"أنا بكره إسرائيل".. كيف تحضر فلسطين في الأغنية الشعبية المصرية؟

من محمد طه إلى الشيخ إمام، وصولاً إلى شعبان عبد الرحيم وحسن شاكوش، أي شكل تتخذه القضية الفلسطينية في الأغنية الشعبية المصرية؟

ابتداءً من "أخي جاوز الظالمون المدى" بعد نكبة 1948، وصولاً إلى "القدس هترجع لنا" في مطلع الألفية الثالثة، لم تغِب القضية الفلسطينية عن الحضور في الغناء المصري، لكننا هنا نتساءل تحديداً عن حضور القضية في الأغنية الشعبية المصرية، التي تعبّر عن وجدان خالص ومتحمس، وعن وعي فطري بالقضية، بغضّ النظر عن مستوى ثقافة المغني أو المستمع.

***

  • المطرب الشعبي محمد طه
    المطرب الشعبي محمد طه

ربما لم يسبق أي مطرب شعبي مصري "الريس" محمد طه، الذي غنّى للقضية الفلسطينية في خمسينيات القرن الماضي، وكانت غزة وقتها لا تزال تحت الحكم المصري، وحاكمها الفريق الأول يوسف العجرودي. ومن هناك، حمل أثير الإذاعة المصرية صوت جلال معوض وهو يقدم المطرب الشعبي محمد طه، الذي وجد الفرصة متاحة ليستعرض قدراته على التأليف والتلحين، مرتجلاً لكل العرب:

"يا رايح فلسطين... حود على أهل غزة
تقعد مع أهل الكمال... تكسب وتتغذى
وسلم على يوسف... حاكم قطاع غزة
وقول له احنا البواسل... وسيوفنا في قلوب اليهود غازّة".

بهذا الموال لم يقدّم محمد طه أوراق اعتماده مطرباً شعبياً بامتياز  فحسب، لكنّه قدّم أولى شهاداته كمواطن صعيدي مصري يعرف حدود أعداء بلده، وحدّد وجهته إلى جانب ثوار تموز/يوليو، مع  شعبه العربي ضد "إسرائيل". وكان من الطبيعي أنّ الصالة كادت تنفجر من التصفيق والتهليل وطلب الإعادة.

ربما، منذ ذلك الوقت، لم يتوقف المغنّون الشعبيون بكل أجيالهم عن التغني بقضية فلسطين. لمَ لا؟ وهم الذين تنبع أغانيهم من طين الأرض المصرية والعربية، فكان من الطبيعي أن يغني المصري لغزة، فلم يكن يوسف في موال محمد طه "الشعب كله جمال... وجمال مع يوسف ودخلت كرم الحبايب... فيه رمان مع يوسف وكنت مأسور عليك مية سور يا يوسف والرب نجاك وشوفنا رؤاك يا يوسف". والموال هنا ليس مجرد موال عادي، بل وراءه مخزون ثقافي عروبي وإسلامي، استغلّه الشاعر الشعبي الذي يعرف لغته العربية جيداً. 

وكعادة المطربين الشعبيين في الاعتداد بأنفسهم، حفظاً لكرامتهم الإنسانية التي لا تستند غالباً إلى مال أو نفوذ؛ كتب طه بخط يده: "أنا الأستاذ محمد طه، أجيد القراءة والكتابة، الطول 168 سم، الوزن 85 كجم"، كدليل على معرفته وخبراته. وهو ما يجعلنا نتساءل هل هناك فارق بين المغني الشعبي، الذي كان يدرك أهمية الوعي فيفتخر بمعرفته القراءة والكتابة، وبين مغنِي المهرجانات اليوم الذين يفتخرون اليوم بأنهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة؟

القضية الفلسطينية في الأغنية الشعبية المصرية

بعد محمد طه، غنّى كارم محمود "هنا باقون"، وهي من قصائد توفيق زيّاد، وغنّى محمد قنديل "شعبك راجع يا فلسطين". لكن، ظلّ المغني الشعبي، حتى هذا الوقت، غير متحرر بشكل كاف، بل يميل إلى أن يلبس شخصية رسمية حين يغني عن فلسطين، كعادة الشعبيين في المناسبات الرسمية، حين يلوون ألسنتهم ويلبسون أفضل ما لديهم. 

وسيجد المتتبع لهذه الأغاني أن التحرر بدأ شيئاً فشيئاً مع أغاني الشيخ إمام، الذي كان له نصيب كبير من الغناء للقضية الفلسطينية، أشهرها مقطع "يا حكاية كل الناس"، وكذلك قصائد "قبل أن يجيئوا"، "مليون شمس في دمي"، و"الذي أملك"، وكذلك قصيدة "أناديكم"، قبل أن يعيد غناءها الفنان اللبناني أحمد قعبور بلحن آخر.

لكن الغريب أن مقطع "يا حكاية كل الناس"، الذي قصد به الشيخ إمام مذبحة "تل الزعتر" الشنيعة، التي وقعت على الفلسطينيين الموجودين في هذا المخيم الواقع شرقي بيروت، خاصة أن إمام كان يغني المقطع موصولاً بأغنيته الشهيرة التي كتبها له الشاعر أحمد فؤاد نجم، "يا حبايبنا"، ولهذه الأغنية قصة ربما تفسر حالة الشجن التي تسيطر على كل من يستمع إليها، مُذيَّلةً بمقطع "تل الزعتر".

بدأت قصة "يا حبايبنا" حين كان نجم وإمام معتقلين في زمن أنور السادات، وكان إمام يحب فتاة في "حوش قدم"، الذي كان يسكن فيه بصحبة نجم، وكان دوماً ما يبث حزنه على فراقها إلى نجم، الذي كتب له "يا حبايبنا.. فين وحشتونا؟". وبالتالي، تمّ الربط بين حالة الشجن الشخصي التي اعترت إمام، وعبّر عنها بواسطة كلمات نجم، وبين حالة الشجن العام التي أصابت العالم العربي بسبب المذبحة التي وقعت في العام 1976.

القضية الفلسطينية في أغاني المهرجانات

  • حسن شاكوش
    حسن شاكوش

إذا كانت قضية فلسطين تمثّل علامة في وجدان الشعب المصري، فإنّ هناك سؤالاً يتعلّق بالغرض الذي يغني من أجله مغنو المهرجانات والراب للقضية الفلسطينية، وهو سؤال يبدو مشروعاً إلى حد كبير؛ فهم متّهمون دوماً بإفساد الذوق العام، إلى حد إفساد العديد من القيم الجمالية والأدبية لدى الجيل الجديد.

فهل يمكن للعقل الجمعي المصري الذي كتب لحمو بيكا في سجلاته "يا اللي أمك صاحبتي" أن يتقبّل منه أغنية عن فلسطين؟ وهل هناك فارق بين "وسيوفنا في قلوب اليهود غازّة" عندما يغنيها محمد طه، و"يا يهودي سعرك في الواطي دي فلسطين تبقى بلادي" عندما يقولها حمو بيكا وعلي قدورة؟

يربط كثيرون بين اندفاع حمو بيكا وتلقائيته وبين تلقائية شعبان عبد الرحيم، والحقيقة أن كليهما غير ذي وزن في مسألة الغناء للقضية الفلسطينية، وربما غنيا لها من باب الموضة وجلب الاستعطاف بلغة زمن شعبان، ومن باب ركوب الترند بلغة بيكا؛ فلا أحد ينكر أن القضية - في أحد وجوهها - حصان رهان رابح للجميع، وهو ما ظهر في بعض المعاني الساذجة التي تحتويها كلمات المهرجان، مثل "وقت الجد بنتعامل أقوى من النووي الشامل... لو هنموت مش بنجامل عادي أنا ميت شهيد"، والذي يُثبت أنّهم يستطيعون الهزيمة بأسلوب الانتصار نفسه في معارك الشوارع بالأسلحة البيضاء. 

وعلى الموجة ذاتها، أجّل مطرب المهرجانات حسن شاكوش طرح أحد كليباته "حبيبتي" وقت أحداث حي الشيخ جراح، وأرسل رسالة دعم إلى الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي عبر وسائل التواصل الاجتماعي: "وتبقى فلسطين قِبلة المقاومة والنضال". 

القضية الفلسطينية وتراكات الراب

فيما لم يتوقف كثيرون عند بيكا وشاكوش، عدّ البعض أنّ مجرّد ارتداء "ويجز" للكوفية ورفع العلم الفلسطيني هو انتصار للقضية التاريخية، وهو ما ظهر في تدوينات وتغريدات ملأت فضاء منصات التواصل الاجتماعي.

اللافت أنّ "ويجز" فعل ذلك في اللحظة التي اكتملت فيها هذه المرحلة من تجربته، إذ قال في "تراك 21": "إمتى يا فرنسا إمتى أروح باريس"، أي أنّه أكمل في لحظة الغناء في باريس مرحلة مهمة من مشواره، ما يجعل اختيار تلك اللحظة لرفع علم فلسطين وارتداء الكوفيه الفلسطينية أمراً ذا مغزى. 

وقبل عامين، استضاف "مروان بابلو" الرابر الفلسطيني "شب جديد"، كواحد من أشكال الدعم والمساندة للقضية بشكل غير مباشر. وثار جدل كبير حينها حول تحريف الأخير ابتهال النقشبندي الشهير "مولاي إني ببابك" إلى "مروان إني ببابك". 

حينها، قامت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي ولم تقعد، لكنّ هذا الغضب في الحقيقة ساعد "شب جديد" على الانتشار بشكل كبير، ولفت الانتباه إلى حضور القضية الفلسطينية في الأغاني الشعبية بكل أشكالها، سواء المهرجانات أو الراب أو الغناء الشعبي التقليدي. 

لكن مغنّي الراب استطاعوا بمرور الوقت أن يصنعوا لأنفسهم شخصيات مستقلة، غير مستهجنة من أصحاب الذوق الفني، حتى أن أغاني/تراكات الرابر الفلسطيني "شب جديد" أخذت في الانتشار على الرغم مما تحويه من ألفاظ خادشة للحياء، وهي ستدعو المستمع تلقائياً إلى استحضار حالة "أميات نجيب سرور،" أو غيرها من الأدبيات التي اعتمدت الألفاظ الخارجة كإحدى علامات تحررها الكامل في التعبير عن محتواها الغاضب.