إبراهيم نصرالله يرصد معاناة الشعب الفلسطيني ومراحل مواجهاته للاحتلال

رواية "طفولتي حتى الآن" جزء من مشروع إبراهيم نصر الله الروائي "الملهاة الفلسطينية" التي تضم أكثر من اثنتي عشرة رواية ومنها "ملك الجليل"، و"زمن الخيول البيضاء"، و"طفل الممحاة".

  • رواية إبراهيم نصر الله
    رواية إبراهيم نصر الله " طفولتي حتى الآن "

في بوح ذاتي يقترب مما يعرف بالسيرة الذاتية يسرد لنا إبراهيم نصر الله في روايته "طفولتي حتى الآن" الصادرة عن الدار العربية للعلوم _ ناشرون لعام 2022 حياته الشخصية عبر سبع مراحل من طفولته يجمع فيها بين الهم العام والخاص، من خلال رصده معاناة الشعب الفلسطيني ومآسي نكبته وتهجيره من أرضه، إلى جانب مراحل نضاله ومواجهاته للمحتل الغاصب، كما يكشف في الوقت ذاته عن تطور وعي الكتابة لديه في الشعر والقصة ومواهبه في الرسم والموسيقى، وهوسه الكبير بالمطار والطائرات إذ تتكرر تيمة الأجنحة برمزيتها البالغة في جلّ أعماله في تضمين لفكرة التحليق والحرية لطفولة تتطلع إلى أعلى، استهلها بالعبارة الموحية من إحدى قصائده :

"لم أترك طفولتي يوماً تبتعد كثيراً

إن الوحوش تتجوّل في الجوار 

لذا... 

لم أجد بداً من الاحتفاظ بها...حتى الآن"

في تكثيف لما يريد قوله وليفسر لنا لماذا الطفولة حاضرة في وعيه، فهي ليست نوستالجيا إلى زمن مضى، إذ إن استمرار حضورها في ذاكرته يرجع إلى استمرار ظروف الواقع الذي كبر فيه وكبرت أزماته وكوابيسه ومعاناته، فالوحوش ما فتئت تتجوّل في المكان، في إشارة إلى الاحتلال الذي يجثم بظلامه على الجميع من أهله وناسه. 

وبين الحقيقة والخيال يمرر ذكريات نشأته بشفافية البوح سارداً فيها حياته وتاريخه، موثقاً تاريخ المنطقة والقضية الفلسطينية وصراع الشعب الفلسطيني ومآسيه تحت ربقة المحتل وحكايا التهجير المتتالية التي تعرض لها عبر مفاصل حياته الممتدة من الطفولة حتى الآن، كما عنون عمله الممتد عبر أكثر من خمسمئة صفحة. 

السيرة الذاتية في الأدب أحد فروع السرد الهامة، نظراً إلى حالة الصدق في المكاشفة بين الكاتب وقارئه، ولأنها تغوص عميقاً في حياة السارد والمحيط الذي يتناوله متوخياً الصراحة والأمانة عبر تجسيد الصورة الحقيقية للواقع الذي يرسمه، بما في ذلك تلك الخيبات التي يشعر بها وحالات الاتهام وتأنيب الذات التي يشعر أنه أخطأ فيها، وقد برز ذلك في هجائه لأستاذ اللغة العربية "ربيع" الذي كذّب موهبته وأحبط اندفاعه في كتابة الشعر، وما تلاه من إحساسه العالي بالذنب عشية استشهاده بهجوم غادر، ما جعله يعتذر مؤبّناً إياه بقصيدة مؤثرة، وبات حذراً جداً عندما يريد أن يتهم أو يهجو أحداً بقصيدة ما، خوفاً من ندم قادم، فالشهادة قدر كل فلسطيني، ولأن قدسية الشهادة تجب كل ما قبلها من أخطاء الإنسان.

إبراهيم نصر الله في استحضاره لطفولته يستحضر تاريخاً بأكمله موثقاً همومه وأحلامه؛ عثراته وانتصاراته؛ وقوافل الشهداء التي تتالت، وهو بذلك يؤرخ بدايات المقاومة المفعمة بالحب والتفاؤل، ومتابعاً لتحوّلات العمل الفدائي المقاوم وكيف ساهمت الولاءات لدول أخرى في خلق انشقاقات عدة في التنظيمات الفلسطينية، وأحدثت خللاً في فاعلية الكفاح المقدس، رغم الروح العالية للشخصيات المفعمة بالصدق الحقيقي المؤمن بالقضية بكل ما في يفاعة الشباب المتحمس لكل قيم الجمال والمقاومة من اندفاع في تواشج آسر بين المكابدة الشخصية والقضية العامة في تطابق المسارات. 

حلم الطيران والأجنحة على صهوة الخيال كان البديل لـ نصر الله للتحليق عبر الكلمة، الكلمة التي كانت جواداً جامحاً في تجسيد تكامل وعيه الفني بالوعي الإنساني مع عدالة القضية؛ لأن كل تحليق يمنحه الأمل بيوم جميل لحلم تعويضي عن تاريخ لا ينسى من أيام الطفولة القاسية في التهجير والعطش والحرمان.

في علاقته مع الحرف يروي لنا عن الزخم الهائل من طاقة الكتابة لديه في تتالي كتاباته في أكثر من مجال، والتي أحيت الأمل في نفوس من حوله، وأذكت طاقة الصمود والكفاح من خلال الأناشيد والأغاني التي قام بتأليفها للشباب المتحمسين. 

وعبر الخط الأفقي للتسلسل الزمني لوقائع الطفولة التي حفرت عميقاً بالذات الفلسطينية يؤكد هويتها وانتماءها إلى المكان الذي اقتلعوا منه، فالموقف من هذا الأمر ليس قضية فلسطينية أو عربية وحسب، وفق تعبيره، وإنما قضية إنسانية وأخلاقية بالنسبة إلى أي كائن كان. 

علاقته بالمرأة:

تحضر الشخصيات النسائية في حياته كمعلم بارز وعلى درجة عالية من الأهمية؛ فشخصية الأم المدبرة والقيادية وحرصها على التحصيل العلمي لأولادها كانت لها الدور الأكبر في ترسيخ الوعي الوطني وتشجيع الكاتب على مشواره الأدبي، أيضاً شخصية نور رفيقة الطفولة؛ والفدائية في ما بعد؛ والجارة التي ترعرعت وشبت معه، وجمالها وشخصيتها النافذة وعلاقتها الخاصة به التي التبست بين الأخوة والعشق والصداقة التي لا تعرف حدوداً، ومن دون مسميات أو حدود تقيد حرية أي منهما، الأمر الذي فتح باباً تتسلل منه علاقته العاطفية بـ"هالة" التي حال اختلاف الدين دون ارتباطهما من دون أن يلغي ذلك إحساسه بنور ومكانتها العميقة في نفسه، وبين كل مرحلة ومرحلة تطل رسالة نور رفيقة تلك الفترات وبطلتها معقبة برأيها ومهنئة لذاكرته الوقادة. 

شخصيات أخرى لعبت دوراً هاماً في تكوينه الفكري مثل موظف المكتبة الذي كان بوابة لاتصاله بالأدب والشعر خارج المناهج الدراسية، كما كان لحضور السينمائي الشهير "جان لوك غودار" وعلاقته بالمجموعات الفدائية أثناء تصويره فيلماً عن القضية الفلسطينية يرصد فيه إرهاصات العمل الفدائي زمن الشهيد كمال ناصر ورفاقه، إذ كان لهذا الحدث أي تصويره عملاً لصالح القضية الفلسطينية في المخيمات التي هجروا إليها أثراً كبيراً ودهشة بالغة في نفس الكاتب، ما يؤكد أن الإنسانية لا تتجزأ. 

وكذلك إحساسه العميق بوطأة التشرد والتهجير قرّب شعر إبراهيم طوقان من ذائقته، وساعد على تنميتها وتمثلها لدرجة شعر أنه يتطابق معه لخصوصية الاسم المشترك، حتى إنه دخل في عراك مع أمه لتنجب أختاً له سمّاها فدوى تيمناً بـ فدوى طوقان، كما استفاد من الكاتب راي برادبيري في تحفيز طاقة الخيال لديه، وكان من الشخصيات التي ساهمت في تطور وعيه الأدبي والفني.

رواية "طفولتي حتى الآن" جزء من مشروع إبراهيم نصر الله الروائي "الملهاة الفلسطينية" التي تضم أكثر من اثنتي عشرة رواية ومنها "ملك الجليل"، و"زمن الخيول البيضاء"، و"طفل الممحاة"، و"طيور الحذر"، و"زيتون الشوارع"، و"أعراس آمنة"، و"تحت شمس الضحى"، تغطي أكثر من 250 عاماً من تاريخ فلسطين الحديث، وتروي حكايته وأبناء جيله طوال ستين عاماً، حكاية شعب وأرض غابت عن مجال الرؤية ولكنها مقيمة في الذاكرة والوجدان رغم الحصار والموت، كما يحفل رصيده بخمسة عشر ديواناً شعرياً وكتابين في السيرة الذاتية والأدبية: "كتاب الكتابة" و"السيرة الطائرة".

رصدت في ثنايا العمل الأنساق الثقافية للمجتمع التي تشي بمعتقداته وقناعاته، إذ تعبّر الجدة عن استهجانها لوجود حفيدتها في تظاهرة، فوجود الفتاة في التظاهرة غير مقبول وإن كان لمسألة وطنية "يلعنا ويلعن البيت اللي حاويها"، كما يصور التراث الفني الشعبي من خلال اللباس الشعبي القنباز، وأشعار الجد الشعبية التي مزج فيها بين العشق والفراق وعدم تحقيق الآمال بلقاء حبيب في الذاكرة، ليؤكد أن هذا التراث متجذر في المكان، حكاية الجد الذي خصص له رواية كاملة تحت اسم "شمس اليوم الثامن " كذلك تحفل الرواية بالعبارات المسكوكة، تلك التي تتضمن عبرة وحكاية مختصرة تتناقل على ألسنة الشخصيات مختزلة فهماً عاماً وشاملاً على غرار : "اجت الحزينة تفرح مالقيتلهاش مطرح".

تدّعي غولدا مائير رئيسة الوزراء السابقة للكيان الصهيوني أن الشعب الفلسطيني ليس شعباً وإلا لكان له أدب خاص به، وهذا الواقع يكذب ما جاءت به؛ إذ إن الأدب الفلسطيني بات على مستوى العالم بأسماء لامعة وشهيرة من محمود درويش إلى غسان كنفاني وسميح القاسم وعبد الكريم الكرمي والمئات المئات من الأدباء والمفكرين، وليس آخرهم إبراهيم نصر الله الذي في كل ما سبق يؤكد "إن لم نستعد الماضي فسنخسر المستقبل" في أهمية ما ننقله إلى الأجيال القادمة من إرثهم وإرث أجدادهم وحقهم في استرجاع أرضهم المغتصبة مهما طال الزمن.