"سمو" سمير رحمة.. أصالة النحت

معظم أعمال المعرض تحاكي في فكرتها الرئيسية "سمو الإنسان الروحي"، وهو ما برز بوضوح من خلال أنماط البشر، الريفيين بأغلبهم، الذين تماهوا مع بيئتهم.

"العمل النحتي ليس مجرد كتلة تطفو في الفراغ، بل لا بدّ من تضمينه تعبيراً غنياً بالروح، يعطيه بُعداً فلسفياً وعاطفياً سامياً. وإنّ أصالة أي منحوتة تعني مطابقتها لشخصية الفنان وكأنها جزء منه، ما يجعله مرتبطاً بالبيئة الحقيقية لمجتمعه". بهذه العبارات اختصر الفنان السوري سمير رحمة، فلسفته المتعلّقة بمعرضه الفردي الأول بعنوان "سمو" في صالة مشوار في دمشق. 

40 عملاً يلخّص من خلالها رحمة رؤيته للنحت، القائم على تبسيط الشكل إلى أقصى حد، وتثوير قدرته على أن يحمل في تفاصيله شحنات تعبيرية كبيرة، وبرغم ذلك فإنها لا تبدو نافرة على الشكل، وإنما مندغمة معه، ومتوائمة مع روحه، وكأنه في ذلك يعتمد على تقشير الخامات القاسية التي اشتغل عليها، وإزالة الفائض منها، مع المحافظة قدر الإمكان على جماليات الفكرة التي يريد طرحها من كل عمل خاصةً في اشتغالاته على موضوعة السُّموّ.

لذلك ترى معظم منحوتاته تحمل معها نموُّها الداخلي نحو الأعلى، بحيث أن فلسفته النحتية لا تقتصر على جعل أشكاله باسقة وتتطلَّع إلى فوق، وإنما ثمة ما يُغذِّي نسغ الرخام أو الطين أو الخشب أو حتى البرونز، لدرجة يستطيع المتمعِّن فيها أن يستخلص التَّروي في استنطاقها عبر الزمن، والسَّعي الحثيث المُتعلِّق بالاهتمام بالتفاصيل، وكأن النَّحت، كما يراه رحمة، أشبه بالعناية بنبتة بكلّ ما يعنيه ذلك من عمليات داخلية وخارجية متوائمة في ما بينها، وتحقّق أقصى قدر من الاندغام بين المادة وفكرة النحّات عنها. 

رحمة لا يكتفي بذلك، بل يؤسس تجربته في هذا المعرض على حوار عميق بين الكتلة والفراغ، تتجسّد نتائجه في تكثيف ملحوظ ينطلق من الواقع وصولاً إلى حلول تجريدية خاصة، لا تتخلى عن مرجعياتها الأساسية، بل تسعى ما استطاعت للمحافظة على جوهر البوح، ومَنْطَقَته بشفافية خاصة، ترتكز على مخزونه البصري الثري، وإحالاته على الكتلة، حتى لكأنه يستخلص من الرخام رهافته، ومن الطين روحانيته، ومن البرونز صفاءه، ومن الخشب براءته الأولى، وبنظرة أبعد من ذلك، يمكن القول إن رحمة يعتمد بأسلوبه السهل الممتنع على تبسيط الشكل واختزاله ما أمكن، مع المحافظة على مضمون غني ومشحون بالتعبير الداخلي الهادئ. 

معظم أعمال المعرض تحاكي في فكرتها الرئيسية "سمو الإنسان الروحي"، وهو ما برز  بشكل واضح من خلال أنماط البشر، الريفيين بأغلبهم، الذين تماهوا مع بيئتهم، وقام رحمة بإعادة بناء ذاك التماهي بطريقته الخاصة، جاعلاً للتنميط الشكلي للإنسان بزيِّه التقليدي أبعاداً جمالية، خاصةً ما يتعلَّق بنساء الريف، ليلجأ في أعمال أخرى إلى لعبة التركيب بين الكتل لإنشاء الشكل النهائي، ما أتاح نوعاً من الحيوية للمنحوتة، بحيث باتت قادرة على التنفّس أكثر، بعدما تخلَّت عن كتامَتها وباتت أكثر مرونة في علاقتها بالفضاء المحيط بها. 

اختلاف الخامات التي اشتغل عليها رحمة وضع المتلقّي لأعماله أمام غنى إضافي، وزاد من أثر ذلك الحوار الذي كان يجري بين المنحوتات وظلِّها، أو حتى بين كل منحوتة وانبثاق تفاصيل جديدة بعد التَّمعُّن فيها من جوانبها المختلفة، والحركية التي امتازت بها العديد من الأعمال عاكسةً بساطة وعمقاً وروحانية عالية، بحيث بات كل عمل يحمل في ثناياه خصوصيته من فكرة الفنان عن الشكل، إلى المادة التي اعتمدها للتنفيذ، وما حملته أعماله من دلالات إضافية.

التقت "الميادين الثقافية" الفنان سمير رحمة، الذي يرأس قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وقال عن معرضه: "سعيت في معظم الأعمال لتجسيد مفهوم السمو ليس على صعيد الشكل فقط، بما يعنيه من امتشاق نحو الأعلى، بل الأهم ما يحمله من شحنة عاطفية وتعبيرية، بعيداً عن مشاكل الحياة اليومية وضوضائها، وهو ما استدعى تبسيطاً في الشكل وتأكيد روحيته قدر الإمكان، وبصراحة لم يكن ذلك سهلاً أن تعزّز روح الإنسان في الكتلة الصماء وصولاً إلى الهدوء الراقي الذي يمكن أن نطلق عليه صفة السموّ". 

وعند سؤالنا كيف استطاع جعل منحوتاته مطابقة لشخصيته أوضح رحمة أن "هذا يتطلّب خبرة طويلة، حتى يكون عملي النحتي يشبه شخصيتي، وطبعاً لا يتحقّق ذلك إلا من خلال حوار طويل مع الكتلة، للوصول إلى صيغة السهل الممتنع في الفن، ومن أجل تحقيق التوازن والبقاء على الحد الفاصل بين أن يكون العمل ساذجاً أو بين أن يكون مبالغاً فيه". 

ويعتبر رحمة أن الانطلاق من الواقع هو اللبنة الأولى في الفن، مبيّناً أن وجود الشكل الإنساني في أعماله هو ما أعطى حياةً للكتلة، ولفت إلى أنه مع التدقيق في المنحوتات، "نشهد تطوّراً من الواقعية باتجاه التجريد شيئاً فشيئاً، وذلك بشكل طبيعي وتلقائي، على اختلاف الطريقة في تحقيق الشخصية الفنية وتطويعها من خلال خامات متنوّعة".

وحول التنوّع قال: "لكلّ خامة خصوصية في التعامل معها، ومع الزمن والخبرة بات الموضوع بسيطاً، لكن يبقى الأساس هو الحوار بيني وبينها من أجل استخلاص الأشكال التي أريدها، ولا سيما أن هناك بعض الخامات العنيدة التي لا تتيح لك بسهولة تحقيق ما تريده منها".