"ألحان من الشمال 2".. جماليات التنوع الموسيقي في سوريا

الجديد في الحفل هو عدم الاقتصار على الموسيقى الآلية، بل الانتقال إلى تقديم أغنيات من تراث الجزيرة التي تُقدَّم للمرة الأولى في دمشق.

تأتي الأمسية الموسيقية "ألحان من الشمال 2" استكمالاً للمشروع الذي بدأه إدريس مراد بالتعاون مع قائد الأوركسترا نزيه أسعد، في تسليط الضوء وإعادة إحياء مجموعة من التقاليد الموسيقية التي تتعايش في سوريا منذ مئات السنين، ويتمركز معظمها في منطقة الجزيرة السورية حيث تتمازج الألحان الأرمنية والسريانية مع الكردية والمردللية والشركسية والإيزيدية.

والجديد في الحفل الذي أقيم مساء أمس الإثنين على خشبة صالة الدراما ضمن "دار الأوبرا" في دمشق، هو عدم الاقتصار على الموسيقى الآلية، بل الانتقال إلى تقديم أغنيات من تراث الجزيرة التي تُقدَّم للمرة الأولى في دمشق، وذلك ضمن توزيع جديد يحافظ على روح اللحن الأصل من دون زخرفات وتنويعات هارمونية كثيرة، كما أوضح مراد في افتتاح الأمسية.

بدأت الأمسية بمقطوعة من ألحان "أمير البزق الكردي" سعيد يوسف وتوزيع نزيه أسعد، ومنذ افتتاحيتها برزت هوية  لحنية مختلفة بإيقاعات متدفقة واشتغالات خاصة على الجمل الموسيقية، أثبتت أن الموسيقى ابنة بيئتها، وقادرة على استنطاق جمال وروحانيات وأصوات متآلفة، وكأنها معجونة من تراب وماء وهواء مختلف.

تعزز هذا الإحساس مع معزوفة من تأليف آرام تيكران وتوزيع شيركو دقوري. إذ بدأت الجمل اللحنية بتكرارات متماثلة في العلامات الموسيقية، لكن مع إدخال آلات مختلفة للتعبير عنها، ظهرت حيويتها وقدرتها على مداورة الأصوات. إذ بدأت بجوقة الكمنجات لتُسلِّم القيادة بعدها إلى القانون فالناي ثم إلى التشيللو فالبزق، ما جعلنا أمام طيف جميل يُعطي غنىً وتنويعاً هائلاً.

ومن التراث المردللي غنى ابن القامشلي هوفيك كربو أغنية "أنا ولا يهب عليي" مليئة بالشجن، ظهر فيها صوته الرخيم وكأنه قادم من ماضٍ سحيق، وتحقق ذلك بعد وصلة من كمان رشيد هلال على مقام الكُرْد استأثرت بقلوب السامعين بسبب زخم الرقة والحنين التي احتوتها، والانتقالات الرهيفة بين الطبقات المنخفضة والعالية، بكل ما تتضمنه من تصعيد درامي استكملته الفرقة بالتناوب بين الآلات الوترية والنفخية من جهة والإيقاعية من جهة أخرى.

تلا ذلك مقطوعة من تأليف ابن الدرباسية الملحن محمد علي شاكر وتوزيع نزيه أسعد، استطاعت إعطاء صورة عن الروح الخاصة للألحان الكردية، بما فيها من حيوية الألم التي اشتهر بها شاكر عبر مسيرته الإبداعية التي استمرت لأكثر من 60 عاماً.

وبعدها غنّت ماريا جيجيان أغنية من التراث الأرمني، جاءت في لحنها شديدة الشبه بأغنية "ها الأسمر اللون"، حتى أنها من المقام نفسه، وهو الحجاز المستقر على علامة الـ"سي"، ومن خلالها أبرزت المغنية الحلبية من أصول أرمينية أداءً مُتمكِّناً على درجات القرار والجواب، وبصوتٍ صافٍ قوي، ويمتلك قدرة تعبيرية مميزة، زاد من أثره توزيع كمال سكيكر واستخدام آلة الدودوك النفخية التي تشبه آلة الناي لكنها مصنوعة من المشمش الأرميني.

استكملت الأمسية بمقطوعة موسيقية من التراث الأرمني بتوزيع مهيب المغربي، وتميزت بتنوعها الإيقاعي، والذي بدأ باللَّف ليتبعه مجموعة الإيقاعات بين البلدي والمقسوم، وذلك على لحن حيوي مُبهر، تلاه قطعة من التراث السرياني بدأت بوصلة بليغة في حزنها على آلة الدودوك، لتستمر عبر الغناء وتتعزز عبر صولو فيولا قدمها مهدي المهدي بأداء مميز يستلهم روح سوريا الموغلة في القدم.

وكان لتراث منطقة عفرين حصة ضمن الحفل من خلال مقطوعة بتوزيع بهجت سرور، جمَّلها صولو على آلة الساز أدَّاها أكرم نازي باقتدار مبرزاً إمكانيات هذه الآلة وصوتها النادر، وتوافقاتها مع آلة الطمبورة التقليدية وبقية آلات الأوركسترا.

أما ختام الأمسية فكان من التراث الموسيقي الكردي، بدأ من خلال "رقصة كردية" بعزف منفرد لآلان مراد مع حضور للآلات الإيقاعية التراثية، كالطبول الصغيرة والطارات، بعدها أدى آلان أغنية من ألحان ريبر وحيد، وأخرى من التراث الكردي مع صولو للكلارينيت، لتذكرنا كيف لعبت الموسيقى الكردية دوراً هاماً في الحفاظ على الهوية الثقافية الكردية في ظل المعاناة التي عاشها الكرد في بلاد التشتت بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.

وفي دردشة على هامش الأمسية، وجواباً على ما الذي يميز موسيقى الجزيرة السورية عن غيرها من موسيقى بقية الجغرافيات السورية المتنوعة، أوضح عازف الكمان رشيد هلال في تصريح خاص بــ "الميادين الثقافية" أن أهم ما يميز الطبيعة الموسيقية لكل منطقة في سوريا هي أرباع النغمات، فالبيات واحد لكن استخدامات ربع التون فيه تختلف من الشمال إلى الجنوب إلى الساحل إلى المنطقة الوسطى، وهذا ما يحدد صبغة الاختلاف الأساسية، أضف إلى ذلك نوع التكنيك في التعاطي مع الآلة، والتفاصيل التي تغني العزف الشرقي، فكل منطقة لها الزركشات الخاصة بها، وهو ما يحدد طابعها الموسيقي وروح الموسيقى الخاص بها.