"اصحَ يا نجيب محفوظ".. كيف يعيش أدباء مصر شهر رمضان؟

من نجيب محفوظ إلى جمال الغيطاني وغيرهما، فإنّ لشهر رمضان حضوره المميّز. إليكم أبرز طقوس أدباء مصر خلال الشهر الكريم.

تأتي الشهور وتمرّ من دون أن يسمع أحد صوت خطوها. إلا شهر رمضان المبارك، فإنه الشهر الوحيد الذي تسبقه "زفة" كبيرة تدخل كل البيوت، حيث التحضيرات لقدومه سواء بالأطعمة أو الأعمال الروحانية المرتبطة به. أما بعضنا، فإنه علاوة على ذلك، يدشن مجموعة من الطقوس خلال الشهر الفضيل تتجدد مع كل فترة صوم. 

هكذا، لجأ أدباء إلى طقوس ما زالت محفورة في ذاكرتهم. تسرّب جزء منها إلى أعمالهم الإبداعية فيما احتفظوا بأخرى وظلوا يحكون عنها. بعض هؤلاء اقترنت ذكرياتهم مع شهر رمضان بمرحلة الطفولة، وبينهم أديب "نوبل" نجيب محفوظ، الذي عاش متعلقاً بحي الجمالية، حيث طفولته وأجمل سنوات عمره، فشهر رمضان "في تلك الأحياء الشعبية له طعم خاص، طول اليوم تجد الحي كخلية نحل من المارة والبائعين وأصحاب المحال والورش والسكان".

خلية النحل تلك، التي تتجمّع طوال النهار، كانت تختفي فجأة مع صوت مدفع الإفطار، ثم سرعان ما تتشكّل بعد أذان المغرب من أطفال الحي، الحاملين للفوانيس الجميلة، ثم متبارين بالألعاب المسلية قبل الانزواء في أركن الشارع لسرد الحكاوي الرمضانية.

لم ينس صاحب ثلاثية القاهرة المشهد الرمضاني. كما عاش حافظاً للشهر الكريم جميلاً آخر. إذ كان فرصته الوحيدة للانطلاق خارج حدود الحيّ هرباً من قبضة والده، والسهر خارج المنطقة حتى السحور.

من جملة ما يتذكّره محفوظ أيضاً صورة المسحراتي، وهو الشخص الذي توكل إليه مهمة إيقاظ الناس للسحور، حيث يمشي ليلاً في الشوارع، ينقر على طبلته، مردداً أسماء الأهالي، ولا سيما أسماء الأطفال الذين لا يبخلون عليه بالعطايا.

وقال نجيب محفوظ في حوار مع مجلة "روز اليوسف" عام 1992 متذكّراً المسحراتي: "عندما سمعته يناديني لأول مرة باسمي (إصح يا نجيب قوم واتسحر رمضان كريم)، شعرت أنني رجل كبير ولي ثقل في البيت، وظللت يومياً انتظر المسحراتي لسماع اسمي".

المسحراتي الذي تمنّى نجيب محفوظ أن يشركه في إحدى رواياته، لم تعد صورته كما كانت، ليس فقط في عصرنا الذي تغزوه كل وسائل الحداثة والتكنولوجيا، بل شكا سابقاً من غيابه شبه التام "أمام اختراق الإلكترونيات المتمثلة في التلفزيون الذي يقوم بدور المسحراتي ويحل محله". 

الغيطاني: كنت أتخيّل رمضان شيخاً مهيباً


بقي الروائي المصري الراحل جمال الغيطاني على خطى أستاذه نجيب محفوظ. فهو أيضاً حفرت ذكريات شهر رمضان في ذهنه، وحكى عن حضور طقوس هذا الشهر في ذاكرة طفولته. ومنها أنه كان ينتظر  قدوم شهر رمضان كمن ينتظر حلول ضيف عزيز، طيب الإقامة، يصحب معه كل جميل، ويقول: "تصوّرته بمخيلتي شيخاً مهيباً. كل ما يمت إليه أبيض.. ربما أكون في طفولتي المبكرة رأيت شيخاً مهيباً، جليلاً، جميلاً، مطمئناً، مهدئاً، اسمه الشيخ رمضان، ومن ملامحه تكوّن تصوّري هذا".

وضمن مجموعة من المقالات كتبها الغيطاني تحت عنوان "متتالية رمضانية"، تحدث فيها عن علاقته بالشهر الكريم، فيشير إلى إحدى معالم هذا الشهر  ومنها حلوى "الكنافة". ويذكر أنه قد يمضي عاماً كاملاً من دون أن يتذوّقها، حتى أنه لا يلحظ وجودها داخل المحلات أو خارجها طوال السنة، "لكن إذا حل الشهر الكريم فلا بد من تذوّقها مهما التزمت بأنظمة غذائية صارمة خشية زيادة الوزن".

ويضيف: "مرجعيتي في تذوّقها (الكنافة) ما كانت تعده أمي. فقد كانت ماهرة في إعدادها، ولها طريقة فريدة، ولحسن الحظ انتقلت طريقتها إلى شقيقتي.. بعد أن تعلّمتها منها، هذا المذاق يرجع إلى زمن طفولتي، من أقدم أنواع الطعام التي تحتفظ بها ذاكرتي مع الأنواع الأخرى، التي تحدد معالم ذاكرتي المذاقية، فالطعام ذاكرة".

مصطفى منير: أقرأ مقالات عبد الفتاح كيليطو وأتدبّر في القرآن

أما الروائي مصطفى منير فتحدث مع "الميادين الثقافية" عن طقوسه خلال شهر رمضان قائلاً إنه خلال فترة الصيام:  "تنشط لديّ خلايا القراءة. إذ أجدني أقرأ كل يومٍ كتاباً صغيرَ الحجم يناسب جلسة واحدة، مع الاطلاع اليومي على مَراجِع الرّواية الجديدة ومقالات من الأعمال الكاملة للأديب المغربي عبد الفتاح كيليطو، الّذي أواظب على قراءة كل ما كتب خلال العام وبالأخص في رمضان".

ويضيف صاحب "تلاوات المحو": "لا يجوز أن يمرّ الشّهر من دون تفعيل دور "التّأملات" في حياتي ككاتب بصورةٍ أعمق، حيث تسحبني مثلاً معجزة القرآن الكريم  - المعروف لدي بكتاب (قُل وقال) - إلى دوّامات التدبر والتّفكر في كل لفظةٍ، ومحاولة اكتشاف البلاغة اللّغوية الاستثنائية، وتفصيص الماهية القصصية لكل سورةٍ واستخدامات المهارة النّحوية".

أمّا بالنّسبة إلى أجواء الشّهر خلال فترة ما قبل السحور فيتحدث منير قائلاً: "أنا عاشق التّمشية اللّيلية بين روحانيات السّيدة زينب ومقاهي وسط البلد، ومشاهدة شعب القاهرة الّذي يحبها ويُشاكسها لعلها ترضى بنسمة هواء لطيفةٍ تزيد بهاء اللّحظات دلالاً، وجمال الونس بين الموجودين والاطمئنان لكثرة النّازلين، وأصوات اللّهو واصطكاك النّرد وسخرية الهازمين واستفزاز المهزومين".

ويضيف: "باختصار؛ تأسرني معالم الشّهر كله إلا المسلسلات، الّتي تحوّلت حالياً إلى استعراض رخيص من الإفيهات والأفكار المكررة والتّقليدية غير المترابطة، وعدم تقديم ما يجبرك على متابعة المسلسل أساساً، حتّى مع إعادة كتابة أعمال سابقة؛ يخرج الأمر سطحياً ويعمّق حالة الهجران والفراق بيني وبينها".

على عكس مصطفى منير، يؤكد الكاتب أحمد مجدي همام، أنه لا يكتب خلال شهر رمضان، وأن ليس لديه تفسيراً لتلك الحالة، مضيفاً: "في رمضان أجد أن مدة بقائي في البيت تطول ربما بسبب تقليص ساعات العمل، بالإضافة إلى ذلك تحتل الدراما العربية شطراً من يومي، إذ أحرص على انتقاء بعض المسلسلات لمتابعتها".

ويؤكد صاحب "الجنتلمان يفضّل القضايا الخاسرة" أن زيارة المقهى ولو لنصف ساعة، التي غالباً ما تتحوّل إلى ندوات نقدية للمسلسلات المعروضة، جزء من طقوسه الرمضانية، "كما أن مباريات كرة القدم أيضاً تحتل بعض الليالي. حيث تُلعب مباريات الدوري المصري، كما لا يخلو رمضان من العزومات مع الأصدقاء أو الزيارات العائلية".

ويضيف: "بين العمل والمسلسلات والمقهى والسهرات الكروية، يفاجأ الواحد أحياناً بأن الشهر مرّ خفيفاً لطيفاً، مبرهناً على نسبية الزمن، وأن الأيام الحلوة تنقضي بسرعة".