"وصفات سرية"... حين يغدو الوطن منزلاً دافئاً حميماً

تنطلق راعي من مقولة أندريه مالرو: "شخصية الإنسان هي مجموع أعماله" لتشتقّ شخصية روائية تنأى بها عن المقاومة التي تتخذ شكل الشعارات الجوفاء، وتمضي بها إلى مقاومة اجتماعية>

  • "وصفات سرية" لريمة راعي... حين يغدو الوطن منزلاً دافئاً حميماً

تكون الوصفة سرية في العادة عندما لا يراد لها أن تذاع وتنتشر، تنغلق على ذاتها محتفظة بأسرارها معطية لصاحبها ميزة خاصة لا يرغب مشاركتها مع أحد، غير أن  وصفات "ريمة راعي" السرية، الفائزة بجائزة سليماني العالمية والصادرة حديثاً عن "دار الولاء" في بيروت، تمنح لمأكولاتها نكهات خاصة ومذاقاً شهياً تحملها "حبيبة" شخصية الرواية الرئيسة وتدور بها، لتقدّمها علانية للمقاتلين على خطوط الجبهة الممتدة على طول ريف اللاذقية الشمالي المواجه لجبال إدلب، مشاركة منها في الحرب على الإرهاب على طريقتها الخاصة في تقديم الوجبات الشهية الطازجة للمقاتلين، تساندها في هذه المهمة الشاقة نسوة فقدن أبناءهن وأزواجهن في هذه الحرب المجنونة بين أبناء البلد الواحد. 

إحدى هؤلاء النسوة تقول إنها ستشارك في إعداد الطعام للجنود لأن زوجها الضابط في الجيش استشهد جائعاً، وأخرى تقول إنها تشعر أنها تعد الطعام لأولادها الخمسة الذين استشهدوا دفاعاً عن البلاد. أما "حبيبة" فقد تهجّرت من قريتها الجبلية في ريف اللاذقية ونزلت مع أبيها إلى المدينة بعد أن أفقدها المرض أمها والمسلحون أخاها، ولم يبقَ لها في هذه الدنيا إلا أبوها الذي يتذوّق الطعام ويعطي رأيه فيه قبل أن توزّعه على المقاتلين الذين افتقدوا رائحة طهي الطعام في بيوتهم الحميمية.

في رحلة توزيع الطعام المنزلي اليومية تقودها قدماها إلى معسكر شباب المقاومة اللبنانية العاملة هناك، لتتعرّف إلى مسؤول المعسكر "الحاج أثر" الذي يكبر فيها نخوتها وعطاءاتها وتكبر فيه رصانته ومناقبيته وأخلاقه السمحة فتنجدل نظراتهما لتشبك قلبيهما بأوثق عرى المودة والمحبة، ولا يتأخّر حب" أثر" لحبيبة حتى يعرض عليها الزواج، ولا تتأخّر هي في القبول به زوجاً لها رغم معرفتها ما يميّز قتال "أثر" عن قتال مواطنيها جنود الجيش العربي السوري الذين تنتهي مهمتهم بالقضاء على المسلحين الإرهابيين، والعودة بعدها إلى حيواتهم المدنية مواطنين مدنيين في بلد حر مستقل، أما هو فمهامه القتالية مفتوحة" سنكون حيث يجب أن نكون".

 يكبر في عينها فارس النور هذا على حد تعبير "باولو كويلو" وترضى به زوجاً: هل تقبلين الزواج بمجاهد لا يطمح من هذه الدنيا بكل ما فيها إلا أن ينال الشهادة، لكنك الحياة الوحيدة التي يتمنى أن يعيشها. كان من الممكن أن أصمت قليلاً، أو أن أتفوّه بمفردات مراوغة لا يمكن الثقة تماماً بمعناها، والتي لو كانت أمي حيّة كانت ستتمتم بها في أذني كي أقولها له، إلا أنني وبهدوء من بات يعرف أين ماؤه الخاص في الحياة، وجدت نفسي أقول الكلمة البسيطة السحرية: "نعم".

تقدّم "وصفات سرية" المقاوم كإنسان بمشاعره الإنسانية في حبه وحنينه وحزنه وتوقه إلى التواصل مع الآخر.  قلت له: ألا تنتابك الهواجس أو الشكوك؟ رفع حاجباً، وسألني أي نوع من الهواجس؟ 

- هواجس حول الطريق الذي اخترته، وحول الحياة التي تحدث في الطرق الأخرى.

- هل ترين أن طريقي لا حياة فيها؟

 - أظن أن احتمالات الحياة فيها أقل مقارنة بالطرق المتبقيّة.

- أنا إنسان، ولي صفتي البشرية، لكنني أهزمه بإيماني.

- أليست قاسية فكرة أن تكون محارباً أبدياً وتعيش حياتك كلّها أسيراً لسلسلة الدماء هذه؟

- قاسية ربما لكنني حين أكون بين خيارين: القسوة أو المذلّة وحني رأسي ورؤوس أبنائي من بعدي أمام عدو مجرم حينها سأختار القسوة. 

نحتت ريمة راعي شخصية "أثر" ليكون بطلاً أثيرياً مختلفاً عن الأشخاص العاديين من البشر، وأرسلت بطلتها "حبيبة" بعد أن تلقّت إجابات حاسمة عن أسئلتها إلى مهامها اللوجستية مفعمة باليقين والاطمئنان، لتقاوم على طريقتها تنظيمات مسلحة متأسلمة "تقتل على الهوية" اتخذت من الكراهية الدامية شعاراً واستنبتت من هذا الشعار الأسود ديناً جديداً، يجعل من السبي والذبح "جئناكم بالذبح" جزءاً من ثقافتها وحياتها اليومية.

تنطلق راعي من مقولة أندريه مالرو: "شخصية الإنسان هي مجموع أعماله" لتشتقّ شخصية روائية تنأى بها عن المقاومة التي تتخذ شكل الشعارات الجوفاء، وتمضي بها إلى مقاومة اجتماعية تشارك فيها المرأة إلى جانب الرجل وتمارس فعلاً ثورياً يعترف بالحاجات المادية للمقاومين، ويعمل على تلبيتها كبديل عن المنبرية الشعاراتية المرتاحة إلى وظيفتها الوعظية من أبراجها الآمنة. وكأنها بعملها السردي تردّد مع الإنكليزي ريموند ويليمز: "إن الثقافة نمط شامل من الحياة يأخذ به أفراد المجتمع جميعاً".

وبالموازة تضيء "وصفات سرية" حياة أمواج بشرية قادمة من بلاد بعيدة وأخرى قريبة كوّنت بمجموعها مجتمعاً هجيناً في مدينة إدلب وريفها المحاذي لريف اللاذقية. إنه تجمّع بشري لا تاريخ له، يضطرب وهو يبحث عن وجود مستحيل التحقّق، وهوية متوهّمة لجماعات غير منسجمة بسبب اختلاف مشاربها وقومياتها المتحدرة من جهات الأرض كافة، لا يوحّد أطرافه المتباعدة إلا رفض الآخر وعدم الاعتراف به.

هو تجمّع يتطلّع إلى إقامة هوية منسجمة وإن بإرادة جماعية غير منسجمة على أنقاض أرض واحدة ووطن واحد وتاريخ واحد وشعب منسجم، هب أبناؤه للدفاع المقدّس عن وحدة ترابه يعضده ويقف إلى جانبه أصدقاء وحلفاء لا يجمعهم التاريخ والحضارة والمصير المشترك فحسب، وإنما تفاصيل يومية وحياتية متجانسة لا تختلف حتى في مذاق الطعام. 

تمكّن قلم" ريمة راعي" من أن يرتّب تجربة التهجير وفوضاها عملاً سردياً متقناً، إن كان يفتقر إلى التنويع في أساليب السرد وتعوزه محاولات التجريب الفني فإنه أضاف لمشهد الحرب السورية ملمحاً من ملامح هذا الصراع أكثر. 

خصوصية وتميّز وأصالة كل ذلك جاء من بوابة المطبخ اللبناني السوري ذي اللون الواحد الذي يعكس هوية ثقافية واحدة، وكأن الكاتبة أوكلت إلى هذا الطعام مسؤولية تغيير مجريات الحرب، بل مسؤولية تغيير العالم من خلال الوقوف إلى جانب الدولة وحلفائها، وبانحيازها إلى محور الحرية والسيادة الوطنية ضد المشروع الغربي المتمثل بالتكفيريين. 

فالطعام في" وصفات سرية" أكثر من غذاء أنه يتجسّد في عاصمتها دمشق أقدم مدينة مأهولة في العالم، وهي أي الكاتبة تتطلع إلى الجذور البعيدة الممتدة في الزمن لتوحّد بين جنود الجيش العربي السوري وحلفائهم القادمين من لبنان، والذين تجمعهم بمن جاءوا لنصرتهم الأرض نفسها والهواء نفسه والمياه المتدفّقة من النبع الإنساني القديم ذاته.

أرادت راعي أن تقول إنه عندما تكون المدخلات الثقافية واحدة فإن الواقع سيكون واحداً، وكذلك المستقبل والهوية والمصير المشترك.

تأخذ العلاقة بين الفعل العسكري المقاوم وبين وصفات بطلة الرواية السرية ونكهاتها اللذيذة الهانئة شكل العلاقة التبادلية التكاملية، فحين تدرأ يد المقاومة أعداء الوطن تنشغل يد الأم بتحضير الطعام الهانئ للأسرة السعيدة الآمنة في منزلها الدافئ الحميم ليغدو الوطن كلّه في" وصفات سرية" منزلاً دافئاً حميماً.