكثر من عقد.

من حرب داخلية طاحنة إلى نافذة انتقال جديدة

على مدى أكثر من عشر سنوات، تحوّلت سوريا إلى مسرح لحرب داخلية مركّبة، تداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي. كانت اليد العليا، في معظم مراحل الصراع، لإيران وروسيا اللتين وفّرتا مظلة دعم سياسية وعسكرية للدولة التي كان يقودها الرئيس السابق بشار الأسد، من دون أن يفضي ذلك إلى استقرار حقيقي أو تسوية نهائية؛ فقد بقيت البلاد في حالة "لا حرب ولا سلم"، تتنازعها القوى الضاغطة على المقاومة بالعقوبات، والانهيار الاقتصادي، والتشظّي المجتمعي، ومحاولات الدفاع والحفاظ على العناوين العريضة أولاً.

سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، وتسلّم أحمد الشرع قيادة مرحلة انتقالية، فتحا نافذة جديدة، لكنها مفتوحة على احتمالات كثيرة غير مضمونة النتائج. زيارة الشرع إلى الأمم المتحدة في نيويورك، ثم إلى البيت الأبيض في واشنطن، ووضعه في صفّ الرؤساء والحكّام "المعترَف بهم" دولياً، شكّلت لحظة رمزية مهمّة: عقارب الساعة الأميركية تجاه دمشق أعيد ضبطها، والملف السوري الذي تعاملت معه واشنطن طوال عقود بوصفه ملفّاً أمنياً/عقابياً أُعيد فتحه على مسار مغاير.

المجلس الأطلسي للدراسات وصف نتائج زيارة الشرع بأنها ناجحة لجهة أثرها المباشر في تخفيف العقوبات الأميركية على سوريا. بالفعل، أعقب الزيارة تحرّك تشريعي في الكونغرس لبحث تعديل أو رفع حزم عقابية مفروضة بموجب عدّة قوانين، من أبرزها قانون "قيصر". بعبارة أخرى، بدأت واشنطن تفكّك أدوات الضغط التي راكمتها على دمشق في زمن الأسد، تمهيداً لإعادة إدماج سوريا في ترتيبات أمنية أوسع، شرط أن تكون تحت سقف النفوذ الأميركي.

لكنّ السؤال الجوهري هنا: هل يكفي تغيير رأس النظام، وإرادة الشرع وحدها، لتبرير هذا التحوّل الأميركي السريع؟ أم أنّ هناك لاعباً آخر يقف خلف الستار؟

أنقرة كلاعب مفصلي في إعادة تدوير "سوريا الجديدة"

خلف الحركة الأميركية المتسارعة، تظهر تركيا باعتبارها أحد أهمّ المفاتيح. خلال السنوات الماضية، اكتشفت أنقرة، عملياً، أنّ الانهيار المتواصل في سوريا يخلق خللاً أمنياً مباشراً على حدودها، كما يفتح في الوقت نفسه فرصة كبرى لإعادة تكوين الحيّز الحيوي التركي جنوباً، في سياق رؤية إقليمية أعاد الرئيس رجب طيب إردوغان إحياءها، تتقاطع فيها هواجس الأمن القومي مع استعادة نفوذٍ تاريخي يعود إلى زمن السلطنة العثمانية.

الفراغ الذي خلّفه سقوط نظام الأسد يُخشى أن يتحوّل، من وجهة النظر التركية، إلى ساحة تمدّد لثلاث قوى رئيسية:

1.   الكرد، بما يحمله ذلك من حساسية مزمنة لأنقرة.

2.   محور المقاومة بقواه المختلفة، الذين بنوا حضوراً واسعاً خلال السنوات الماضية.

3.   تشغيلات خارجية أخرى، قد تعيد تركيب الساحة السورية على حساب المصالح التركية.

في هذا السياق، ربط باحثون كثر بين التحوّل الأميركي في سوريا، وبين طلب تركي واضح لترتيب جديد مع واشنطن يشمل الملف السوري، بحيث تُمنَح أنقرة دوراً مضموناً في هندسة "سوريا الجديدة" ويُحافَظ في الوقت نفسه على عدم الانزلاق إلى صدام مباشر مع "إسرائيل" أو إيران.

تركيا نفسها ساهمت، وفق ما أكّده دونالد ترامب أكثر من مرّة، في إسقاط نظام الأسد بصورة حاسمة، وهو ينسب الفضل في ذلك إلى إردوغان. وعلى الرغم من تحفّظ الأخير عن الخوض في التفاصيل علناً، فإنّ الدور التركي بات واضحاً: أنقرة ليست مجرّد طرف مجاور، بل شريك أساسي في كتابة الفصل الجديد من "القضية السورية".

معهد كارنيغي يذهب إلى حدّ اعتبار أنّ "سوريا ستكون الاختبار الأكبر لقدرة الولايات المتحدة على هندسة ترتيب ائتلافي بين تركيا وإسرائيل". هذا التوصيف يكشف عمق الرهان الأميركي على تحويل الصراع السوري من ساحة تنازع مفتوحة إلى مساحة تفاهم مدروس بين حليفين إقليميين لواشنطن، يتنافسان ويتصادمان، لكن تحت سقف الضبط الأميركي.

التنافس التركي – الإسرائيلي على سوريا… وحدود الدور الأميركي

لفهم المعنى الأعمق لتحوّل سوريا إلى "حليف لأميركا"، لا يمكن تجاهل التنافس الحادّ بين "إسرائيل" وتركيا على الجغرافيا السورية. لكلّ منهما رؤية مختلفة لمستقبل سوريا، ولأولوياته الأمنية والديموغرافية، ولطبيعة الكيانات التي يجب أن تتشكّل على الأرض.

من جهة، ترى "تل أبيب" أنّ توسّع النفوذ التركي في شمال سوريا وغربها يمثّل خطراً استراتيجياً طويل الأمد، لأنه قد يرسّخ حضوراً سياسياً وعسكرياً لتركيا في فضاءٍ تعتبره "إسرائيل" جزءاً من محيطها الحيوي. ومن جهة أخرى، تنظر أنقرة بعين القلق إلى النفوذ العسكري الإسرائيلي في الجنوب السوري، وإلى إمكانية أن يتحوّل إلى رافعة لتثبيت نموذج "إسرائيل الكبرى" عبر تفخيخ البنية السورية الجديدة وتفكيك البلاد إلى كيانات متنازعة، تفيض مشكلاتها الأمنية والديموغرافية على الحدود التركية.

المسألة الكردية ليست وحدها مصدر القلق. ثمّة هواجس إضافية تتعلّق بإمكان نشوء "دويلات أقليات"، بينها كيانٌ علوي محتمل يمتد على ضفتي الحدود السورية ـــــ التركية، ما قد ينعكس سلباً على وحدة المجتمع التركي. يُضاف إلى ذلك أنّ الكتلة الديموغرافية السنية في سوريا ليست في اليد التركية حصراً؛ فالعرب منافسون طبيعيون على التأثير فيها، والكرد خصم تاريخي مزمن، والدروز في الجنوب طرف تحاول "إسرائيل" تقديم نفسها حاميةً له.

أيّ تفكيكٍ لسوريا إلى كيانات طائفية أو أقاليم حكم ذاتي يعني، من منظور الأمن القومي التركي، تهديداً دائماً، لا مجرّد خيار إداري داخلي في بلد جار.

من جانبها، تستخدم "إسرائيل" مروحة من الأدوات:

اعتداءات جوية متكرّرة، توغّلات محدودة في الجنوب السوري، ونقاط تمركز في الجولان والمناطق المحيطة، مع خطابٍ يركّز على "حماية الأقليات". الهدف هو تكريس أمر واقع يصعب التراجع عنه لاحقاً، بحيث تأتي التسويات السياسية لتُضفي الشرعية على خرائط نفوذ تكون قد رُسمت مسبقاً على الأرض.

في مواجهة ذلك، تحاول تركيا تكريس وجود عسكري في الشمال ومناطق إدلب ومحيطها، تحت عنوان حماية الحلفاء ومنع التقسيم. فوق هذه الخلفيّة المتناقضة بين أنقرة و"تل أبيب"، تبرز واشنطن كوسيطٍ لا يريد أن تتحوّل سوريا إلى ساحة مواجهة مباشرة بين حليفَيْن رئيسيين له في المنطقة.

الولايات المتحدة معنيّة، قبل كلّ شيء، بمنع انهيار العلاقة بين تركيا و"إسرائيل"، لأنّ أيّ صدام مفتوح بينهما على الأرض السورية سيحوّلها من "ضابط إيقاع" إلى طرف متورّط في نزاع يصعب التحكّم بتداعياته. لذلك، نراها تدفع باتجاه ترتيبات من نوع "آلية تجنّب الاشتباك" بين أنقرة و"تل أبيب"، كما ظهر في المحادثات التقنية التي أعلنت عنها تركيا مع "إسرائيل" في نيسان/أبريل 2025.

سوريا في المحور الآخر وقاعدة مراقبة أميركية في دمشق

دخول سوريا في خانة "الحليف الأميركي" يمنح واشنطن فرصة لإعادة تعريف وظيفة البلاد ضمن استراتيجيتها الأوسع في الشرق الأوسط.
العنوان المعلن هو "مكافحة الإرهاب". في مرحلة ما بعد الحرب، تبنّت الإدارة الأميركية هدفاً يتمثّل في تحويل سوريا من ميدان حرب إلى قطعة ضمن محور أمني مضادّ لما تصفه بالإرهاب، مع تركيز خاصّ على حرس الثورة الإيراني وحلفائه، وفي مقدّمتهم حزب الله، من جهة، وعلى تنظيم "داعش" وسائر التنظيمات الجهادية من جهة أخرى، وهم أيضاً على نقيض مع قوى المقاومة.

دمشق الجديدة، بقيادة أحمد الشرع، تبدو مستعدّة لتقديم شوط واضح في هذا الاتجاه، عبر إظهار نهج سياسي وأمني مغاير للمرحلة السابقة: الحدّ من النفوذ الإيراني العسكري والأمني، وفكّ الاشتباك مع شبكات الميليشيات العابرة للحدود، والدخول في "عرض أممي ـــــ أميركي" تُقدَّم فيه سوريا بوصفها شريكاً في حرب الإرهاب، لا منصّة له، بحسب المنظور الأميركي.

في هذا الإطار، تتكثّف التسريبات حول نيّة واشنطن إنشاء قاعدة عسكرية قرب دمشق أو ضمن نطاق سيطرة الحكومة الجديدة، تتولّى مراقبة تنفيذ الاتفاقات الأمنية، والإشراف على انتشار القوات التي ستشارك في ترتيبات الانتقال الأمني. هذه القاعدة، في حال قيامها، لا تعني فقط منع تجدّد "داعش" والتنظيمات المشابهة، بل تشكّل أيضاً أداة رقابة على التمركزين الروسي والإيراني، وضمانة بأنّ النظام الجديد لن يعود بسهولة إلى أحضان المحور السابق.

من منظور "إسرائيل"، يمكن لوجود قاعدة أميركية قرب دمشق أن يمثّل ضمانة استراتيجية:

سوريا لن تكون في معسكرٍ معادٍ بشكل مباشر، بل في أسوأ الأحوال "محايدة" ومكبّلة باتفاق أمني صارم. حينها تستطيع "تل أبيب" تخفيف وتيرة ضرباتها، والانتقال أكثر إلى إدارة أمنها عبر التفاهمات لا عبر الغارات المتواصلة.

من منظور تركيا، حضور أميركي مباشر في دمشق يعني أنّ أنقرة ليست خارج اللعبة؛ بل يمكن أن تنسّق مع واشنطن ودمشق معاً، من دون الانجرار إلى احتكاك مباشر مع "إسرائيل". هذا الترتيب، إذا ما تمّ تثبيته، يضع سوريا في قلب هندسة جديدة للأمن الإقليمي، يكون للولايات المتحدة فيها موقع الحكم بين الحليفين المتنافسين: تركيا و"إسرائيل".

تحالفٌ جديد أم إعادة تموضع في النظام الإقليمي؟

حين أعلن أحمد الشرع أنّ "سوريا أصبحت حليفةً للولايات المتحدة"، لم يكن يتحدّث فقط عن تبدّل لغة في البيانات الرسمية. خلف هذا الإعلان بُعدٌ أعمق يتصل بإعادة تركيب اصطفافات المنطقة:

من جهة، تسوية تركية ـــــ أميركية تُسهِّل انزياح دمشق من محورٍ تقوده طهران، وتحضر موسكو بصورة متناغمة معه، إلى إطار أمني يطغى عليه النفوذ الأميركي، مع احتفاظ أنقرة بدور محوري في الشمال السوري وفي ملف اللاجئين.
من جهة ثانية، استكمال لتفكيك الحلف القديم الذي جمع سوريا بإيران وروسيا، وهو حلف تلقّى ضربة قوية فعلياً مع سقوط الأسد، ويتجه اليوم إلى إعادة توزيع للأدوار، تقلّص فيه موسكو حضورها النسبي، فيما يُدفَع النفوذ الإيراني إلى الخلف أو يُعاد حبسه ضمن حدود أقلّ تأثيراً.

ومن جهة ثالثة، تمهيد لدمج سوريا في نظام أمن إقليمي جديد، تُربَط فيه شرعية النظام الجديد بقدرته على ضبط الحدود، تقليص دور القوى المسلحة غير الحكومية، وتكييف موقع دمشق مع متطلّبات الترتيب الأميركي ـــــ التركي ـــــ الإسرائيلي.

في هذا السياق، يصبح التحالف بين سوريا وأميركا أقلّ شبهاً بتحالفات الحرب الباردة، وأكثر قرباً من كونه عقداً أمنياً مشروطاً:

شرعيّة للنظام الجديد، وتخفيف للعقوبات، وفتح نسبي للأبواب الاقتصادية والاستثمارية، في مقابل التزامات أمنية صلبة تتعلّق بالحدّ من النفوذ الإيراني، وضبط الحدود مع لبنان والعراق والجولان، ومنع تحويل سوريا مجدّداً إلى منصّة صاروخية أو ممرّ استراتيجي لقوى المقاومة ضدّ "إسرائيل".

بين إعادة البناء وإعادة التفجير

لا يعني تحوّل سوريا إلى "حليف لأميركا" أنّ طريق الاستقرار باتت سالكة.

الاحتمالات تبقى مفتوحة على ثلاثة مسارات رئيسية:

1.   ترسيخ دولة مركزية ضمن إطار أميركي ـــــ تركي:

بما يتيح ضبط الميليشيات، إعادة بناء المؤسسات، وإعادة إدماج سوريا تدريجياً في الاقتصاد الإقليمي، مع تقليص دور إيران وحلفائها.

2.   انزلاق إلى صدام تركي ـــــ إسرائيلي مفتوح على الأرض السورية:

في حال فشل الترتيب الوسيط وفشلت واشنطن في ضبط تنافس حليفَيْها، ما يحوّل سوريا مجدّداً إلى ساحة تصفية حسابات كبرى، ويُضعف النظام الانتقالي، ويفتح الباب لعودة الفوضى.

3.   تفكّك داخلي وفشل في بناء الدولة الجديدة:

إذا عجز الشرع عن تثبيت شرعية حقيقية في الداخل، أو فشلت المعادلة التركية ـــــ الأميركية في إنتاج استقرار مستدام، قد يتوسّع نفوذ القوى المعادية لواشنطن، وتستأنف "إسرائيل" وتركيا سباق النفوذ العسكري المباشر.

في جميع الأحوال، ما يجري في سوريا اليوم إعادة تشكيل لدور بلدٍ كان لعقود أحد مفاتيح توازن القوى في المشرق العربي. فأن تكون سوريا حليفةً لأميركا يعني، عملياً، أن تصبح جزءاً من مشروع إعادة رسم النظام الأمني في الشرق الأوسط، لا مجرّد ساحة من ساحات صراعه، لكن مع فاتورةٍ قد تكون باهظة على سيادتها.

لكن ما إذا كان هذا التحوّل سيفضي إلى استقرارٍ قابل للحياة، أم إلى جولة جديدة من الحروب، فذلك رهنٌ بمدى قدرة النظام الجديد على السيطرة الفعليّة على الأرض، وبمدى قدرة واشنطن وأنقرة و"تل أبيب" على تحويل هذه الترتيبات من أوراق تفاوض إلى بنيةٍ دائمة للأمن الإقليمي.