"مغيب القمر" لِشتاينبك: الوعي الجمعيّ ضد الاحتلال

يقدّم شتاينبك في روايته نصّاً معرفيّاً يُسائل العلاقة بين الشعب المُحتلّ والغُزاة. ويؤرﱢخ الذاكرة الجمعية الأوروبية مقترحاً إمكانات سردية جديدة تعيد للمقاومة دورها الفاعل.

  • "في مغيب القمر" لِجون شتاينبك

إذا كانت بعض روايات المقاومة العربية والعالمية قد تبنّت الخيار العسكريّ المباشر في مواجهة الاحتلال، وبعضها ذهب إلى نوع من المقاومة السلمية الناعمة التي تراهن على الزمن في تغيير موازين القوى، فإنّ رواية "في مغيب القمر" لجون شتاينبك تزاوج بين نوعَي المقاومة المذكورَين؛ فهي تارَّةً تُحرﱢض على الأعمال العسكرية المناوئة للاحتلال وتارَّةً تدعو إلى مقاومة صامتة عميقة لا تعترف بالمحتلّ. بل ترفضه وتتشبّث بالهوية الوطنية في وجه محاولات الإلغاء والامّحاء مُخاطبةً الوجدان الجماهيريّ منبّهةً الوعي الجمعيّ إلى خطورة التعاون معه على اعتبار أنّه أمر واقع.

الرواية، التي صدرت عن دار "النهضة المصرية" ونقلها إلى العربية ثروت أباظة وعبد الله البشير، تبدأ بسرد قصة احتلال الجيش النازيّ لبلدة نرويجية صغيرة واستيلائه على مناجم الفحم فيها، من دون مقاومة تُذكَر.

 فور وصول الجنرال النازيّ "لانسر"، الذي يشغل منصب الحاكم العسكريّ لهذا الإقليم المحتلّ، إلى قصر العمدة أوردن يبدأ بمحاولة اجتذاب العمدة المحبوب من شعبه، مادّاً خيوط التعاون معه بإغرائه بتثبيته في موقعه. غير أنّ العمدة "أوردن" يرفض بدبلوماسية عروض الكولونيل "لانسر" الذي قال له "إننا سنبقي على حكومتك، وستظلّ أنت العمدة، تصدر عنك الأوامر ويوقَّع الجزاء بأمرك وتمنح المكافآت بمشيئتك... وهكذا لن يثير الأهالي اضطراباً". فيجيبه العمدة أوردن: "لكنّ قومي انتخبوني. إنهم بيدهم جعلوا منّي عمدتهم، ويستطيعون بيدهم أن يزيلوني من منصبي، وسيفعلون إذا ظنّوا أني تحالفت معكم".

 في مقابل شخصية العمدة "أوردن"، التي تجسّد المقاومة السلمية الناعمة الرمزية وتظهر ثباتاً وصبراً ورفضاً، تظهر شخصية خائنة أو متعاونة علناً هي شخصية "كوريل"، التي تجسّد الخيانة وتشبه شخصية "بوشوشة" في رواية "اللاز" للطاهر وطَّار في الرواية الجزائرية. هذه الشخصية التي تقدّم الخدمات والمعلومات للعدوّ والتي تمكّنه من احتلال الأرض وملاحقة المقاومين مقابل الحماية والوعود بمنصب رفيع في الإدارة الجديدة والحكم الجديد للبلاد. لكنّ "شتاينبك" يبيّن مصير "كوريل" واحتقار المحتل له قبل المواطنين في أحد الحوارات، حيث يقول أحد القادة المحتلّين لكوريل ضمنيّاً إنّه لم يعد مفيداً لهم. فيظهر كوريل شخصيةً تافهة ومُهانة، رغم خدماته السابقة وتقديمه المعلومات اللوجستية التي سهّلت احتلال البلاد. وهذا تأكيد أنّ الخيانة لا تضمن كرامةً ولا قيمةً، ومصيرها دائماً هو العزلة والاحتقار والتدمير الذاتيّ كعاقبة للعمالة والخيانة.

إلى جانب أوردن وكوريل تظهر شخصية "آني"، وهي الخادمة والطبّاخة في منزل العمدة. وهي شخصية ساخطة غاضبة تجسّد الرفض الشعبيّ العفويّ والصادق وتنامي روح التمرّد بين السكان العاديين رغم بساطتها ومحدودية تعليمها.

تمهّد آني لظهور شخصية محورية في الرواية هي شخصية "مولى" التي قتل المحتلُّ زوجها لرفضه الامتثال لأوامره، فتثأر له بقتل أحد ضباط الاحتلال، الذي حاول اغتصابها، بمقصٍ كانت تخبّئه بين طيّات ثيابها.

تتنامى الروح المتمرﱢدة الرافضة للاحتلال، وتتزايد العمليات السرّية ضدّه ويتكشَّف شيئاً فشيئاً القناع الذي يتوارى خلفه الوجه الحقيقيّ المقاوم للعمدة، لا سيّما بعد تسريب معلومات للكولونيل مفادها أنّ العمدة قام بمساعدة "مولى" على الهرب والاختباء من ملاحقة جنود الاحتلال لها. 

يضيق الاحتلال ذرعاً بمناورات العمدة فيقرّر اعتقاله وبعدها إعدامه. فيمضي العمدة إلى مصيره المحتوم بعد أن أوقد شعلة المقاومة في وجدان الشعب تاركاً ضباط الاحتلال وجنوده غارقين في مستنقع الهزيمة والتمزُّق الداخليّ وفقدان الثقة بالمهمة الموكلة إليهم، وهي احتلال الأرض وقهر الإنسان. وهي مهمة لا قيمة لها، ومرفوضة أخلاقيّاً. مضى العمدة إلى مصيره تاركاً الغزاة محاصرين بالاغتراب واللاجدوى، غرباء معزولين في أرض لا ترحّب بهم. وهذا ما عبّر عنه الكولونيل لانسير، المثقّف الضائع بين صرخات ضميره وأوامر مؤسسته العسكرية، بقوله لأحد جنوده "كلّ احتلال يظنّ أنّه الأوّل، لكنّ الناس لا يُحتلّون إلى الأبد".

 "في مغيب القمر" معمار روائيّ يُعيد للمقاومة أصالتها الوجودية وطاقتها على إعادة التشكُّل، وقد نجحت في تحويل البلدة إلى فضاء روائيّ أوروبيّ رمزيّ للانعتاق من سطوة الاحتلال النازيّ، وقدّمت المقاومة بوصفها فعلاً حرّاً ومفتوحاً على إمكانية التغيير من دون أن تتجاوز الطابع السياسيّ للحرب العالمية الثانية، ومن غير أن تتجاوز البنية الاجتماعية التي نشأت وترعرعت فيها هذه المقاومة. وقدّمت شخصيات الرواية بوصفها كيانات اجتماعية غير معزولة، بل بوصفها تمثيلات متعدﱢدة للشعوب الرازحة، رغماً عنها، تحت الاحتلال... هذا الاحتلال الذي يهدف إلى محو الهوية الوطنية ونهب ثروات الشعوب.   

شتاينبك يقدّم لنا في روايته نصّاً معرفيّاً يُسائل العلاقة بين الشعب المُحتلّ والغُزاة، بين الهوية والإلغاء. ويؤرﱢخ الذاكرة الجمعية الأوروبية مقترحاً إمكانات سردية جديدة تعيد للمقاومة دورها الفاعل في إنتاج الأوطان الحرّة، السيّدة، والمستقلّة. وذلك عبر شخصيات بسيطة وغير معقّدة تمكّنت من تقويض مركزية صوت الاحتلال الذي يشرعن إخضاع الشعوب وقهرها ونهب ثرواتها.                                                                                           

اخترنا لك