أي وظائف اجتماعية لدكاكين الطرق الريفية في اليمن؟
ليست مجرّد مكان للبيع بل تشمل وظائف اجتماعية متعدّدة الأبعاد والسياقات المرتبطة بالعادات والتقاليد. ما حكاية دكاكين الطرق الريفية في اليمن؟
يضطلع الدكان في ماهيته العامّة بوظيفة تجاريّة؛ بوصفه متجراً صغيراً. لكنه حينما يرتبط بالطرق الريفية في اليمن، فإنّ دوره لا يقتصر على هذه الوظيفة وحدها، وإنما يمتد؛ ليشمل وظائف اجتماعية، متعددة الأبعاد والسياقات.
خصوصية البناء والبضاعة المتعددة
-
دكان طريق ريفي في اليمن
من خصائص دكاكين الطرقات الريفية في اليمن، أنّ كلّ طريق ريفي - عادة ما يكون ترابيّاً وضيّقاً - يحاذيه عدد من الدكاكين، التي تفصل في ما بينها مسافات محكومة بمدى الحاجة إلى ما يباع فيها، والنسبة السكانية المستفيدة منها.
من هذه المتاجر ما يتميّز بموقعه الحيوي، فبمعية محاذاته طريقاً حيويّاً، يكون محاذياً لنقطة تتوزّع منها طرق فرعية، منها ما يكون باتجاه القرى المجاورة، ومنها ما يكون باتجاه مناطق بعيدة اتصالاً بمراكز حيوية فيها.
كما أنّ من مميّزات مواقع هذه المتاجر، أنها متناسبة مع خصائص المكان العامّ، وما يرتبط به من مؤثّرات، فمثلاً في الطرق التي تمرّ منها السيول، لا بدّ من أن يكون الموقع مرتفعاً أعلى من الطريق؛ تحاشياً لما يمكن أن يحدث من وصول مياه السيول إلى الدكان. كذلك يتمّ بناء عدد من الدرجات الحجرية، تصل الدكان بالطريق، يصعد عليها الراغب في الشراء من هذه الأماكن.
ويغلب على طريقة بناء هذا النوع من الدكاكين، أنها ذات شكل يقترب من شكل غرفة مستطيلة، بابها في منتصف جدارها المحاذي للطريق، وعلى يمين الباب نافذة صغيرة، وأخرى على شماله. ومن أمامه تتصل بالدكان مساحة مستطيلة ملحقة به، مع تغطية سقفها، بنوع من الصفيح المسنود بدعائم خشبية، لتوفير ظلّها، بوصفها مكاناً لقضاء المقيل فيها. كما يشمل بعضها بناء مخازن خلفيّة، متناسبة مع ميزانيته وحيويته التجارية.
وتبدو فكرة الشمول مهيمنة على نوعية البضاعة، التي تباع في هذه المحلات الريفية؛ فهي غير مقصورة على بضاعة محدّدة، بل مفتوحة لتوفير كلّ ما يلبّي حاجة المسافرين والقرى المحيطة بها. فإن كانت المواد الغذائية والعصائر المعلبة هي أغلب ما يتوافر فيها، فإنّ هناك تفاصيل أخرى تحتّمها الحاجة الاجتماعية.
هكذا، بإمكانك أن تجد في واحد من هذه المتاجر: مواد غذائية، وأسطوانات غاز منزلي، وأقمشة مختلفة، ومحروقات؛ إمّا وقوداً للسيارات، وإمّا لمضخات المزارعين. وستجد فيها كثيراً مما يحتاج إليه المزارعون، ولا سيما المبيدات الحشرية، والأسمدة. كما ستجد بعضاً من أدوية الإسعافات الأولية، وبوجه خاص المسكّنات، على اختلاف أنواعها.
تجلّيات الطابع الاجتماعي
-
المتاجر الريفية في اليمن مكان ذو طابع اجتماعي متناسب في وظيفته مع العادات والتقاليد
لا تمثّل هذه المتاجر الريفية في اليمن محلات كسب للرزق فحسب، بل تضيف إلى ذلك، أنها مكان ذو طابع اجتماعي، متناسب في وظيفته، مع العادات والتقاليد السائدة.
يحرص مالكو هذه المتاجر، على تزويدها بالطعام من منازلهم، وبما يكفي للوجبات اليومية الثلاث. ومثلها وجبة الإفطار الرمضانية. ولا بدّ أن يكون تناول الطعام في هذه الأماكن بشكل جماعي، خاصة في موعد تناول وجبة الغداء، ومثلها وجبة الإفطار الرمضانية. إذ يقدّم صاحب الدكان - أو القائم بعمله - الطعام، ويتناوله مع كل من يوجد بتلك اللحظة في فناء متجره، كما يحرص على توجيه دعوة جادّة، إلى كلّ مسافر يصادف مروره تلك اللحظة، منهم من يستجيب، ومنهم من يعتذر شاكراً.
وفي سياق ذلك، يأتي الحرص على دعوة كلّ شخص موجود في مزارع الأودية القريبة. بل يمكن القول إنّ موعد الوجبة نفسه، يستقطب كثيراً من الموجودين على مقربة من هذه الأماكن؛ إذ يصلون قبل تقديم الوجبة بدقائق.
قد يكون من الممكن قبول اعتذار المسافر، المدعو إلى تناول وجبة الغداء في هذه الدكاكين لحظة مروره إلى جانبها. لكن هذا الاعتذار غير ممكن مع وجبة الإفطار الرمضانية؛ فحينما يحين موعد الإفطار، يقف صاحب المتجر - أو من يكلّفه بذلك - على الطريق، يقوم بإيقاف أيّة سيارة مارّة تلك اللحظة، ثم يعطي من فيها كمية من التمر للإفطار، داعياً إيّاهم إلى وجبة العشاء، مصرّاً على ذلك، وقليلاً ما يستجيب لاعتذار أحد منهم، بعد أن يلمس مبرّراً كافياً لإقناعه باعتذاره.
ويمثّل دكان الطريق الريفي في اليمن مأوى للغرباء وعابري السبيل؛ الذين يبيتون في فنائه أو في صندقة أو غرفة جانبية، تبنى لهذا الغرض. ومن هؤلاء من يتخذ من هذه الدكاكين رصيف انتظار لفرصة عمل من الأعمال اليومية.
ومن تجليّات الطابع الاجتماعي - أيضاً - اضطلاع هذه الأماكن، بوظيفة كشك مجانيّ للأمانات والرسائل الورقية والعينية، من وإلى المنطقة والقرى المحيطة بها. كما تمثّل ساحة اجتماع عفوي، يقضي فيها كثير من الشباب والعاملين في المزارع المحيطة فترة المقيل، سواء كانوا من أبناء المنطقة أو قادمين إليها.
وفي السياق نفسه، تمثّل هذه الأماكن نقطة جذب للاستمتاع بمشاهدة البطولات الرياضية، ولا سيما مباريات كأس العالم، وبعض البطولات العربية والأجنبية. إذ يحرص صاحب المتجر - وأحياناً بمساعدة بعض الهواة - على شراء "كارت" التشفير؛ لضمان المتابعة المباشرة لتلك البطولات.
"دكان" الريف و"مقهاية" المدينة
-
تقدّم "المقهاية" خدماتها بمقابل مادي، أما الدكان، فإنّ كلّ ما يقدّم فيه للمسافر لا يكون إلّا مجانيّاً
من خلال التأمّل في ما يقدّمه دكان الطريق الريفي من اهتمام بالمسافرين، يتجلّى ارتباطه بما كان يعرف في اليمن بـ"المقهاية"، وهي ذاك المكان، الذي كان قديماً "أشبه شيء بفندق متواضع لنزول المسافرين فيها، وكان المشروب الذي يقدّم للزبائن فيه قهوة قشر البن أو البن نفسه"[1]، ثم صار يعني "المكان الذي تباع فيه المشروبات الساخنة والمرطبات [2].
وعلى هذا التشابه، إلّا أنّ المكانين يختلفان في خصائص جوهرية، منها ارتباط الدكان - هنا - بالريف، خلافاً لـ"المقهاية" التي تعدّ واحدةً من مظاهر المدينة.
وتقدّم "المقهاية" خدماتها بمقابل مادي، أما الدكان، فإنّ كلّ ما يقدّم فيه للمسافر - من إطعام وإيواء - لا يكون إلّا مجانيّاً؛ التزاماً بنسق العادات والتقاليد، التي توجب إيواء الغريب والمسافر وإطعامهما. وهو الالتزام الذي لا يحيد عنه أبناء القرى، حينما يحلّ عليهم غريب أو مسافر. مع ملاحظة التمايز بين دكاكين القرى - إن توافرت فيها - ودكاكين الطرق الريفية. إذ يُستضاف الغريب والمسافر في واحد من منازل القرية، ولا يمكن أن يُستضاف في دكان القرية، بينما لا ضير من هذه الاستضافة في دكان الطريق.
وقد اجتمع المكانان، المقهاية والدكان، في واحدة من غنائيات المرأة اليمنية الريفية، المسكونة بالعشق والحنين، إلى المحبوب الغائب، إذ تشدو:
واني [3] فدا خلّي وين ما يكون كان
يكون بمقهاية ولا بدكان
وتفصيل ذلك، أنّ هذه المرأة تتغنّى بحبيبها، حنيناً إليه وفداء له في أيّ مكان يكون موجوداً فيه، أكان هذا المكان مدينة من المدن، أو دكاناً من دكاكين التجمّعات الريفية القريبة أو البعيدة.
ويكمن وراء التباس الأمر عليها هنا، أنّ هذه الترنيمة تعود إلى زمن، يسبق ظهور الهاتف النقّال في اليمن، ولم تكن متوافرة فيه خدمة الاتصال الأرضي في المناطق الريفية.
[1] عباس علي السوسوة، "دراسات في المحكية اليمنية". ط2، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2007م، ص128.
[2] نفسه.
[3] تستخدم المحكية اليمنية "أني" ضمير رفع منفصل للمؤنث العاقل؛ تمييزاً له عن ضمير المذكر "أنا".