أنسنة علم اللغة.. الوجه الآخر لتطور الإنسان؟

اللغة هي أحد الرموز التي تمتلئ بها الحضارات الإنسانية، وهي فضلاً عن ذلك أهم الرموز التجريدية التي ابتكرها الإنسان من أجل إيجاد وسيلة تسهّل حياته كعضو في مجتمع.

  • أي دراسة لغوية تحتاج الى أخذ الهوية في الاعتبار
    أيّ دراسة لغوية تحتاج الى أخذ الهوية في الاعتبار

فتحت ثورة المعلومات والاتصالات الباب على مصراعيه أمام صراع عالمي متوقّع على ساحة الثقافة عموماً، وعلى جبهة اللغات خصوصاً. وقد برزت ملامح المشهد اللغوي وتداعياته خلال العقدين الماضي والحالي، من خلال الحفاظ على التنوّع اللغوي والتعدّدية الثقافية في العالم، رغم أن حركة العولمة الثقافية بدأت بتهديد الجماعات الإثنية بإفقادها خصوصياتها اللغوية وأنماطها الحضارية. فاللغة - كما قال إدوارد سابير- عمل ضخم لا شعوري من إنتاج الأجيال المتعاقبة، وهي بذلك جزءٌ هامٌّ من الحضارة لا يساعد الناس على استمرار تجاربهم والإفادة من نتائج هذه التجارب فقط، بل يساعدهم على المشاركة - ومن دون تحمّل عناء التجربة - في تجارب أعضاء المجموعات البشرية المختلفة في الماضي أو الحاضر. 

والحضارة ككلّ تتكوَّن من مفهومات مشتركة، وبذلك يصبح مظهرها اللغوي أكثر أجزائها أهمية وضرورة. 

ويلخّص سابير هذا المعنى بقوله: "إن اللغة لا تقف وحدها بعيداً عن التجارب المباشرة أو تسير موازية لها، بل تتخلّلها تماماً"، في حين يقول جيفونز: "إن اللغة تؤدّي 3 أغراض هي: وسيلة للتوصيل، وعون آلي للتفكي، ووسيلة للتسجيل". لكن هل مهمة أغراض اللغة هنا هي بأن تعطينا تصويراً ذا مفهوم عقلي بحت فقط؟ 

سواء كان هذا الرأي أو ذاك، فإنّ الراجح أن اللغة تقوم في جوهرها لإيجاد الروابط الضرورية بين أفراد المجتمع من أجل تيسير حياة جماعية.

إن البحث في موضوع العلاقة بين الهوية والقومية، والإثنية، والدينية للجماعات داخل مجتمع معيّن وطبيعة اللغة التي يتحدّثون بها كوسيلة تفاهم، يتطلّب ضرورة أن تشكّل الهوية الجزء الأهم في أيّ دراسة أكاديمية ميدانية تجري حول اللغة إذا ما أريدَ للنظرية اللغوية أن تتطوّر، وتعاد إليها نزعتها الإنسانية.

صحيح أن كتّاباً يتبنّون الطرح الاجتماعي الأيديولوجي لدراسة اللغة، إلا أنهم يوضحون أيضاً سبب عجز اللسانيات البنيوية أو اللسانيات "المستقلة بذاتها" عن تقديم تفسيرات وتأويلات للأنماط اللسانية المستعملة داخل مجتمعات يغلب عليها الطابع الإثني، والمذهبي/الطائفي.

بهذا المعنى يحدّد الباحثون أهدافهم النظرية التاريخية حول اللغة والهوية وأشهر اللغويين المحدثين الذين اهتموا بها، إضافة إلى الجانب التطبيقي من خلال بحوث ميدانية قاموا بها في عدة أماكن من العالم.

إن محاولة تقديم نظرة شاملة عن كيفية تشكّل الهويات القومية، والإثنية، والدينية عبر اللغة، وكيفية تشكّل اللغات عبرها. والهدف منها تبيان كيف أن هذا الفهم للغة أصبح جزءاً من علم اللغة الحديث.

ويتساءل كثير من اللغويين، خصوصاً أولئك الذين يؤمنون بـ"استقلالية" العقل اللغوي، عمّا إن كان للغة في علاقتها بالهوية، أي صلة بها، في نطاق ما يدرسونه، بوصفها نسقاً شكلياً من التمثّل والتواصل. 

وعلى الرغم من أنّ أيّ دراسة لغوية تحتاج الى أخذ الهوية في الاعتبار، إذا أرادت أن تكون دراسة تامّة وغنية، وذات مدلول، لأنّ الهوية ذاتها لا يكتمل مدلولها إلا في جوهر اللغة، وفي الطرق والأسباب التي عملت على ظهورها، وفي كيفية تعلّمها واستخدامها باعتبارها عامل ناتج من عوامل تطوّر المجتمعات.

فالألفاظ هي الثياب التي ترتديها أفكارنا. هكذا وضع جبران خليل جبران أنساقه المعرفية ليلبسها إنسانيتنا بكل ما يشوبها من ضجيج وصراخ، وليسوّق داخل ذاكرتنا هندام اللغة ولحظة التأمّل، بعيداً عن الفوضى ورقمنة آدميتنا.

إذاً اللغة، منذ بدايات تكوّنها وتطوّرها، وقبل اختراعها بشكلها الحديث، لم تأخذ صفة الفتح الجديد للنوع الإنساني حصراً مع بزوغ فجر علم الدراسات الألسنية واللغوية في بدايات القرن العشرين. بمعنى أنّ منجز أنسنة اللغة النوعي بقي تحصيل حاصل التطور الإنثروبولوجي للإنسان في بناء الحضارة وتحديداً منذ العصر الزراعي، ولا تضيف فتوحات الدراسات اللغوية الحديثة آفاقاً معرفية إنسانية تتعالق باللغة، لم يكن تطوّر اللغة عبر التاريخ يعرف بعضها متحقّقة في حياة الإنسان. فاللغة هي الوجه الآخر لتطوّر إنثروبولوجيا الإنسان، والتعالق بينهما غير منظور من وجهة نظر تاريخية تحاول فصل اللغة عن إنثروبولوجيا التطوّر الإنساني.

ومن هذا المنطلق، تتجلّى أهمية البحث في اللغة والهوية، وعلى نطاق واسع، في مساهمته في إعادة "أنسنة" علم اللغة. وكان قد بدأ هذا المشروع من "الأنسنة" بصورة متقطّعة، منذ الثلث الأول من القرن الــ 19 وحتى نهاية القرن العشرين.

في كتابه "موسوعة العامية السورية"، يرى الباحث السوري اللغوي، ياسين عبد الرحيم، في سياق شرحه للغاية من وضع هذا الكتاب، بأنّ اللغة هي بنت الحاجة والاستعمال، باعتبارها تعبيراً عن تجارب واحتياجات وثقافات معيّنة، وهذا ما شدّد عليه المفكّر النهضوي، أنطون سعادة، بقوله إنّ "كل مجتمع يجب أن يكون له وسيلة أو وسائل، لغة أو لغات، لهجة أو لهجات يتخاطب بها أفراده ويتفاهمون ويتفاعل تفكيرهم وتزداد ثروتهم العلمية"، ويتابع سعادة بالقول "إن اللغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سبباً من أسبابه، إنها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا أن الاجتماع أمر حادث باللغة". ذلك أنّ اللغة عبارة عن انعكاس لفظي لحياة الناس وبيئتهم الجغرافية ونشاطهم الاقتصادي وعلاقاتهم العاطفية والقانونية والسياسية والدينية في الماضي وفي الحاضر. كما أنها انعكاس لطموحهم وآمالهم في المستقبل، ومن ثمَّ فإن كل اللغات مليئة بوقائع الحياة وتجارب الماضي وتخيُّلات المستقبل، وفوق هذا مليئة بأعماق النفس وعوالم الأرواح وما وراء الطبيعة.

فاللغة بهذا المعنى هي أحد الرموز التي تمتلئ بها الحضارات الإنسانية، وهي فضلاً عن ذلك أهم الرموز التجريدية التي ابتكرها الإنسان من أجل إيجاد وسيلة تسهّل حياته كعضو في مجتمع.

صحيح أنّ التجريد الفكري مرتبط بالحضارات العليا، ومرتبط كذلك بالوصول إلى فكرة "الصفر" الحسابي، وقد يعني هذا أن الحضارات البدائية في مجموعها ولغاتها تجريبية أكثر منها تجريدية، ولكنّ التجريد مسألة يصعب على الباحث أن يتعرّف إليها عند مجتمع لا يعرف الكثير من لغته أو ممارساته اللغوية الخاصة عند خاصة المجتمع.

اخترنا لك