"الفنانون العشرة" و"طرابلس الشام" في متحف نابو

احتفالية فنيّة شهدتها منطقة شكا شمال لبنان، أقامها متحف "نابو"، وتضمنت إقامة معرضين لثلاث مناسبات: إعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية، وطرابلس عاصمة دائمة للثقافة في لبنان، ثقافياً، وإدراج متحف "نابو" على الخريطة السياحية المحلية الدولية، وذلك برعاية وزيري الثقافة محمد وسام مرتضى، والسياحة وليد نصار، وفعاليات مختلفة ومهتمون.

المشترك في المعرضين أنهما ينتميان إلى مدينة طرابلس من زوايا مختلفة، فمعرض أول لظاهرة الفنانين العشرة الطرابلسية في يوبيلها الذهبي حيث تشكّلت عام 1974 من مجموعة من الطلاب، جلّهم متخرج من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، شكّلوا ظاهرة فنية لافتة على مستوى لبنان، ودفعاً كبيراً للفن التشكيلي في طرابلس والشمال حيث اقتصرت الوجوه التشكيلية الفنية على أشخاص معدودين قبل ذلك.

ولا بد من ملاحظة أن طرابلس التي زخرت بالفنون المسرحية والسينمائية والغنائية لم ينمُ فيها تطور للفن التشكيلي قبل السبعينيات، خلافاً للعاصمة بيروت، التي شهدت نهضة فنية تشكيلية واسعة بدأت مع داود القرم، ثم خليل الصليبي، ومصطفى فروخ، وعمر الأنسي وسواهم الكثير.

والغريب في الامر، بيروتياً وطرابلسياً، أن يغيب العنصر النسائي عن الفن التشكيلي في بداياته، رغم ظهور فنانات على مختلف مستويات الفن كالغناء والتمثيل والرقص، وذلك رغم أن مجموعة الفنانين العشرة تضمنت في انطلاقتها سيدة هي الفنانة سلمى معصراني، لكنها ما لبثت أن انسحبت بعد إعلان تشكّل المجموعة بفترة قصيرة، وبقيت تسمية العشرة ملازمة للمجموعة.

الفنانون العشرة

معرض الفنانين العشرة جرى تحت مسمى "هوية منفتحة على الوجود"، وفنانوها انطلقوا في تجارب جامعة، وعرضوا في مختلف البلدان العربية والأوروبية كمجموعة، لكن الظروف، والأحداث فرّقت العشاق، وراح كل منهم في سبيله، يخوض تجاربه الحياتية، والعملانية، والفنية في آن، فغاب وهج سبعينيات المجموعة، وأعادت الجامعة اللبنانية - الفرع الثالث (الشمال) منذ عام إحياء المجموعة، وسلطت الضوء عليها، وأنشأت لها متحفاً دائماً في إحدى طبقات المبنى الحديث في المون ميشال - الهيكلية على تخوم طرابلس.

ولا عجب أن تؤسس الجامعة اللبنانية متحفاً للمجموعة لأنها هي التي دفعت منذ سبعينيات القرن الماضي بتأسيس فرع لمعهد الفنون الجميلة في طرابلس الذي خرّج عشرات الفنانين المرموقين، وأطلقت جيلاً فنياً واسعاً أغنى الحياة الثقافية والفنية في طرابلس والشمال، رافداً الفن اللبناني التشكيلي بقوة بتيارات فنية متنوعة.

الفنانون الذين شكّلوا العشرة هم بحسب الأعمار: النحات الراحل محمد الحفار (1929-1993) الذي تمثّل بجناح، وبعض منحوتات في المعرض الحالي في نابو، وعبد الرحيم غالب (1931) لم يشارك في المعرض نظراً لسفره، وشقيقه الراحل محمد غالب (1935-2020) الذي كانت له مشاركة بجناح خاص في المعرض، أظهرت أعماله تركيزه على الفن الإسلامي، والحروفي العربي بأناقة خاصة ومميّزة.

وغاب عن المشاركة كل من بسام الديك (1943-2016)، وعبد اللطيف بارودي (1944)، وتألق بقية الفنانين بأسلوبهم الخاص بكل منهم، بأعمال عديدة أظهرت المستوى الفني الذي ارتقت به المجموعة، وزخّمت به الفن اللبناني.

من المشاركين على هذا المستوى فضل زيادة (1944) الذي تميز بأسلوبه الرمزي، وفيصل سلطان (1946) بأسلوبه التجريدي مع مساحات لونية شفافة، وبلوحة مجسمة احتوت عشرات الفنانين اللبنانيين من فترات مختلفة، مع أعمال لهم، رفعت شعار "لا أؤمن بالسياسة. أؤمن بالثقافة" (I Do Not Believe in Politics. I Believe in Culture). وعدنان خوجة (1948) الذي جمع بين الرمزية التعبيرية، والرؤى الفلسفية، ومحمد عزيزة (1949) بلوحاته المشعّة بالألوان الزاهية تعبر عن مدينته طرابلس التي أحب، مع بعض رموز وإشارات إلى أحداث وقعت في المدينة. 

يسجّل للمجموعة جرأتها في كسر التقليد المتّبع عبر حصر مركزية الدولة والمؤسسات في العاصمة بيروت، فقدموا في تحدٍّ مخالف للسائد نهجاً بحث في الهوية المنفتحة، والمجتهدة بعيداً عن التعليب، مع احتفاظ بالانتماء للجذور، إن في الهوية، أم في المحتوى، أم الشكل. 

ومهما قيل من ملاحظات سريعة بأعمال المجموعة، إلّا أن جهودها، كمجموعة أو كأفراد، لا يمكن حصرها بنشاط أو اهتمام معين، فقد غطت اجتهاداتهم الإطّلاع على مختلف الفنون العالمية، والفنانين العالميين، وتأثروا بمدارس ومناهج متنوعة. وثمة من وصفهم بأنهم عاشوا الصخب التشكيلي، والثورات الفكرية والطليعية في أنحاء العالم، وقدموا تجاربهم بأطرٍ فنيّة متألِّقة إبداعاً وخبرة.  

ورغم أنهم عاصروا المتغيرات الوافدة من الغرب على مختلف المستويات الفنية والثقافية، إلّا أن المجموعة ظلّت، رغم المؤثرات العالمية، متمسكة بالتقليد الشرقي، ولم تترك للريشة أن تختال في مناخات الصرعات الغربية المتناثرة بكل اتجاه.

طرابلس الشام

عند التحدث عن طرابلس الشام، يتوارد إلى الذهن مباشرة علاقة المدينة بالداخل السوري، مع أنه من المعلوم أن هذا التفاعل الطرابلسي التاريخي مع سوريا، ظلّت المدينة متمسكة به، ورافضة للمخططات الفرنسية - البريطانية المتمثلة باتفاقية سايكس - بيكو. 

يحضر عنوان "طرابلس الشام" في "نابو" في معرض ثانٍ في الطبقة العلوية من المتحف، جرى تحت عنوان "طرابلس الشام: جولة مصورة مع البطاقات البريدية"، ومن حسن حظ المدينة أن استطاع بدر الحاج - أحد شركاء تأسيس "نابو" - جمع هذا الكم من البطاقات البريدية التي تكاد تكون التوثيق الفريد المرئي لتاريخ طرابلس في النصف الأول من القرن العشرين.

أمّا ما بعد الأربعينيات، وحتى أواسط السبعينيات، تاريخ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، حيث يمكن وصف تلك الفترة بالعصر الذهبي للمدينة، وعصر الانفتاح على الحداثة بكلّ اتجاه، فإن التوثيق المرئي يكاد يكون شبه غائب، رغم الزخم التفاعلي، والأنشطة الزاهية التي شهدتها طرابلس، والتي لم تكن أقل شأناً وأهمية من بيروت على هذا الصعيد. 

وتشير البطاقات إلى حقبة كانت فيها طرابلس أوسع تأثيراً، وأكبر دوراً، وكان شارع سوريا فيها ملتقى الوافدين من مدن الداخل السوري كحمص وحماه وطرطوس واللاذقية، تتقاطع فيه المواصلات بين المدينة وأفقها العربي، تستورد البضائع من الخارج، ويتم نقلها عبر المرفأ بواسطة عربات تجرها الخيول، تجري على سكة حديد، وتعرف بالترامواي، إلى باب التبانة، ومنها إلى الداخل السوري.

المعرض هو صور مستمدة من البطاقات البريدية من مجموعة بدر الحاج، الذي سبق أن أصدر كتاباً حمل المعرض الحالي عنوانه، وصدر سنة 2010.

وتعتمد البطاقات على صور لشوحا، وفوتو سبور، وصرافيان أخوان، وميشال دافيد، وصرافيان وصبحية، والاخوة نوردايم، ودولوكس أستيل، ومنشورات الشرق، وجوزيف زبليط، وآخرين، وتتراوح تواريخها بين 1910 و1940، ومن مواقعها: سكة الحديد، وبرج السباع، والبوابة في الميناء، وبركة البداوي، وخط الترامواي، وبائع العصير، وبائع الكعك، وشارع عزمي، والزاهرية، ومقهى التل، وبرج الساعة، ومساجد، ومناظر عامة للمدينة، وأجزاء مختلفة من فترة النصف الأول من القرن العشرين. 

تلفت من الصور بانوراميات لمناظر عامة توحي بتطور تقنيات التصوير مطلع القرن، ومن أبرز ما تعرضه في جناح هو "مجتمع النهر" الذي أتى عليه طوفان 1955، المجتمع الذي وصف قبل ذلك بأنه بندقية الشرق (Venice)، حيث جسور معلقة، تعيد المشاهد إلى أجواء المدينة القديمة التي وصفها الرحالة البريطاني جان كارن بأنها "أجمل المدن حيث تختلط البيوت بالبساتين"، وتكاد تلامس مجرى النهر، والمياه رقراقة فيه، ولا تزال نماذج من هذه الحياة قائمة في منطقة على الطرف الشرقي للمدينة  تعرف بـــ "المرجة".

كما وصفها رحالة آخرون بأنها أبهى مدينة على ساحل سوريا، وهذا ما تظهره البطاقات الوفيرة الموضوعة بتناول الجمهور مع شروح لها في عدة أجنحة.

المعرضان جرعة فنية ثقيلة، يخفف من ثقلها امتدادها لمدة 3 أشهر، يختتم معها الصيف، ويتيح ذلك للزائر زيارة المتحف أكثر من مرة إذا شاء التعايش الفعلي مع أعمال المعرضين الواسعة والكبيرة.