"أكثر بكثير" لبسّام كوسا.. كسر العزلة بالكتابة

من الفن، يعرّج بسام كوسا إلى الأدب، فيقدم لنا رواية "أكثر بكثير" الصادرة حديثاً في دمشق.. ماذا قدّم لنا كوسا؟

أن يكون بطل روايتك هو حُطام رجل، فهذا يُلزمك أن تُلملم شظاياه وتُعيد لصقها بعناية فائقة من أجل تكوين صورته لتظهر كاملةً ومن دون عيوب. هذا ما فعله الفنان السوري بسّام كوسا في روايته "أكثر بكثير" الصادرة حديثاً عن "دار نينوى للنشر" في دمشق، فكيف إن كان ذاك البطل موغلاً في عزلته، وغريباً في تكوينه النفسي؟ فهو منذ لحظات ولادته الأولى خرج إلى الحياة ضاحكاً مقهقهاً بدل أن يكون باكياً، ساخراً من كونه "إبن حرام" ولدته أمّه من أجير النجار بدل والده العقيم، ليس هو فقط، بل أربعة من إخوته، الذين ماتوا إما بالمرض أو بـ"حكمة والده" السكّير عندما سقى إبنته العطشى من قنينة العرق حتى فارقت الحياة.

فرادة البطل مبروك لم تقتصر على ولادته ونشأته ضمن هذه العائلة المضطربة، بل من خلال سخريّته المستمرة، وبَرِّيَتِه، وعدم ركونه إلى عمل ما، وعشقه للقراءة بغضّ النظر عن فهمه لما يقرأه من عدمه، فضلاً عن فطريّته العالية في علاقاته من الحب إلى الصداقة إلى الزمالة والجيرة.

كل ذلك جعله مادة دسمة لرصدها روائياً، لكن ذلك أوجب على كوسا أن يكونَ رهيفاً في التقاط أنفاس تلك الشخصية، وذا حساسية عالية في بناء الخطوط السردية التي تسير عليها، وهو ما كان. إذ اتّبع صاحب مجموعة "نص لص"سرداً أشبه بالحياكة على النول التقليدي الذي اشتغل عليه "مبروك" من حين إلى آخر، حيث تتشابك خيوط السِّدى مع اللُّحمة، وليكون السَّارد هو المكّوك الذي يمرِّر الخيوط بينهما، بغية الوصول إلى بِساط سردي، ليس تقليدياً كما ينتج النول، بل حميمياً مثله، ويحتاج إلى جَلَد في تلمُّس دواخل الشخصية الرئيسية، وتساؤلاتها الوجودية المديدة، وتجاذبات علاقاتها مع الآخر، وفق بنية سردية متماسكة ومزركشة بالبساطة واللطف وبداهة الأطفال التي تمتّع بها بطل الرواية.

التشظّي الذي يعاني منه "مبروك"، لم يقف عنده، إذ من خلاله انتقل كوسا إلى تصوير تشظّي المجتمع نتيجة الخلاف على من يمتلك الحق، "هذا المُصطلح القاتل!! الكل يطحن الآخر باسمه، لكن المشكلة أنه عندما يتصارع الحق مع الحق فإن المنتصر الوحيد هو الفجيعة"، ذلك ما جاء على لسان "معلّم النّول"، الذي لا يُحمِّل الأديان والطوائف والأحزاب والغرباء، وحدهم، ما حلَّ ببلادنا، بل يرى أن "البساط كان مهترئاً ويأكله العثّ".

كما أفرد الراوي من خلال بطله وتساؤلاته وشغفه بالمعرفة مساحات للحديث عن السلطة والتملُّك و"نظرية الفراغ" التي ابتكرها الأستاذ الجامعي عادل السعيد ونشرها في أحد كتبه الذي قرأه "مبروك" وجاء في مقدّمته: "كلام فارغ يردّده أُناسٌ يملأهم الفراغ، يحتلّون مساحات السلطة لتكون مهمتهم تفريغ الأمّة من طاقاتها، وتفريغ الزمن من حضورنا وحضارتنا، إنهم يقاتلون ويَقتلون من أجل هذا، فللفراغ مهمات عظيمة وخطرة، بحيث يمكننا القول جازمين إنه ليس في الفراغ فراغ".

لكن مع ذلك، توصّل "مبروك" إلى حكمة أثيرة لديه تتلخّص بأنه "عندما تظلمنا الدنيا لن نتوانى عن أن نظلم أنفسنا"، ومن ذلك الجهل القاتل الذي جسّدته شخصية "برهان" العامل في الفرن، فبعد أن تزوّج "سماح" إبنة صديقه "أبو ضرغام"، وأثناء حملها، بزغت بثور زرقاء على جسدها مع تورّمات في العينين وحول الرقبة، بعد أن صارت تأكل الصابون والتراب، ولعلاجها لجأ إلى "شيخ جليل"، لتموت بعد ذلك مع جنينها، بسبب كمية الرصاص في أوراق القرآن المطبوع التي أُجبِرَت على ابتلاعها كتعويذة ضدّ مرضها المُربك، لتتلاشى المعادلة الجميلة التي أوجدها مبروك إثر محاكمته لحال برهان وسماح، من أنه "ربما لخطأين أن يصنعا صواباً".

التغيّرات في حال البلاد، رافقتها انقلابات في مصائر بعض الشخصيات، كالوصولي في البناء الذي عمل فيه "مبروك" حارساً، وما لبث أن انتقل من شخص يحمل حاجياته بنفسه إلى الطابق الثالث، إلى ذي حظوة مع حارسين شخصيين ومزيد من الغطرسة، و"برهان" الذي أصبح بعد وفاة زوجته ذات الستة عشر عاماً، إلى صاحب مكتب عقارات، تزايدت أرباحه وتحوّل من اللين إلى القسوة في تعامله مع الآخرين، خاصةً المتأخّرين في تسديد إيجاراتهم، إلى جانب إمعانه في النفاق الديني والاجتماعي. أما الصداقات الصادقة والثابتة لمبروك فبقيت مع معلّم النول صاحب الفلسفة الخاصة والطيبة النادرة، ومع عادل السعيد أستاذ الجامعة، الأول عوّض بطل الحكاية حنان الأب، والثاني تبنّاه معرفياً نوعاً ما، حيث بدأ بإعارته الكتب ومناقشته بمضامينها، ومحاولة إفهامه فحواها.

ولا تكتمل الحدّوتة من دون قصة حب جمعت "مبروك" بإحدى زبونات الفرن الذي عمل فيه فترة، وهي رغم أنها تميل إلى القصر وشيء من السُّمن، إلا أنه شغف بها أشدّ الشغف، لدرجة أنه عبَّر: "عندما ألمحها أحسّ بأنني أصبحت أضعف خلق الله،... كنت أعشق هشاشتي هذه وأريد لها أن تزداد وتزداد، فكلما ازددت ضعفاً أمامها أحسست بأنني قد أصبحت أكثر خفّة، إلى درجة أنها مع كل خطوة تقترب مني كنت أحسّ بأنني قد بدأت أتلاشى، أتحوّل إلى هواء، إلى غاز، إلى رميم.... ما هذا يا ربّي، كم هو الضعف لطيف، هذا الضعف الذي يذيب فيك كل قطعة قاسية، وكل إحساس صلب".

ورغم كل هذا الحب إلا أن حبيبته ارتبطت بغيره، لتبقى أحلامه عنها هي كل ما بقي له منها، فمرة جاءته في المنام إلى غرفته المستأجرة، وما إن وضعت يدها على خده، حتى أحسّ كأن سيخ نار محمّى قد لسعه، ليكتشف أنه ليس إلا خيط حاد من الشمس هو الذي أيقظه. 

ومن مناماته دعوته إلى منزل صديقه عادل السعيد ليتناول الغداء مع أسرته، وعندما طلب أن يغسل يديه ظلّ هناك فترة طويلة مستمتعاً بالنظافة لدرجة أنه أحسّ بأن الجنّة في ذاك الحمام ولا ينقصه فيها سوى بعض الكتب، ليكتشف أن ذاك المشهد ليس سوى مناماً جميلاً، بدّدته معرفته بأن السعيد هاجر إلى كندا بعد مضايقات كثيرة له في الجامعة من قبل بضعة عناصر أمن صغار. 

كل تفاصيل حياة "مبروك" جعلته معزولاً عن غيره، ولأن أكبر أحلامه باتت الكتابة، لذا قرّر أن يقلّد كاتباً قلّد بدوره رواية "مائة عام من العزلة" لماركيز، وسمّاها "مائة عزلة في العام"، فبدأ كتابته بمشقّة كبيرة مفتتحاً إياها في خاتمة الرواية بـ"مائة عزلة في العام وأكثر.. أكثر بكثير" لتنتهي رواية بسام كوسا بعنوانها، مكملةً الدائرة عن بطل يعيش أحزانه الخاصة وعزلته المديدة، والأهم أنه ما زال محافظاً على دهشته من كل شيء، وتساؤلاته الأقرب إلى أسئلة الأطفال عن المجتمع والدين والسياسة والحروب والحب، وليبقى خلاصه الكبير عبر الكتابة وحدها، لاسيما أنه مُتيقِّن من مقولته "ماذا يمكنني أن أفعل، وأنا أعرف أنني أفضل ما لديّ؟!".