"حكايات أجساد متألمة": ملحمة فنية لمنار حسن

حسن، علاوة على معاناتها المباشرة، غاصت في متاهات المرض وهي تبحث فيه، وتعالجه، وتستكشف أسراره، وتُخرجه إلى الملأ أعمالاً فنية، منها ما هو فيديو متحرك، ومنها ما هو تشكيلي برؤىً متنوعة. 

  • منار حسن
    منار حسن

في 5 سنوات من العمل الفني المركّب تحت عنوان "حكايات أجساد متألّمة"، عالجت الفنانة البيروتية منار علي حسن ارتدادات الآلام المبرحة، والدائمة على الانسان، عبر روايات عن معاناة 6 سيدات بمرض "الفايبروميالجيا" (Fibromyalgia)، المتسبب بالولادة، وربما بالوراثة، إضافة لمعاناتها الشخصية به.

تحوّل عملها إلى معرض فني إفرادي أوّل لها، أقامته في "غاليري جانين ربيز" في بيروت، وفيه العديد من الأعمال، واللوحات بمقاسات صغيرة، متجمّعة في مجموعات ترمز إلى حكاية كل سيدة من السيدات التي التقت الفنانة بهن، واستمعت منهن إلى رواياتهن مع المرض.

حسن، علاوة على معاناتها المباشرة، غاصت في متاهات المرض وهي تبحث فيه، وتعالجه، وتستكشف أسراره، وتُخرجه إلى الملأ أعمالاً فنية، منها ما هو فيديو متحرك، ومنها ما هو تشكيلي برؤىً متنوعة. 

تتحدث حسن عن موضوعها وترى أنه "تحت وطأة الشدة، لا بد لنا من إعادة النظر في حياتنا وتعريفها من جديد حفاظاً على هوية ذاتية صادقة". 

بالرسم، والفن ككلّ، يمكن للفنان اللجوء لطرح اسئلة وجودية والبحث فيها، وتقول حسن حول ذلك: "يلقي التعمق في روايات الأمراض المزمنة الضوء على طبيعة هذه التجارب التي تعطل مسار الحياة، وكشف معانيها، وإقامة روابط شاعرية قاتمة بين الهوية، والعلاقات الشخصية، والوصمات الاجتماعية".

ورأت أن "هذه الأعمال تكريم لمرونة وصلابة أولئك اللاتي يعانين من الألم المزمن، وهي شهادة على رباطة جأشهن، وصمودهن وسط تجارب الحياة ومحنها"، وتصف الفنانة اللبنانية أعمالها بــ "طباعة الاشتداد ومحاصرة الأجساد المتشنجة".

ويبدأ العرض عند يُمنة الصالة بالقسم الأول من مجموعات واسعة من الأعمال، ترمز إلى حكايات السيدات وفق رؤية وتحسّس الفنانة، وتفاعلها مع معاناتهم الشبيهة بمعاناتها، والمجموعة حبر وخياطة يدوية على مواد مختلفة، تصوّر، كما تقول في نص مرافق،إن: "الانصهار والانهيار الموجع للمكان والزمان، وتوحدهما حيث يعاد تركيب مفهوم الجسد المتألم باعتباره مجموعات عالقة من التشوهات تنصهر فيه الأشكال، وتذوب وتتقطع في عدة ميادين".

وترافق هذه الأعمال شفافية تحمل في طياتها حلماً، أو احتمال عوالم أخرى مغايرة للعالم القائم المؤلم.

ومن ضمن هذه المجموعة، تقيم حسن نشيداً لبيروت، بصيغتين، شاعريّة نصيّة، وبأعمال فنية متعددة، تعتمد الطباعة والخيوط البيضاء وبعض ألوان مغايرة للسواد الطاغي في بقية المجموعات، وذلك حبّاً بمدينتها.

بعد ذلك، تتصدّر الصالة جدارية سوداء تحتوي المجموعة الثانية، أكريليك على أكفان الدفن - القماشة المستخدمة لتحمل حالات الألم، والمرض بحسب مخيّلة حسن، وفيها 7 أعمال تشبه إلى حدٍّ بعيد الصور الشعاعية للجسد، وتتضمن شروحات عن مواقع الألم وأبعادها الطبية والانسانية، ويوحي تموضعها في إطار أسود، بالمصير البائس للجسد، و"يدفع بالانسان للتساؤل عن المصير ما بعد الجسد، واحتمالات قوى غير مرئية تحكم الكون والحياة"، بحسب تعليق للفنانة. 

تعتقد حسن أن "التمعن في الحبر المحسوس والملموس، والخلفية التجريدية يُذَكّر بإمكانية تخطي حاجز الجسد، ويدفع للاعتقاد أن الجسد لم يعد يحتوي ويحمي ويقيّد صاحبه، بحسب ما هو سائد، إنما يحث على التفكّر بزواله، واحتمالات التحرر خارج قيوده الحسية".

على يسار المدخل، نصب أسمته حسن "الساحر المقدس"، وهو تمثال رمزي مركب من علب أدوية فارغة استهلكت المشارِكات مادتها للتخفيف من آلامهن، وجمعت العلب على مدار 3 سنوات.

تنتقد حسن عبر النصب عوالم الاستهلاك، والاستغلال الرأسمالي لصحة الانسان وآلامه، لا سيما عوالم القطاعات الطبية وصناعات الأدوية، حيث ينتشر الترويج المكثّف والمبالغ به لأدوية تخفّف الاوجاع بغض النظر عن آثارها السلبية، ولا يسعى مخترعوها لوسائط شفاء حقيقية من الامراض طمعاً باستمرار الربح.

ثم مجموعة "آثار حارقة"، وهي طباعة باردة على ورق أبسون (Epson) مكوّنة من 7 لوحات تصويرية، تعبر عن حالة مريض بصورة تعبيرية - رمزية، يعاني الألم في فراشه الليلي، ويتلوى أرقاً وألماً، تكاد كل لوحة منها تنطق بالوجع والمعاناة.

وتقول حسن إن: "هذه اللقطات تصوّر بقايا الألم العابر في الجسم، وما يخلفه من آثار بعد ليلة صامتة من الأرق حيث يتجلى شكل حياة تعكر صفوها عن الصدى المكتوم، ووجه الألم الشرس والخفيّ على الجسد المحسوس".

نهاية الصالة عُلّقت أعمال متدلية من السقف، وهي طباعة بالأسود، رمزية تجريدية على 7 قطع قماش شفاف من الأورغنزا، ترمز كل قطعة لرواية سيدة من السيدات وفق تصوّر الفنانة لما سمعته وعاشته وشاركت به بقية النساء.

وتقول حسن (1980) إن هذه الاعمال: "تمثل تجربة النساء السبع، وتركّز على مواضع الألم بهدف إبراز عدة أوجه للتجربة الانسانية، فيها ألم متواصل وأجساد عالقة في وجود ثابت، تحكمها وتقيّدها قبضة قوى غير مرئية".

وبين الأعمال، وزعت الفنانة 3 فيديوهات، تروي معاناة المتألمين، وهي:  فيديو "الكلمة وما فيها" (3 دقائق)، يغوص في الألم وتعكس تعابيره اللغوية وصوره وارتداداته في الأجساد. فيديو "عن تلك الحياة" (4 دقائق)، وهو دراسة بصرية تستند إلى روايات فردية وتعكس وجهات النظر الشخصية الحميمة لنساء يتحملن وزر العيش في جسد متألم.

ثم فيديو "تلك الآلام التي تجمعنا" (4 دقائق)، وفيه تأمّل حميم في تجربة والدة الفنانة مع المرض، وفي عدم سماحها لهذا الألم على شدته بأن يهدد قدرتها على التصرف العادي أمام الآخرين.