"هجرتان وأوطان كثيرة": حوارات مع إسكندر حبش

يعتبر حبش من أهم المترجمين العرب الذين عملو على ترجمة العديد من روائع الادب العالمي.

  • "هجرتان وأوطان كثيرة": حوارات مع إسكندر حبش

كاتبان، ولكلّ منهما مواقفه وتجاربه وأوطان كثيرة. تخبرنا الكاتبة اللبنانية المهاجرة إلى كندا دارين حوماني في مقدمة الكتاب: كيف تعرفت إلى إسكندر حبش كقارئة له أولاً منذ خمسة وعشرين عاماً، ثم في لقاء في جريدة "السفير" منذ سبع سنوات، وما لفتها فيه من صفات كان حبش يترجمه في الكتابة والحياة. ولعلّ قدرة الكلمات التي انتقلت بين الشاعر وقارئته، استطاعت أن تكسر هذا الحاجز الداخلي الذي وضعه الشاعر فتجذبه إلى الإفصاح عن تلك "الكسور الجوانية، ذلك الحزن الخفي"، عن رؤيته لعالم قلق، لهُويات ثقافية متعددة، لحروب مستعرة في داخلنا وفي الشرق الأوسط، لغربة في القصيدة أو غياب في اللوحة...كل ذلك في حديث صحافي أول مستنير، ثم ثانٍ وآخر ليتكوّن هذا الكتاب الذي بين أيدينا "هجرتان وأوطان كثيرة" لـ إسكندر حبش ودارين حوماني، الصادر عن "دار دلمون الجديدة" في دمشق (2023).

قد يظن المرء بأنّ المُجيب على السائل، سقط سهواً أو عن عمد في الضياع بسبب هوياته الكثيرة بيد أنّ الغنى في رده على جميع الأسئلة، يوضح للقارئ بأنّ حبش لا يبحث عن ذاته التي وجدها منذ زمن وإنما يرشد القارئ إلى بوصلة الاستقرار، إلى برّ السلام عبر القراءة. فالكاتب الذي ولد من هجرتين، إذ تعود أصول جدته إلى أرمينيا التي هاجرت منها إلى مدينة دورتيول، ومنها إلى حلب ثم عنجر فبيروت. أمّا عائلة حبش فتعود جذورها إلى فلسطين إلى عائلة "الحكيم" التي هُجّرت من "اللد" إلى بيروت. هو ينتمي إلى كل البلدان بالإضافة إلى سوريا التي عاش فيها طفولته الأولى وفترات من حياته، لبناني أصيل شكّله هذا الوطن وأتاح له الكثير من الفرص. ولعمري بأنّ الحبّ هو موطن الكاتب الأول والأخير، فهو الأوكسيجين الذي تنشقه منذ قراءاته الأولى في بيته الوالدي، وفي شبابه الأول يوم قرر أن يدرس الأدب في بيروت بدلاً من منحة الهندسة في ألمانيا. هذا الحبّ هو نفسه الذي حوّل دمشق أي "الشام" إلى مكانه المفضل، إلى حلم أثيري يحتاج إليه ويرتاح له.

صحيح أنّ إسكندر حبش لم ينتمِ إلى حزب معين أو تيار سياسي كما أفصح في المحور الأول من الكتاب (العائلة الوطن البدايات)، إنما كانت له مواقف وآراء، ولعلّ الكتابة سواء بالمقالات أو بالشعر هي سلطته السياسية، مستعيناً بمقولة رولان بارت "أن نكتب يعني أنّ نمارس سلطة". فنرى في ديوانه "تلك المدن" كيف يمارس الكاتب سلطته على المكان قائلاً: "حين لن تبقى لي تلك المدن...ستموت الليالي كلّها، وعند المساء، سيقتلع الحلم الحجارة، وهذه التماثيل الواقفة عند مجرى النهر، تنهيدات رطبة، من يبحث عن مركب يختفي فوق المياه؟ حين لن تبقى لي تلك المدن...ستموت الكلمات، داخل الكثافة، وفي الضباب، أتنشق العنب والسماوات التي تهبط عند قدم الحياة. أسأولد من جناح طائر يموت في السراب!..."

يفصح حبش في كتابه "هجرتان وأوطان كثيرة" عن موقفه المؤيد للمقاومة ضد الكيان الغاصب، ولربما هذا الموقف أفقده أصدقاء الأمس، بيد أنه في الحقيقة لا يأبى لذلك. فأحياناً، " سقوط الأصدقاء مفيد لتنشق الهواء النقي". هو الذي ولد في بيت قومي عربي، وفي كنف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد نجا من هستيريا الطائفية كما سمّاها، وبالتالي يدعو المثقف العربي إلى عدم الاستسلام لسلطة السياسي أو سلطة الديني، بل ويعتقد بأنّ الله براء من كل الأديان.

في هجرته أصبح حبش يرى اللامألوف كأنه وضع وجهاً لوجه أمام التاريخ في مواجهة الجغرافيا، وهي هنا لا تعني المكان فحسب، بل اللّغة والثقافة والعادات الجديدة أو الأصدقاء الجدد، ولربما هذا التجديد أحدث ثورة في اللّغة الشعرية عند حبش وحتى في مقاربته للأشياء والأصدقاء، الأمر الذي عكس فرادة في أسلوبه وصدقاً في تعبيره فولد الشاعر المجدد والناقد الثائر. إذاً، الهجرة هي الشمس التي أشرقت في فضاء تجربة صقلتها الأحزان فكانت إعادة خلق للشاعر. هنا، تلعب الأصوات الشعرية المهاجرة الأدوار نفسها، فكما حبش، كذلك حوماني التي صقلتها الهجرة أيضاً تجدداً في اللغة الشعرية وعمقاً في العمل الصحافي المختلف عن السائد. فقد استطاعت عبر أسئلتها الجريئة أن تجعل القارئ يقف وجهاً إلى وجه ليس عبر المُجيب فحسب بل عبر الذات، لتأتي الإجابات فتكسر صنم الأشكال ويتلاقى البحث عن الذات في الآخر. عندها، تتجلى الحقيقة...

ربّ سائل ما هي الحقيقة طالما أنها نسبية؟ الحقيقة هنا هي الحضور من نوع آخر، خلق من جديد، انبعاث حياة بعد عصارة تجارب، بصيص نور بعد أحزان شتى. هي ربح الرهان بعد خسارة أشياء أقلّ قيمة. في المحصلة، هي ولادة قصيدة أو كتاب ليعلن الكاتب (وأقصد الكاتبان) بأننا على قيد الحياة، للوقوف في وجه من حولوا الكوكب الأرضي إلى تدمير وتشرذم، وبالتالي للمحافظة على موروثاتنا الثقافية والحضارية في ظل العولمة القائمة. فتتّحد الأوطان الكثيرة بالكتاب. لأنّ الكتاب يحوّل المحن إلى كلمات وقصائد، فيخرج بعد مخاض الألم في النفوس التي لا تعرف ترجمة الاعتلال سوى بالكتابة.

إنّ كلّ من يقرأ "هجرتان وأوطان كثيرة" يقع على اكتشافات كثيرة فيه: في المحور الثاني للكتاب بعنوان "جريدة السفير"، نرى حبش المنقب عن بدايات مسيرته الشعرية والصحافية، عن بيروت في ثمانينيات القرن الماضي، متحدثاً عن دراسته في اليونان وتأثره بالفلسفة الإغريقية، عن تأثير الصحافة الورقية في الحياة الثقافية ما قبل الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي وما بعد هذا التحوّل...وصولاً إلى الكتاب الإلكتروني أو المسموع، حيث يقول: "أحبّ صوتي الداخلي عندما أقرأ. ومن يريد أن يقرأ عليه أن يجد الوقت لذلك". في الكتاب، يفتح القارئ المرحلة التي تلت إغلاق جريدة "السفير" التي شكلت هجرة ثالثة للكاتب، على حدّ بوحه، فنتلمّس مشروع كتاب جديد لتوثيق أكثر من خمسة وثلاثين عاماً في مدرسة صحافية عريقة، على الرغم من انشغالات حبش المتعددة. غير أنّ ما يثير الفضول فعلاً في هذا المحور هو رؤية إسكندر حبش لمقاربة كونيدرا لملحمة "الأوديسيه" الملحمة المؤسسة للحنين بحيث أسقطها على واقعنا المأزوم، مستنتجاً في الصفحة 54 من الكتاب: "نحن كائنات تاريخية لا يمكن أن نخرج من سياقنا المتعددّ، ربما لأن لا وجود لنا من دونه. للأسف، نحن كائنات لم نخرج من التاريخ. بل على العكس، ثمة خطابات تريدنا أن نعود إلى التمثل بحياة الأوائل، لنعيش ونفكر مثلما كانوا يعيشون ويفكرون، ثمة هوة كبيرة نعيش فيها..." أليست هذه حالنا فعلاً؟

ولعلّ قول حبش في مكان آخر: "على النقد أن يخرج من النص الذي نقرأه، لا أن نضع فوقه نظريات مستوردة لا تمت إليه - إلى هذا النص - بأي علاقة"، قد يصيب أي كاتب(ة) عن نصوصه ببعض الرهبة بيد أنّ النقد الصادق أثناء القراءة والموضوعية التي تتشكل أثناء الكتابة هما من العوامل الجريئة التي على المثقف أن يتحلّى بهما، وإلاّ فقد النقد معناه.

المحور الثالث في "هجرتان وأوطان كثيرة" عن الكتابة والشعر: 

يكتشف القارئ أنّ إفصاح الكاتب عن سبب كتابة الشعر لدليل دامغ على الشفاء من جروحات الحرب. حبش الطفل الذي كان يخاف من صوت القذائف يعترف بأنه حاول أن ينقل ارتجافه إلى الورق ليخفف من خوفه، الأمر الذي شكل لديه حالة من التوازن وفتح له آفاقاً رحبة في المستقبل. في هذا المحور، نبتسم لهذا القارئ النهم الذي كان يذهب مصروفه من والديه لشراء الكتب، نكتشف التحول الكبير الذي طرأ على حياته لمجرد قراءته للشاعر بيير ريفردي واقتران الصورة باللّغة الشعرية وإضمار المعنى أهم من الإفصاح عنه...ولعلّ أجمل ما يلامس القلب والعقل في هذا المحور هو قول حبش: "الكتابة هي محاولة أن تكتمل، ما من أحد يخرج سالماً من كتابة نص، صحيح أنه في أحيان كثيرة انعتاق وتحرر من شيء ما، لكنّه سرعان ما يعيدك إلى سجنه"...هي فلسفة حبش الخاصة، نراه متعمقاً ليس بالشعر فقط بل بفلسفة هايدغر بمحاضراته وبالتالي علاقة العمل الفني بالانفتاح، والسعي إلى الوضوح من خلال الشعر...

في المحور الرابع، تخصص الإعلامية حوماني أسئلتها عن الترجمة عند حبش نظراً إلى كثافة إصداراته في هذا المجال، والتي شكلت "جزءاً مكملاً لمشروع الكتابة"، على حد قول الكاتب نفسه. فيقرّ بأنّ الترجمة علّمته الكثير، خصوصاً في اطلاعه على نتاجات كبار الشعراء بوجوهها المتعددة وبتناقض تياراتهم الشعرية. قائلاً في الصفحة 115: "أميلُ إلى الترجمة الشعرية التي تجعلني أتواجه مع ذاتي، مع لغتي وبشكل مستمر لا يتوقف..."

في المحور الخامس عن الفن التشكيلي والذي يحاكي فيه الكاتب لوحاته بألوان تتيح له الخروج من ضغوطات الحياة الكثيرة. في هذا الفصل نكتشف ممارسة حبش فن الرسم باليدين كأنّه بذلك يخلق من اللّوحة قصيدة حرية في فضاء الألوان. فنراه يبوح بقصائد عن لوحات الفنانين.

وتبقى كلمة أخيرة لحلم العودة قرب شجرة في فلسطين، لمناجاة الموت في الشعر أو ربما لمواجهة الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن الهروب منها.