"تكعد بيهن الحلوات".. المشربية: نافذة على العالم

"ليست خشباً، هي حالة عيش". لماذا شكّلت المشربيّة تحفة فنية وهندسية في بلادنا؟ وما هي وظائفها البيئية والاجتماعية؟

يختصر وصف عبد الرحيم غالب للمشربيّة قيمتيها الأستطيقيّة والوظيفيّة، ويمتدّ ليوصّف شيئاً من حالتها التاريخيّة: "المشربيّة ليست خشباً، هي حالة عيش".

كذلك ثمة قول آخر يتردّد، هو أنّ المشربيّة، منذ ظهورها في القرن السادس الهجري (الثالث عشر الميلادي) إبّان العصر العباسي في مصر وشبه الجزيرة العربية والعراق، كانت نافذة للشرق على العالم. 

"فدوة للشناشيلات تكعد بيهن الحلوات"

تُعد المشربية التي انتشرت في الفترة العباسية (750 -1258)، ثم كان أوج استخدامها في العصر العثماني (1517- 1805)، واحدة من أهم مفردات العمارة الإسلامية. وإنّ انتشارها شبه الكامل في العراق والشام ومصر والجزيرة العربية يؤكّد عليه أنّ مدينة البصرة العراقيّة أخذت لقبها من وجود المشربيّات المطلّة على شط العرب فيها، إذ صارت تُعرف بأم الشناشيل.

للمشربية عدّة تسميات تبعاً للمناطق الموجودة فيها، تُدعى في بعض الدول الإسلامية مثلاً بـ: روشن، أما في العراق فاسمها شنشول.

وثمة تفسيرات عديدة للاسم، منها أنه مشتق من اللفظة "شرب" وتعني في الأصل مكان الشرب، إذ كانت في الماضي عبارة عن حيّز بارز ذي فتحة منخلية توضع فيها جرار الماء الصغيرة لتبرد بفعل التبخر الناتج عن تحرك الهواء عبر الفتحة. في حين يشير آخرون إلى أنّ التسمية قد تكون مستمدة من كلمة "مشرفية" التي تعني المراقبة والرؤية والإشراف.

وقيل أيضاً إنها تحريف لمشرئبة، من الفعل اشرأب، بمعنى مدّ عنقه لينظر وكذلك بمعنى ارتفع. وربما اشتقت أيضاً من مصطلح التشريب، وهو عمل حزوز قليلة العمق أو تعريقات قليلة البروز في الخشب كما في الشكل.

لم يقتصر حضور المشربية في الثقافة المعمارية وحسب، بل انتقل، بسبب انتشارها الكبير، ليصير أثراً في الثقافة الشعبية العراقية على سبيل المثال. وليس أدلّ على ذلك من ذكرها في عدد من الأغاني الفلكلورية نذكر منها:

"فدوة للشناشيلات 

تكعد بيهن الحلوات

تكثر بيهن الضحكات

فدوة للشناشيلات"

وهذا غير قصيدة بدر شاكر السيّاب: "شناشيل ابنة الجلبي".

كما ذُكرت المشربية باسمٍ آخر هو "روشن" في بعض كتب التاريخ، مثل النجوم الزاهرة لابن تغري بردي الذي يقول فيه: "في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة هبّت ريحٌ سوداء ببغداد وأظلمت الدنيا وقلعت روشن دار الخلافة". كذلك يجيء في عجائب الآثار للجبرتي: "ونهب العسكر بيت الباشا وباتت النار تلتهب فيه وأحرقت تلك الأبنية العظيمة والرواشن".

المشربية.. وظائف بيئية واجتماعية

الوصف المعماري الدقيق للمشربية يتلخص في أنها معالجة معمارية للظروف المناخية والاجتماعية والدينية، تغطي السطح الخارجي لفتحات شبابيك ونوافذ الواجهة. وهي عبارة عن شرفة بارزة عن جدار المنزل أو المبنى مغطاة بإطار مكوّن من تراكب مجموعة من القطع الخشبية الصغيرة أسطوانية الشكل (دائرية المقطع)، على شكل سلاسل تفصل بينها مسافات محددة ومنتظمة بشكل هندسي زخرفي دقيق وبالغ التعقيد.

ويُذكر أنّ فكرة المشربية قامت كنماذج للاستخدامات المعمارية التي تتفق مع نوعية البلاد العربية نظراً لشدة الحرارة والضوء، وهي حل معماري ناجح في ضبط الحرارة والضوء. إذ تربط الداخل بالخارج بشكل له طابع خاص وظيفته تخفيض قوة الإضاءة الداخلة والسماح للهواء بتخللها لتهوية الفراغ الداخلي، مع الحفاظ على الخصوصية لمستخدمي هذا الفراغ.

وتتكون المشربية من 3 أجزاء هي: الفتحة الرئيسية التي تتكون من جزء سفلي (تحت مستوى النظر) وهو عبارة عن قطع خشبية مخروطة بنمطٍ شبكي محكم، والجزء العلوي (فوق مستوى النظر) الذي يتكون من نمطٍ شبكي أكثر اتساعاً. أما ثاني أجزائها فهو البروز الموجود فوقها والذي يعمل على كسر أشعة الشمس ويمنعها من الدخول. فيما ثالث أجزائها هو النافذة المسطحة فوق البروز (القمرية)، وهو عبارة عن نمطٍ شبكي واسع من الخشب أو الجص المملوء بالزجاج الملون.

من هنا كان الاستخدام الوظيفي للمشربية، الذي يسير جنباً إلى جنب مع قيمتها الجماليّة والفنيّة. وقد وقف المعماري المصري حسن فتحي في كتابه "الطاقات الطبيعية والعمارة المحلية" على 5 وظائف للمشربية هي:

1 - ضبط درجات الحرارة صيفاً وشتاء: إذ اعتاد السكّان المحليون على وضع أواني الشرب الفخارية في المشربيات مما سمح للهواء الداخل إلى المبنى أن يفقد من حرارته عن طريق تبخير أجزاء من مياه الشرب في الآنية. وبالتالي يدخل الهواء البارد نسبياً إلى الغرف. كما يسمح تصميم القضبان وفتحات المشربية لأشعة الشمس بالدخول شتاءً إلى الفراغ المعماري الداخلي، حيث يتم تصميم هذه الفتحات مع حسبان زوايا سقوط الشمس في الشتاء، فيزيد ذلك من درجة حرارة الداخل. إنّ هذه النقطة في المشربية، أي كأداة لتلطيف الجوء الحار ثم كأداة للحفاظ على درجات الحرارة في الشتاء، هي أكثر نقاطها أهمية، وعلى مصممها أن يتفهم عملها تماماً ويدرس استجابتها لأشعة الشمس في كلا الفصلين.

2 - ضبط مرور الضوء: يتم اختيار المسافات الفاصلة وحجم قضبان مناسب للمشربية من أجل هذه الوظيفة، بحيث تعترض الإشعاع الشمسي المباشر.

3- ضبط تدفق الهواء: يساعد على هذه الوظيفة الأجزاء التي تتكون منها المشربية، إذ قلنا إنها تتكون من جزءين علوي وسفلي. العلوي تكون الفتحات بين قضبانه أكبر من تلك التي في الجزء السفلي.

4 - زيادة نسبة رطوبة تيار الهواء: ويتم ذلك من خلال طريقتين، وضع جرار فخارية ذات مسامية عالية في المشربية، كذلك فإنّ الألياف العضوية الموجودة في خشب المشربية تمتص وترشح كميات من الماء. هذا التبريد التبخيري يقلل من حرارة الهواء ويزيد من رطوبة الجو.

5 - توفير الخصوصية للسكان: هذه هي الوظيفة الاجتماعية بمعزل عن الوظائف البيئية السابقة. إذ بالإضافة للتأثيرات الفيزيائية للمشربية، توفر خصوصية للسكان، مع السماح لهم في الوقت نفسه بالنظر إلى الخارج من دون أن تتم رؤيتهم.

هكذا، تتعدى المشربية عاملها التشكيلي والجمالي، وتصبح ضابطاً لعوامل المناخ كلها، وأداة تكييف، وستارة، وفسحة تطل على العالم.

في العمارة المعاصرة

يوجد عدد من المباني المعاصرة تأثرت بفلسفة المشربية وقامت على فكرة تشبه فكرتها أو تستغل وظائفها وطاقاتها، عبر توظيف التكنولوجيا.

ويُعد جان نوفيل، أحد أبرز المعماريين الرائدين الذين تأثروا بالمشربيات الحديثة، سواء في تصميمه لمعهد العالم العربي في باريس أو برج الدوحة أو متحف لوفر أبو ظبي. ومثله المهندسان أوسكار ينماير ومايكل ولفورد الذي صمم مجمع مسارح على خليج سنغافورة سنة 2003 باسم "The Esplanade".

ومن بين هذه المباني أيضاً نذكر مبنى مجلس أبو ظبي للاستثمار (أبراج البحر) التي صممها إيديس، وبنك مسقط، ومدينة مصدر الجامعي في الإمارات التي صممها فوستر وشركائه.

هذا كله يعني أنّ المشربية، على قدمها، ما تزال وثيقة الصلة بالحاضر والمستقبل، مع كل التطور التكنولوجي المرافق لها.

وعلى الرغم من التوظيف المعماري المعاصر لفلسفة المشربية، تبقى هناك جهود من أجل حفظها وتوثيقها. ففي مصر مثلاً هناك "الجمعية المصرية لفنون الأرابيسك والمشربية"، التي تحاول تقديم رصد وشرح مفصل حول السمات التاريخية والفنية للمشربيات من كل حقبة، وكذلك المتداعي منها.