"حراك الشهداء".. مرافعة روائية من أجل الواقع المشتهى

رواية "حراك الشهداء تعيد إلى الذاكرة رواية "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" حيث يذكر المؤلف الرعب الذي أصاب المنافقين وناكري المعروف من الشهداء.

  • "حراك الشهداء".. مرافعة روائية من أجل الواقع المشتهى

منذ الصفحة الأولى من رواية "حراك الشهداء" للدكتور محمد أبو ناموس نغوص في لعبته التخييلية، إذ جعل من الكوابيس التي تعاني منها شخصياته لازمة متكرّرة، لكن بنكهات مختلفة، مع تعزيز أثرها ومغازيها ومفارقاتها، بحيث يتخطى القارئ بساطة المعمار الروائي نحو جماليات المعنى وغنى الحوار وسلاسة السرد، لدرجة يتمنّى ألا تنتهي تلك اللعبة، وأن تشمل شخصياتها أكبر عدد ممكن من النماذج البشرية المنافقة والوصولية والمستأثرة بالمكاسب على حساب البسطاء، والأهم على حساب الشهداء الذين بذلوا أرواحهم فداء لأوطانهم وإنسانيتهم.

تأتي هذه الرواية الصادرة عن "دار كنعان للدراسات والنشر"  في دمشق بمثابة مرافعة عن حقوق الشهيد الذي يظهر في منامات مجموعة من السياسيين والاقتصاديين ورجال الدين والمثقّفين، فتتشبّع حيواتهم بالخوف وتمتلئ بالتوتر، خاصةً مع معرفتهم بحقيقة أفعالهم التي يندى لها جبين الإنسانية، خاصةً تجاه مَنْ كان بطريقة من الطرق سبباً في رغد عيشهم، وهناءاتهم المديدة، لذلك فإنهم ولرغبة الشهيد بالقصاص منهم يسعون ما استطاعوا للتخلّص من تهديداته ووعيده بمحاسبتهم على ما اقترفت أيديهم من دناءات، وما تشبَّعت به أفكارهم من رياء وممالأة ونفاق، فقط من أجل الحفاظ على ما وصلوا إليه، ولو كلّفهم ذلك تمييع دماء الشهداء وتضحياتهم الكبيرة، ونسب الفضل إليهم وإلى أمثالهم.

يتوالى ظهور الشهيد في منامات أولئك الأفَّاقين على شكل "رابوص" لا فكاك منه، بحيث يصبح مسيطراً على حواسهم جميعها، ويتكفَّل ذلك بجعلهم يعدُّون العدَّة لمواجهة جيش الشهداء، باعتباره السبيل الوحيد لخلاصهم، فيبدأون بحشد أفكارهم، والتشاور فيما بينهم، ومحاولة إيجاد سبل لجعل الشهيد ورفاقه يدفعون ثمن الأرق الذي سبّبوه لهم وبات مزمناً، وكأنّ على الشهيد أن يدفع الثمن مرتين، الأولى باستشهاده، والثانية كي يترك المنافقين يتمتعون بالنعم والمكاسب التي حازوا عليها بفضله، ويدعهم لهناءاتهم بلا قلق أو توتر. 

ورغم أن الرواية تخلو من أسماء الشخصيات، إلا من بعض الألقاب كأبي ذقن، وأبي رسن الذي يلبس دائماً أفخر الملابس مع ربطات العنق، وأيضاً المُرتَدّ الذي ترك دينه ودنياه واهتم بمصالحه فقط، ورغم أن لا تحديد واضحاً فيها للزمان والمكان، إلا أنها حافظت على قدرتها في التغلغل ببنية المجتمعات العربية التي تعاني جميعها من الظاهرة ذاتها، وخاصةً في فلسطين، حيث يستأثر الساسة... ومثقفو السلطة واقتصاديّوها بالمكاسب الكبيرة، ويقومون بعكس الحقائق، بحيث يبدون أنهم الأبطال الخارقون، إضافة إلى ملكاتهم في التنظير وتدبيج الخُطَب والمقالات والدراسات لدرجة يمكن القول معها إنهم أقرب ما يكونون إلى ذئاب شرسة بثياب حملان وديعة.

يقول الشهيد في إحدى مرافعاته: "هل يعقل أنني وكلّ قافلة الشهداء بكلّ انتماءاتنا الحزبية وقناعاتنا الفكرية لم نرَ ولم ندرك مغازيكم وحقيقتكم؟ يبدو أنكم استرحتم منّا عندما رحلنا عن عالمكم المزيّف بكلّ ما فيه من مغريات.. ولم تستلهموا الدروس والعبر سوى احتلال المواقع واغتصاب المناصب.. اسمع أنت وكلّ الحثالة والجيف أمثالك، لن نترككم تخرّبون وتفرّطون بما استشهدنا من أجله، وتعيثون فساداً في البلاد والعباد".

الجميل في "حراك الشهداء" هو لغة "أبو ناموس" التي تجمع الجد بالهزل، والفصحى بالعامية، إلى جانب سخريته المُرَّة من أوضاع أولئك اللصوص التي جعلت بعضهم يبوّل على نفسه من الخوف، وآخرين يتحسّسون رقابهم وقلوبهم الآثمة خشية من بطش الشهيد المتربِّص بهم، حتى أن زوجاتهم شكّلن تحالفاً مضاداً، لمعرفتهن بوساخة أزواجهن، وقلة أمانتهم وتفريطهم بواجباتهم الإنسانية تجاه من يرعونهم، ابتداءً من نسائهم وتعنيفهم المستمر لهنّ، مروراً بالتابعين لهم بحكم الوظيفة أو الانتماء السياسي والحزبي والديني. 

كلّ ذلك أدخلنا في حفل من الكوميديا السوداء والسخرية ممن يدَّعون الإيمان القويم، وأيضاً من المناهضين لأصحاب الفكر الديني الأعوج لكنهم يشتركون معهم في ازدراء الشهداء وتضحياتهم، وهو ما عزّزه الكاتب عبر القصص التي باتت تتوارد على ألسنة المحيطين بهم من أن الشهداء يقومون بعروض عسكرية، وأنهم شكّلوا محكمة عسكرية، وأخرى تحت مسمّى محكمة الوفاء والتضحية، وثالثة باسم الإخلاص والشرف، وأن الشهيد ورفاقه محاربون أشداء لا يهابون الموت، ولا يخشون رؤية الدماء، وقد تمّرسوا بقتال أعدائهم ولا يعرف الخوف طريقاً إلى قلوبهم. 

كلّ ذلك الرعب الذي أصاب المنافقين وناكري المعروف جعلهم أقرب إلى المجانين والمعاتيه، خاصةً مع تكرار ظهور الشهيد في مناماتهم، إذ حتى بعد أن اجتمعوا لتدارك الأمر وبدأوا الابتهال والدعاء لله أن يكفيهم شرّ الشهداء وما يضمرونه لهم، وسعيهم لتفريق صفوفهم وتعميم الفتنة بينهم، من خلال نثر الشبهة حول بعضهم والمديح والثناء على البعض الآخر، إلا أنهم فشلوا في تحقيق مآربهم، إذ عاد الشهيد ليوبّخهم واحداً واحداً. 

وبلغ الخوف أشدّه حتى باتوا يعتقدون أن هناك من يكتب فيهم تقارير للشهيد عن كل أفعالهم المنافية للأخلاق، وأنهم أصبحوا بأمسّ الحاجة إلى من يرقيهم من لعنة الشهداء، كلّ ذلك الرعب أذهب عقول المنافقين بعدما زادت وساوسهم، ما اضطرّ ذويهم من زوجات وأبناء أن يضعوهم إما في مشافٍ للأمراض العقلية، أو يحجرون عليهم في غرف مخصصة لمثل حالتهم، خشية الفضائح التي ارتكبوها بحق أنفسهم، نتيجة مُمَالآتهم للشر، ونكرانهم للفضيلة، ولقيمتي الوفاء والإخلاص، فضلاً عن كفّ أيديهم عن العمل في الشأن العام إذ يكفيهم ما خرّبوه ودمّروه ونهبوه. 

هذا الوضع دفع الناس للخروج إلى الشوارع والساحات احتفالاً بإسدال الستار على مرحلة تاريخية مظلمة، وانبلاج شمس مرحلة جديدة تشرق من أجل الحب والحرية والعدالة والأمان والكبرياء والكرامة، وانتصاراً للحقّ الذي كَلَّل ثورة الشهداء بالنصر كما هتفت حناجر الناس.  

ومما جاء في مقدمة الرواية بقلم "أحمد مصطفى جابر": "هذا النص ليس رواية عادية لقصة ببداية وحبكة وخاتمة، بل هو أشبه بمرافعة عامة، يلقيها محام ضليع، سارداً سجل الاتهامات، وأسباب الإدانة. في نصه هذا يدخل محمد أبو ناموس شخصية غير معتادة، الشهيد، الذي يحيله واقعاً من لحم ودم ليكون صاحب الادعاء. والشهيد هنا هو كلّ تلك القيم والمبادئ المهدورة على مذبح الجشع والدناءة وانحراف التفكير، بل الخيانة".

وأضاف: "وعندما يستحضر المؤلف عالماً موازياً، فإنه يريد ربما القول إنه من الممكن تحقيق عالم جديد تزول منه شوائب العالم الأول ويرجع إلى صراط مستقيم من القيم والانتماء الأصيل. فالشهيد هنا هو الواقع المشتهى في مواجهة واقع مشوّه، هو الحلم الذي يجب أن يتحقّق في وجه الكابوس المطبق على أرواحنا، الشهيد هو الصوت الأصلي للشوارع والأزقّة والبيوت في مخيمات ومدن وقرى مستباحة مهدورة الحقوق".