"حنونة" الدراما السورية ثناء دبسي.. وداعاً

بعد مسيرة فنية لنحو 65 عاماً استحقّت فيها لقب "الأم الحنون في الدراما السورية". ماذا تعرفون عن الفنانة الراحلة ثناء دبسي؟

بعد مسيرة فنية قاربت الـــ 65 عاماً، رحلت الفنانة السورية القديرة ثناء دبسي عن 83 عاماً بعد صراع مع المرض، زارعةً في وجدان كلّ من حضرها نبرة صوتها الصافية، وابتسامتها فائقة الرِّقة، وسَماحة وجهها، وقدرتها على تذويق الأمل، وجبروت ثقتها بكينونتها كممثلة، ما جعل منها جديرةً بلقب "الأم الحنون في الدراما السورية".

عشرات الشخصيات بين البسيطة والمركّبة جسَّدتها هذه الممثلة باقتدار، رافعةً من حساسية وفعالية الأداء التلفزيوني، الذي ينبني عندها على فصاحة التجسيد، ووسائل تمكينه، من ذكاء التعاطي مع ملامح الوجه، وطبيعية أداء الجسد وحركاته، والتَّحكُّم المديد بالصوت ومعناه، والفهم العميق لنفسية الشخصية ومحاكمتها من منظور ثقافة المجتمع المحيط بها، كلّ ذلك وغيره، مكَّنها من الاستئثار بقلوب المشاهدين، وبات النقّاد يشيرون إليها بالبنان كنموذج عن الممثّل المثالي.

وصلت ابنة حلب المولودة عام 1941 إلى هذه المكانة بعد أن بنت تجربتها على أسس المسرح المتينة من خلال الكثير من القراءات والتعمُّق، ومن ثم اختمرت عبر العروض التي ميَّزتها بحضورها الراقي والذكي، ابتداءً من مشاركاتها كتلميذة في الحفلات المدرسية بمدينتها الشهباء، حيث تعلّمت في المرحلة الإعدادية رقص السماح وغناء الموشحات والقدود والتمثيل، على يد الموسيقي الراحل بهجت حسان ومحمد خيري وأحمد الصابوني، وذلك ضمن فرقة "نادي المسرح الشعبي"، الذي أقام حينها العديد من الأنشطة الفنية على خشبة "مسرح دار الكتب الوطنية" في حلب.

وعند انطلاقة المسرح القومي في سوريا عام 1960، كانت دبسي مع أختها الأصغر ثراء من أوائل الفنانات المنتسبات إليه، بعدما اختارتهما اللجنة التي أرسلتها وزارة الثقافة من دمشق إلى حلب لاختيار ممثلين وممثلات، وبعد إقناع والدهما المُتنَوِّر وعازف العود، بالتعاون مع إخوتهما في الوطن والمغترب، بأن الفن دليل على ثقافة الشعوب، وبهذا تركتا دراستهما الثانوية وانتقلتا إلى فرقة المسرح القومي في دمشق، لتُعدّا من الرائدات فيه، وشاركت ثناء عام 1961 وهي في العشرين من عمرها بأول عمل مسرحي لها مع تلك الفرقة وكان بعنوان "شيترا" عن نص للشاعر الهندي طاغور، ثم تلتها مسرحية "أبطال بلدنا" تأليف المصري يعقوب الشاروني في العام ذاته.

شغفها بالمسرح جعلها تقدّم في بعض السنوات 3 أعمال مسرحية متتالية، كما حصل عام 1962. إذ شاركت بمسرحية "الأشباح"، ومن ثم "مروحة الليدي وندرسير"، وبعدها "رجل القدر"، لتتوالى شخصياتها في المسرح الذي تعدّه مدرستها الفنية الأهم بأعمال مدرسة الفضائح 1963، "لو رآنا الناس معاً" و"الأخوة كارامازوف" و"هواية الحيوانات الزجاجية" عام 1964، ثم "الشرك" 1965، و"عرس الدم" 1966، و"التنين" 1968، و"زيارة السيدة العجوز" 1971، و"البخيل" 1975، و"أنتيغون" 1975، و"الأشجار تموت واقفة" 1976.

وبعد هذه العروض توقّفت سنة 1978 عن العمل في المسرح لتعود إلى الخشبة بعد 22 عاماً وللمرة الأخيرة من خلال عرض "تخاريف" سنة 2000 من إخراج صهرها ماهر صليبي.

أما عن أول ظهور لدبسي في الدراما التلفزيونية فكان في مسلسل "ساعي البريد" عام 1963، وبعده بسبعة أعوام شاركت في مسلسل "حارة القصر"، إلا أن حضورها المميّز كان عام 1977 من خلال المسلسل التاريخي "هارون الرشيد"، لتليه العديد من المشاركات في كل من مسلسلات "شجرة الدر"، و"سيرة آل الجلالي"، و"رسائل الحب والحرب"، و"الحكاية الثانية من سيرة بني هلال"، و"الأميرة الخضراء"، و"الذئاب"، و"أبو كامل"، و"قلوب خضراء"، و"باب الحديد"، و"ترجمان الأشواق".

ومن الشخصيات التي أدّتها دبسي بطريقة لا تنسى وكانت بصمتها فيها وازنة على المشاهدين، شخصية الآنسة كفاية في مسلسل "الفصول الأربعة"، وأبرزت عبرها صورة نموذجية عن المعلمة المثقفة التي تركت أثراً طيباً في نفوس طالباتها.

وأيضاً في المسلسل الاجتماعي "قوس قزح"، حيث أدّت فيه دور "أم سعيد"، صمام أمان العائلة وميزانها الصادق الذي لا يخيب، كما شاركت دبسي ببطولة مسلسل "عصي الدمع"، وقدّمت عام 2006 واحداً من أروع أدوارها من خلال المسلسل الاجتماعي "غزلان في غابة الذئاب"، الذي ترك بصمة كبيرة في ذاكرة السوريين، حيث جسّدت دور الأم الأرملة التي تعيل ابنتيها في منزل بسيط.

اتسم أداء الفنانة الراحلة بالدراسة الواعية للحالة النفسية للشخصية، مع قدرتها الفائقة على ضبط انفعالاتها، وتحمّل مظالم الحياة، ومن ذلك ما جسّدته في مسلسل "زمن العار" لأم عاجزة، إلى جانب مشاركاتها في "عشاء الوداع"، و"بنات العيلة"، و"الواهمون"، الذي قيس فيه أداؤها بميزان الذهب.

وفي غمرة غيابها عن المشاركة ضمن الدراما التلفزيونية في السنوات الأخيرة، باحت في أحد حواراتها أنها تتمنى لو تعود الدراما السورية إلى سابق عهدها مع أعمال لها هويتها المميّزة، وإبداع صنّاعها الفريد، مع همِّهم في الارتقاء بدراماهم، ومع شركات إنتاج تفي الفنان حقه المادي، منتقدةً المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني التي "لا تحترم جهد الممثل وتاريخه"، معلنةً أنها قبلت العمل في "ترجمان الأشواق" لمحبتها بالشخصية بعيداً عن الأجر.

كما عبَّرت دبسي في لقاء آخر عن رغبتها بعودة الدراما الحلبية، معتبرةً مسلسل "كوم الحجر" من أهم الأعمال البيئية السورية، عازيةً سبب غياب ذاك النوع من الدراما، إلى سيطرة العاصمة على الإنتاج، والرضوخ لسوق القنوات العارضة التي باتت تميل إلى  الأعمال الشامية الساذجة التي تخلو من العمق في الطرح.

ثقافة هذه الفنانة الحقيقة جعلتها لا تقبل بالمشاركة في أعمال من دون مضمون، أو التي جاءت من أجل تخريب الدراما السورية الصافية، من مثل "الهيبة" التي صرّحت بأنها لا تشارك فيه ولو أعطوها الملايين، لأنَّه "يُجمِّل جرائم القتل وترويج المخدرات".

لم يقتصر حضور ثناء دبسي في الدراما التلفزيونية وقبلها المسرحية، بل إن لها مشاركاتها السينمائية المهمة بدءاً من أول ظهور لها عام 1972 بفيلم "المخدوعون"، الذي يعدّ من أهم 100 فيلم عربي في تاريخ السينما العربية، ثم أفلام "اللجاة"، و"قيامة المدينة"، و"حدودة مطر". وفي العام 2008 كان لها حضور في الفيلم القصير "شوية وقت". ولا يمكن أن ننسى إبداعها المميز في إذاعة دمشق التي قدّمت فيها العديد من الأعمال إلى جانب أختها الفنانة ثراء الدبسي.