"الخرز الملوّن": خمسة أيام في حياة شاعرة فلسطينية

يستلهم الكاتب عنوان روايته "الخرز الملوّن" بقصدية مدهشة، إذ يتخذ من تلك الأحجار الملوّنة التي منحها الرجال البيض إلى سكان أفريقيا، لقاء نهب أرضهم وسلب خيراتها رمزاً للخديعة.

  • "الخرز الملوّن": خمسة أيام في حياة شاعرة فلسطينية

في وقت تستمرّ فيه المجازر في فلسطين، ويبادُ الفلسطينيون في غزة على مرأى العالم تُستعاد الرواية لتوثّق المأساة، وتصوغ كيفية مكوثها في نفوس ضحاياها، والأحداث التي تجعلها مرآة تعكس واقع الاقتلاع والطرد، وصوتاً يذكّر بحكاية الظلم أيضاً. من هنا تحضر رواية "الخرز الملوّن" للكاتب المصري محمد سلماوي  والتي تغطّي أربعة عقود من تاريخ الشعب الفلسطيني، وتقصّ أحداث خمسة أيام من حياة شاعرة فلسطينية، وهي شابة اقتُلعت من أرضها ولجأت إلى مصر، لتكون سيرتها الذاتية تسجيلاً لأهم الأحداث السياسية من حرب فلسطين عام 1948 وحتى اتفاقية كامب ديفيد 1979. 

وعلى الرغم من صدور الرواية أول مرة عام 1991 حيث نشرتها صحيفة الأهرام متسلسلة، إلا أنها تصدر اليوم عن مكتبة ديوان بطبعة جديدة بينما تستمر المقتلة في فلسطين، لتشير إلى حجم المأساة، وإلى تلك السنوات الأربعين من حياة نسرين حوري، والتي لم تكن سوى أزمنة خرساء، لم يكن لشيء أن ينطق فيها سوى الألم الناجم عن الاقتلاع من الوطن الأم. 

يستلهم الكاتب عنوان روايته بقصدية مدهشة، إذ يتخذ من تلك الأحجار الملوّنة التي منحها الرجال البيض إلى سكان أفريقيا، لقاء نهب أرضهم وسلب خيراتها، رمزاً للخديعة. وهو عنوان تصاحبه دلالات عديدة، فمن جهة هو رمز للاحتيال، ولتلك الحقن المخدّرة التي مُنحت للشعوب العربية على هيئة أحجار برّاقة، في وقت كانت فيه المؤامرات تحاك حتى أصبحوا فرائس الطرد والتشتت. ومن جهة ثانية فإن دلالات العنوان تأخذ من الطوق المزيّف الذي أهداه إبراهيم زيدان لنسرين حوري ليلة زفافهما، استعارة للزيف الذي عاشته معه قبل أن يهجرها ويخطف طفلهما الوحيد. وهو ما يكرّس للخديعة، ويؤسس لتلك الخيبة التي اكتنفت حياتها، هكذا تحضر الكتابة من زمن أعلن فيه عن المجازر جهاراً بينما تستعاد الحكاية كفنّ يواجه المقتلة، ويخبر بالأحداث التي صاغت نهاية نسرين حوري وصنعت قدرها.

من زمن النكبة وحتى ثورة "الضباط الأحرار" في مصر، ومن زمن الوحدة بين سوريا ومصر إلى مقتلة الحرب الأهلية في لبنان وصولاً إلى اتفاقية كامب ديفيد، هكذا يصوغ الكاتب تلك الحوادث التي جعلت من نسرين حوري صحافية في جريدة الأهرام، ومعها تتكشّف سلسلة الخدائع التي أودت بمصيرها، وكأنّ الكاتب بتجسيده شخصية البطلة يجسّد مصير فلسطين ذاته، فالإيمان المطلق بالعودة تحوّل إلى بؤس، ويقينها المطلق بحدوث ما يعيد للفلسطينيين حلمهم، وينقذ أرضهم تحوّل إلى حزن بعد غرق البلاد العربية في المشكلات السياسية والتناحرات الطائفية. هو ما يصيب نسرين بالأسى، وهو أسى مكرب، دفعها إلى مستشفى الأمراض النفسية، وأسس لديها فكرة الانتحار. 

ولو ألقينا نظرة إلى حياتها؛ وهي حياة استلهمها الكاتب من حياة الصحافية الفلسطينية "جاكلين خوري" ابنة رئيس بلدية حيفا، فهي حياة قوامها الانتظار؛ انتظار نسرين النجاةَ، وانتظارها الخلاص. ولا يعني الكاتب بذلك الخلاص خلاصاً فردياً إنما، وبعد اقتلاعها من أرضها، وقتل والدتها أثناء الهروب من المجازر في فلسطين باتجاه القاهرة، فهي تؤمن بالخلاص كحلّ جماعي، وتكرّس لفكرة أن الخلاص الفردي للفلسطينيين محض وهم. ولعل الكاتب بتجسيده شخصية بطلته أراد لنا أن نقع على نموذج روائي فريد "للبطل المثقّف". 

فنسرين كشابة هاربة من العنف، وضحية مأساة قوامها التخلّي، ويقصد هنا التخلّي عن الأرض، وتخلّي زوجها عنها وقيامه بخطف ابنها لاحقاً، يصوغ من تلك المظالم صورة المثقّف الحقيقي، وهو ما يعيدنا إلى سؤال إدوارد سعيد عن أخلاقيات المثقّف وصورته، وهي صياغة تجمع على وحدة مبادئه في سبيل استعادة الأصوات الخرساء. وهو ما تعكسه شخصية نسرين عبر تحدّيها زملاءها في العمل في صحيفة الأهرام، ورفضها كتابة المقالات التي فُرضت عليها. وأيضاً عبر تمرّدها في حياتها واختيار الزواج من الرجل الذي أحبّت، واستمرارها في استئناف مشروعها الثقافي ورفضها الانصياع لخطوط سياسية مغايرة لفكرها السياسي الحر. ذلك النبل في تجسيد الأفكار على أرض الواقع، وتلك الهوة التي عاشتها نسرين بين الوعد والتنفيذ، وما بين الحلم والنكبة، وأيضاً بين العودة والبقاء، هو ما يجعلها تبدو داخل النص حارسة لتلك الوعود، والمؤتمنة عليها، وهو في الوقت ذاته، ما يدفعها للوقوع فريسة اليأس بعد كل إخفاق عربي.

يقول الكاتب في الرواية: "وربما كانت الحقيقة أن التي صحت في اليوم التالي لم تكن نسرين وإنما شخص آخر، فقد كانت الاضطرابات النفسية قد بدأت تنخر في نفس نسرين حوري في الوقت الذي بدأت الاضطرابات السياسية بعد رحيل عبد الناصر". من هنا نستطيع القول بأن رواية "الخرز الملوّن" حكاية تروى من وجهة نظر الضحايا، وتصوّر الواقع العربي من خلال رصد حيوات من يقع عليهم العنف والنبذ، إذ لا شيء يستمر لديهم سوى الظلم، وهو ما تستمر نسرين في رفضه حتى آخر أيام حياتها؛ رفض الظلم من جرّاء التغيير السياسي ودفعها لتعدّل من نوعية كتاباتها. ورفضها الظلم اليومي على شعبها وكذلك الأمر رفضها الانصياع لمقابلة زوجها وهجر القاهرة نحو بيروت. 

هكذا رفضت النجاة بصورتها الفردية، وفضّلت نسرين الانتصار لأفكارها ولو كان على سرير في مستشفى للأمراض النفسية، إلا أن الخيبة بثقلها وشدة وطأتها تدفعها لترفض وجودها في عالم قوامه الخديعة، وفي مكان تموت فيه الوعود، وتستمر فيه المقتلة على الأرض الفلسطينية. وكأنها باختيارها الموت تسجّل موقفاً أبدياً، موقفاً ضد الظلم، وصوتاً صارخاً لقاء خفوت أصوات الحق. وهي وظيفة الرواية التي جسّدها الكاتب بصورتها الفنية العالية، ودورها الإنساني في الانتصار لصوت الإنسان؛ الإنسان وحده ولا قيمة مطلقة غيره، سوى الانتصار لحرية البشر وصون أرضهم وكرامتهم. "استمرّت الورقة على الأرض بجوار أوراق شجر انتزعها الخريف من غصونها لتفرش الأرض بساطاً لم يعد فيه بقايا للون الخصوبة الخضراء الذي كان قد انحسر أمام زحف الزمن بلونه الأصفر. لون رمال صحراء صامتة صمت الأفق الممتد إلى ما لا نهاية..".