"إنتاج محلّي" ضد "تسليع" الفنّ والإنسان

رغم ضغوط السوق ومنطق الاستهلاك، تؤكد المسرحية أولوية القيمة الجوهرية للفن بوصفه فعلاً إنسانياً ذا غاية إنسانية قبل أي غاية أخرى.

  • يوسف الخال وعمار شلق في لقطة من مسرحية
    يوسف الخال وعمار شلق في لقطة من مسرحية "إنتاج محلّي"

أشرت في مقالة سابقة إلى انتعاش الحركة المسرحية في بيروت، حيث لا يمر أسبوع من دون الإعلان عن عرض مسرحي جديد، أو إعادة عرض سابق.

وكما أسلفت فإن ثمة علاقة جدلية بين تأزم الوضع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وإقبال الناس على المسرح على العكس مما هو متوقع في مثل هذه الظروف. وثمة مفارقة لافتة أن جلّ الإنتاج المسرحي اللبناني كان في أزمنة الحروب والأزمات.

بلا طول سيرة، آخر العروض التي تسنى لي مشاهدتها هو إنتاج محلّي. لا، ليس المقصود فقط أنه أُنتِج محلياً، بل عنوانه "إنتاج محلّي"، ولعل العنوان هنا يشير إلى بعض ما هو مكتوب، وإن كان الشائع أن المكتوب لا يُقرأ من عنوانه. وأولى مفاجآت العرض، بالنسبة لي على الأقل، اكتشاف يوسف الخال مؤلفاً موسيقياً، ومشاهدة عمار شلق على الخشبة بعد أن شاهدناه طويلاً على الشاشة. 

الواقع، يُحسَب لممثلين نجمين خوض تجربة قد يحجم كثيرون عنها لأنها تنتقد ذهنية المنتجين اللاهثين فقط وراء الربح السريع، وسياسة منصات العرض الرقمية التي لا هم لها إلا "الرايتنغ"(نِسب المشاهَدة) والمردود الإعلاني، بمعنى آخر تتنقد وتعرّي ذهنية رأس المال الاستهلاكي الذي يخشاه معظم العاملين في قطاع صناعة الدراما الفنية على أنواعها.

وبينما تتهافت المنصات الرقمية وشركات الإنتاج على أي عمل يحقق الغاية المذكورة، تطلّ مسرحية "إنتاج محلّي" على خشبة مسرح الإليزيه في ساحة ساسين في الأشرفية (أعيد افتتاحه بعد إقفال لسنوات طويلة) كصرخة احتجاج على تسليع الفن وتسطيحه، في خطوة جريئة من الكاتب والمخرج مارك قديح وفريق العمل ككل لأنه لم يأبه بردّة فعل أصحاب شركات الإنتاج أو القيمين على المنصات، إذ تقف المسرحية عند المنعطف الذي يتحول فيه الفن من رسالة إنسانية إلى سلعة في سوق الاستهلاك. 

يقدم يوسف الخال وعمّار شلق حواراً وجودياً يكشف هذا التحول، حيث يجسدان صراعاً بين نزاهة الفنان ومنطق الصناعة البارد. يظهر يوسف الخال مرتدياً "روب منزلي" طوال العرض، في إيماءة إلى تجريد العلاقة الفنية من الزيف الاصطناعي، ما يخلق صدقاً وشفافية في التواصل مع الجمهور.

تتجه المسرحية مباشرة إلى نقد آليات السوق الفنية المعاصرة، مطلقة تساؤلات وجودية حول مصير الفنان في ظل هيمنة المنصات الرقمية. العمل يطرح بإلحاح: أيقبل الفنان أن يتحول إلى مجرد "محتوى" قابل للتسويق؟ أيرضى بأن يصبح رقماً في جداول الإحصاءات؟ هذه المواجهة المباشرة لنظام الصناعة الإبداعية تجعل من المسرحية عملاً ضرورياً في زمن يهدد فيه منطق السوق القيم الفنية الأصيلة.

رغم ضغوط السوق ومنطق الاستهلاك، تؤكد المسرحية أولوية القيمة الجوهرية للفن بوصفه فعلاً إنسانياً ذا غاية إنسانية قبل أي غاية أخرى. من خلال علاقة مباشرة مع الجمهور، تخلق العمل مساحة للصراحة والعفوية، مقدمة نموذجاً لفن يرفض الانصياع لمعايير السوق التجارية.

هذه الجرأة في إعلاء القيمة الإنسانية على القيمة السوقية تمثل انتصاراً للجوهر على الشكل، وللمعنى على المظهر.

تعيد المسرحية تعريف "الإنتاج المحلي" لا كمجرد تصنيف جغرافي، بل كموقف وجودي يرفض التبعية لأجندات خارجية، وتشير بوضوح إلى واقع البلد المنهار، والحياة اليومية تحت أزيز المسيّرات المعادية، والندبة العميقة التي تركها تفجير مرفأ بيروت، فضلاً عن نقد السلوكيات السلبية التي باتت طاغية على العلاقات بين البشر.

وهي تستحضر جملة من مقولة الكاتب الأورغوياني الحائز على جائزة نوبل، إدواردو غاليانو، "نعيش في ذروة عصر التفاهة حيث حفل الزفاف أهم من الحب، والجنازة أهم من الميت، والمعبد أهم من الله"، ليس كاقتباس مجرد، بل كتشخيص لداء استهلاكي أصبح يهدد حتى العلاقات الإنسانية والأطر الثقافية.

يتميز إخراج مارك قديح (في عودته بعد غياب 20 عاماً) في تقديم هذا الحوار الفلسفي المبسّط، مانحاً الممثلين مساحة للتواصل الحميم مع الجمهور. ورغم بعض التفاوت في الإيقاع أحياناً، إلا أن الجرأة في الطرح تغطي على أي قصور.

"إنتاج محلّي" ليس مجرد عرض مسرحي، بل بيان جمالي وأخلاقي. إنها تعيد تأكيد دور الفن كمساحة للمقاومة والمساءلة، وكممارسة تحافظ على إنسانيتها في وجه آلات التسويق والاستهلاك. إن جرأتها الحقيقية لا تكمن فقط في ما تقوله، بل في كونها نفسها مثالاً على ذلك العمل الذي يرفض أن يكون مجرد "محتوى"، مصرةً على أن تكون صوتاً يذكرنا بأن الفن الحقيقي يبدأ عندما يرفض الفنان أن يكون سلعة في سوق النخاسة الحديثة.

اخترنا لك