"الوصول" لعبد القدوس الأمين: حين تكون الشهادة لحظة الراحة الوحيدة

تشبه سهام في كتاب "الوصول" وردة نبتت من بين شقوق صخر المعاناة، وأزهرت بلقاء حبيب عمرها السيد عباس، فكتبت معه سطور ملحمة كاملة من لحظة زواجهما وحتى لحظة الشهادة.

  • "الوصول" لعبد القدوس الأمين

يتناول كتاب "الوصول" لعبد القدوس الأمين الصادر عن دار الولاء في لبنان السيرة الذاتية للسيدة سهام الموسوي المعروفة باسم السيدة أم ياسر، وهي زوجة الأمين العام السابق لحزب الله السيد عباس الموسوي، بنزعة روائية تحتفي بالتفاصيل وترصفها بدراية سردية وتهندسها في عمارة روائية بنوافذ مشرعة على بدايات العمل المقاوم في لبنان وشرفات تطل على الواقع اللبناني بأكمله إبان تلك الفترة الزمنية التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

يندرج الكتاب ضمن سلسلة التأريخ لدور المرأة المقاومة اللبنانية التي تعمل على نشرها الرابطة اللبنانية الثقافية. وقد أصدرت في هذا السياق ما يزيد على 25 كتاباً، وكلها كتب تؤرخ لدور المرأة في صناعة النصر الكبير الذي تجلى في تحرير الجنوب اللبناني عام 2000 وما تلاه من صمود وتحد وانتصارات على الكيان الغاصب، كان أبرزها عدوان 2006.

يتتبع الكاتب سيرة حياة السيدة الشهيدة أم ياسر منذ أيام الطفولة ومراتع الصبا في النبي شيث إلى زواجها من السيد عباس الموسوي وسفرها معه إلى النجف الأشرف ودراستها الحوزوية هناك، وتعرفها إلى الكاتبة الشهيدة بنت الهدى شقيقة المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي تتلمذ زوجها عليه، والذي نهلت هي من أخته علماً وفقهاً وأدباً. 

تعود السيدة أم ياسر مع زوجها إلى لبنان، فتندمج معه في العمل المقاوم، ولا تسمح لتاء التأنيث بأن تثنيها عن اضطلاعها بدورها في الدفاع عن لبنان وحمل هموم الفلاحين والكادحين في سبيل لقمة العيش.

تلهج سطور "الوصول" بسيرة نموذجية لامرأة قدوة مثال في الصبر والتضحية تضفي على أعمالها هالة من القداسة وهي تقف في وجه الصهيونية في انحطاطها وعشقها للدم. في المقابل، يتدفق دم الحب في شرايين السيدة المقاومة ليكسب كل فعل من أفعالها وكل حركة من حركاتها قيمة مطلقة على حد قول ماسترناك: "أي خطوة نحو المطلق مهما كانت صغيرة تكتسب أهمية مطلقة"، لتنسحب من مساحة تفكيرها كل قيمة في العالم، وتبقى قيمة واحدة هي مرضاة الله.

 بهذه الخلفية الفكرية، انطلقت السيدة أم ياسر بحماسة منقطعة النظير يحدوها قلب متوهج بالإيمان وروح تواقة إلى مكان لا يراه غيرها، هو الجنة القريبة التي أزلفت للمتقين. وهنا موضع التقاء القلب والروح والبصيرة.

في كتاب "الوصول"، تصغي السيدة أم ياسر إلى صوتها الداخلي الذي يتناغم مع صوت الأذان الفجري المتهادي مع تلال بلدتها النبي شيث، وتصيخ السمع عن أصوات الخارج التي توهن عزيمة المقاومين بمقولة أن العين لا تقاوم المخرز، فتنطلق في موجة معاكسة لتيار الإحباط والتوهين وتنجح في التوفيق بين المتطلبات الأسرية والمنزلية وإعطاء الدروس الثقافية، مسيلة الأسس الأيديولوجية مفاهيم ومعطيات ميدانية ترفض الإذعان للمحتل، مهما بلغت درجة قوته وغطرسته.

 تنهل مادة كتاب "الوصول" من الواقع الثقافي والاجتماعي الذي عاشته الشهيدة أم ياسر، وتنتج سردية اجتماعية في علاقات تبادلية تأخذ الكتابة معها شكلاً جديداً ينحّي الأشكال الأدبية التقليدية ويحتفي بشكل جديد أفرزه الصراع السياسي مع العدو الصهيوني. 

وفي هذا النوع الكتابي الوليد، ينأى فعل القول بعيداً ليحل محله الفعل عينه منطلقاً من الخاص الفردي ليصب في المجرى العام الجمعي، وكأن الراوي يغدو منتجاً للمادة السردية ومستهلكاً لها في آن، منطلقاً من المادة الاجتماعية في وضعها السياسي الراهن، واضعاً هذه السيرة الاجتماعية في الصراع مع العدو الصهيوني الذي يتكون فيه الأدب كأدب وينتج شكله وسبل كتابته.

لقد حملت الشهيدة أم ياسر هم العائلة وعبء الجهاد رفيقة لدرب أمين عام حزب الله الذي اشتهر عنه أن بيته هو سيارته بكل ثقل المهمة، وأبت إلا أن تتجرع كأس الصبر حتى نهايته، فترتفع شهيدة مع رفيق الدرب.

تبدو لحظة الاستشهاد هي لحظة الراحة الوحيدة بعد عمر من الجهاد والتعب يطلق عليه المقاومون اللبنانيون اسم طريق ذات الشوكة، وهي العبارة المأخوذة من التراث الديني الذي يحض على الالتحاق بمسيرة الكفاح رغم وعورة مسالكها.

يضيء الكتاب على رحلة حياة شاقة عنوانها الصبر منذ الطفولة إلى الزواج وصولاً إلى الاستشهاد مع زوجها في سيارة واحدة من جراء إصابة السيارة بصاروخ جو أرض أطلقته مروحية إسرائيلية على موكب السيد عباس الموسوي على طريق تفاحتا في الجنوب عام 1992.

تشبه سهام في كتاب "الوصول" وردة نبتت من بين شقوق صخر المعاناة، وأزهرت بلقاء حبيب عمرها السيد عباس، فكتبت معه سطور ملحمة كاملة من لحظة زواجهما وحتى لحظة الشهادة.