"اليباب": سرد البطولة الفلسطينية ضد الاحتلال

رواية اليباب تقف في مواجهة الذاكرة الفلسطينية التي تشكّلت منذ (وعد بلفور) وإلى يومنا هذافباتت كتاباً ثقيلاً بما اشتمل عليه من حوادث وأحداث، ووثائق وحكايات ومشاريع وأخبار.

  • رواية اليباب: مأساة اللاجئين الفلسطينية
    رواية اليباب: مأساة اللاجئين الفلسطينية

أعترفُ بأنني أشعر بالرضا كلما قرأت رواية فلسطينية جديدة، وذلك لأمرين اثنين، أولهما هو أنّ الكتابة الروائية الفلسطينية تحافظ على تقاليدها التي تروم الغنى في التعبير، وحسن التقاط الموضوعات، والجدّة في التشكيل واختيار التقنيات، وقد مرّ وقت طويل على صدور الرواية الفلسطينية الأولى (الوارث) للأديب خليل بيدس (1874-1949) عام 1920، التي نشرها فصولاً منجماتٍ في مجلته (النفائس) التي كانت تصدر في مدينة القدس بدءاً من عام 1911، وثاني الأمرين هو أنّ الكتابة الفلسطينية حافظت على التلازم المكين ما بين الموضوع الذي يتناول الأحوال والحوادث من جهة، والمقدرة على التعبير بأساليب لا تخلو من الدهشة والسّحر الحلال من جهة أخرى، والأمران معاً يشكّلان مدوّنة على غاية من الأهمية للذاكرة الفلسطينية، وهي مرجعية لا غنى عنها في صراع المواجهة والتقابل والصدّ والمحو للرواية الإسرائيلية المحتشدة بالزيف والتقوّل والأكاذيب والارتجال الشاحب، وهما يشكّلان مدوّنة فذّة ذات قدرة على المضايفة للتاريخ الفلسطيني، وذات قدرة على توكيد أحداثه وتظهير حوادثه.

أقول هذا، وقد فرغت تواً من قراءة رواية (اليباب) للأديب الفلسطيني محمد أبو ناموس، الصادرة حديثاً عن "دار كنعان" بدمشق، وهي تقع في نحو 130 صفحة من القطع الوسط، وقد تركت هذه الرواية في نفسي آثارها الطيبة من جهة، وآثارها المُرّة من جهة أخرى. فهي  تعالج موضوع الذاكرة الفلسطينية والخوف عليها من أذيّة الحاضر وتشقّقاته الكثيرة وثغراته المتعددة، وسعي الآداب والفنون الفلسطينية التي تصدر من جهات جغرافية عديدة ،أعني الوطن الفلسطيني، ومن أمكنة المنافي القريبة والبعيدة معاً للحديث عن سيرورة النضال والمواجهة للعدو الإسرائيلي في القرى والمدن والمخيّمات الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، أو القرى والمدن الفلسطينية التي تتعرّض لأذيّته المتلاحقة صباح مساء، والحديث  أيضاً عن المعتقلات والسجون الإسرائيلية، والحياة الاجتماعية في المخيّمات الفلسطينية في داخل الوطن الفلسطيني وخارجه في (المنافي المتعددة)، وتوكيد الروح الوطنية وشيوع معانيها تواصلاً ما بين الأجيال الفلسطينية، وتجليات حضورها وتظهيرها لجلو ما تقوله معادلة: الحقوق والواجبات تجاه التاريخ والجغرافيا والتراث والعادات والتقاليد والشخصية الوطنية، ورصد الفوارق الحاسمة ما بين الكرامة والذلة، والتباهي بالوطن ونسيانه، والرضا بالمنفى أو جعله قاعدة للعودة إلى الوطن، والحرص التّام على أهمية ما تقوله الرواية الفلسطينية أو السّردية الفلسطينية وهي تواجه الرواية الصهيونية التي هي النقيض لها في كلّ شيء.

رواية (اليباب) للروائي الفلسطيني محمد أبو ناموس، هي واحدة من رواياته الثماني الصادرة سابقاً، والتي تشكّل جزءاً أصيلاً من مدوّنة السرد الفلسطينية، مثلما تشكّل ترجمة جهيرة لمشروع روائي تبنّاه الكاتب خلال العقود الثلاثة الماضية، وقد اشتغل عليه بسرية مطلقة، وبغفلة من عالم الشيوع والتظهير، أيّ عالم النشر وطيوفه المتعددة. ففي روايته الأولى عالج موضوعات ذات نسب تاريخي جال في عالم الأجداد حتى استوفى ما فيه من بقع أرجوانية جاذبة، الأجداد الذين عمّروا الأرض بالقرى والمدن، أمهات الدروب والقناطر والواجهات المزيّنة بالمرايا الطويلة المرحّبة، وكتبوا أحلامهم حقولاً للقمح والورد وأشجار الزيتون، وحين كانوا يحمونها بالقلاع والأسوار والأفعال الحضارية. 

وفي رواية أخرى التفت محمد أبو ناموس إلى المجازر والمذابح التي اقترفها الإسرائيليون بحقّ الفلسطينيين منذ عام1917 وصولاً الى عام النكبة 1948، وفي رواية ثالثة تنبّه إلى ما يعانيه الأسرى الفلسطينيون داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية. أمّا رواية (اليباب) الجديدة فهي تقف في مواجهة الذاكرة الفلسطينية التي تشكّلت منذ (وعد بلفور) وإلى يومنا هذا، فباتت كتاباً ثقيلاً بما اشتمل عليه من حوادث وأحداث، ووثائق وحكايات ومشاريع وأخبار، ومواجع وآلام ومواجهات ومذابح واعتقالات وعنصرية وبطش وتضييق وحصار، ومقابر رقمية واحتجاز لجثث الشهداء وإماتة للأسرى، وإرهاب على مختلف صوره وأشكاله، وفي كلّ مكان فلسطيني وصلت إليه الأنفاس الإسرائيلية الكريهة، من تدمير للبيوت، وحرق للمحاصيل، وتخريب للحقول، ومطاردة للرعاة، وإقامة للحواجز، وإغلاق لممرات العبور، ومصادرة للصحف والمجلات، وإغلاق للمدارس والجامعات، وفرض للإقامة الجبرية على كلّ مواطن يحتج على السياسات الإسرائيلية، وحصار للقرى والبلدات والمخيّمات، ومنع للدخول إليها أو الخروج منها. 

الرواية مكتوبة بروح مشهدية متوالية، وتقاطر أشبه بتقاطر قاطرات تتدحرج دفعاً هيناً نحو محطة سحرية، رواية تجول فيها الذاكرة الفلسطينية صارخة حيناً، وراويةً حيناً، وباكيةً حيناً، ومثقلةً بأوجاعها وآلامها حيناً آخر من جهة، مثلما تجول فيها الأفعال الوطنية البهّارة وهي تواجه القوة الإسرائيلية الباطشة بأساليب وأدوات مذهلة ببساطتها من جهة أخرى.

هذه الذاكرة المتجذّرة في النفس والتاريخ والمكان والمعنى، هي كتاب الفلسطينيين الذي يضم بين تضاعيفه بطولات الآباء والأجداد وسيرهم، وهم يقاومون المحتل الإسرائيلي منذ مئة سنة وحتى اليوم، وهي ذاكرة تتجلّى فيها روح اليقينية المطلقة بحقّ العودة، مثلما تتجلّى فيها روح التوقّد والتعافي والبقاء على الثوابت التي غدت هي جوهر حياة الفلسطينيين التي يتوارثونها من أجل إعلاء شأن شرف المقاومة والفداء.

محمد أبو ناموس، في روايته (اليباب) يجعل من شخصيتها المركزية في الرواية (الحاجة بلانة) المرأة التي تُري القارئ الأفعال السلبية والإيجابية، وما ينتج عن كلّ منها من مفارقات تتراوح ما بين الخذلان والبطولة، وما بين القنوط والأمل، وما بين الهزيمة والظفر، وما بين المواجهة والارتطام.

(الحاجة بلانة) في رواية محمد أبو ناموس (اليباب) تمثّل الذاكرة الفلسطينية، أي تاريخ البلاد، مثلما تمثّل المرآة التي تبدي مواقع العطب والانحناء من أجل تصويبها، كما تبدي مواضع الشجاعة والفداء لتأييدها وتأبيدها معاً. ولأنّ هذه الشخصية (الحاجة بلانة) شخصية مركّبة، فهي ذات مرونة واسعة تجول في التواريخ الفلسطينية على نحو دائري فتذكّر بها، مثلما تجول في الأمكنة التي فتكت بها القوة الإسرائيلية الباطشة فطردت أهلها، وأخذت بيوتهم وممتلكاتهم، وهوّدتها بتغيير أسمائها وسكّانها والطرق التي تصل إليها، وحرثت مقابرها، كما تجول في عالم الوعي الفلسطيني العصيّ على المحو والتحييد والتغطية. 

إنها مرآة تُري القارئ قدرة الإسرائيلي على القتل والتخريب والإرهاب وبثّ ثقافة الإخافة في كلّ الأمكنة الفلسطينية التي وصلت شروره إليها، وقدرة الفلسطينيين على مواجهته ومقاومته والوقوف أمامه كأشجار السنديان والدلب والملول المحيطة بضفتي نهر الأردن، وتصاعد الخط البياني لهذه المقاومة علواً وعنفواناً من المواجهة بالحجارة إلى المقاومة بالسلاح.. على الرغم من تفاوت مفاعيل القوة ما بين الطرفين. 

صحيح أنّ الإسرائيلي تبدو قدرته المخيفة، وعبر مرآة الذاكرة، وهو يهدم قرية (العراقيب) الفلسطينية في النقب 143 مرة، ولكن الصحيح أيضاً هو أنّ أهالي هذه القرية استطاعوا وبقدرة مذهلة أعادة بنائها 143 مرّة، وعلى نحو أكثر تحصيناً، وأكثر إيماناً باستقرار المكان وثباته، وأكثر استهزاءً وسخرية بالقوة المجوّفة التي لا حقّ فيها ولا خير ولا جمال.

إنّ العجوز (بلانة) تقول بوضوح إنّ المكان، حتى لو كان خياماً، هو أكثر من مأوى، وأكثر من بيت، إنه بلاد، إنه وطن، وليس هناك من مكان أجمل من المكان الذي يعدّ بلاداً ووطناً حتى لو كان مكاناً في صحراء النقب.

(الحاجة بلانة) في رواية (اليباب) لـ محمد أبو ناموس، هي شجرة ذاكرة، تهفو إليها الأقوال والأخبار والرؤى والأفعال مثل الطيور من أجل تظهير الوطني منها وتأبيده، ومن أجل إسقاط كلّ قول علاه اليبس أو شانه العطب، وكلّ فعل فتك به الضعف واليأس أو الإحباط، والأهم في هذه الذاكرة هو أنها شريط زمني يعبره الضوء من أوله إلى آخره، حتى لو اخترمته روح السخرية، لأنّ سخرية محمد أبو ناموس سخرية فعّالة ومحرّضة وجارحة، وذلك من أجل أن  يقدّم للأجيال الطالعة خلاصة ما قرّت عليه رؤى الآباء والأجداد، وبيان الأثمان الباهظة التي  دفعوها وهم يتمسّكون بالوطن الأتمّ كاملاً لا يعرف النقصان أو التجزئة أو الانقسام، والأهم في هذه الذاكرة أيضاً هو الخلاصة المجتباة من معرفة الفلسطينيين للنفسية الإسرائيلية ودوافعها، وقد غالبوها طوال الوقت الطويل المنصرم، فرأوا أن الأسلوب الأجدى مع الإسرائيليين هو المقاومة والمواجهة، لأنّ العقل الإسرائيلي المتحجّر المتعصّب الدمويّ لا يفهم إلّا لغة القوة.. لهذا تقول (الحاجة بلانة) إنّ للقوة الإسرائيلية، كما لأيّ قوة في الدنيا، أطواراً. ومآل القوة الضعف، وها هي علاماته وأشراطه بادية جلية. 

إنّ (الحاجة بلانة) تبدي، وبوضوح، الأفعال الناقصة وتبديها صوراً ومواضع في المرأة الفلسطينية ليس لفضحها وبيان عيوبها وحسب، وإنما من أجل محوها واستبدالها بالأفعال التّامات التي تضحي بالآني المتغيّر الرجراج لصالح الثابت الدائم منها، مثلما تضحي بالفردي ونوازعه لصالح كلية الجماعي المتجانس وما فيه من المعاني والقيم الباقيات.

إنها مرآة الذاكرة الفلسطينية المتعلّقة بالأفعال النواهض التي تشبه في ترسيماتها ودلالاتها، تلك الترسيمات والدلالات التي أبدتها مرايا ذاكرة الجزائريين، وذاكرة الفيتناميين، وذاكرة أهل الهند وأهل جنوب أفريقيا، حين كان أهل هذه البلدان يقاومون قوة غاشمة، كانت مفاعيلها وعنصريّتها أشد بطشاً من قوة الإسرائيليين.

شخصية (الحاجة بلانة) في رواية (اليباب) لـ محمد أبو ناموس، هي صرخة الحرية في وجه الظلم الإسرائيلي الذي يدمّر المكان الفلسطيني ويخرّبه ويهوّده من جهة، وهي صرخة أهل فلسطين، أهل اليقين بالعودة التّامة وتحرير الأرض التّام من كلّ رجس ونجاسة. 

أمّا (اليباب) الذي أراد محمد أبو ناموس تبيانه في الرواية، فهو يتمثّل في المشاريع المنادية بالتطبيع، والرضا بالخنوع والارتماء في أحضان الغاصب المحتل، والخضوع للقوة الإسرائيلية والموات والانحناء، إنه يقول وبوضوح تام: كلّ ما يفعل في هذا الاتجاه من ترويج وتجميل.. هو يباب، ونحن لا نريد اليباب، فاليباب لا قرى فيه ولا حقول ولا بشر، ولا طرق له ولا جهات، ثم لا طعوم له سوى المرارة.. والندم.