إرث ثقافي.. مقاهي دير الزور تنافس مضافاتها ودواوينها

توازي الدواوين والمجالس في حل النزاعات واتخاذ المواقف الكبيرة.. أي دور تؤديه المقاهي في دير الزور وريفها؟

النظام العشائري، أو ما يُعرف باسم "قانون العشيرة"، يُعَدّ الحُكم السائد في المناطق التي توجد فيها القبائل والعشائر العربية، شمالي شرقي سوريا. فالأهالي في تلك المناطق يلجأون إلى العشائر ومضافاتها في جميع تفاصيل حياتهم اليومية، من الأفراح والأحزان، إلى النزاعات والخلافات وغيرها.

ويشكل النظام العشائري ما يشبه "نظاماً داخلياً" للعشيرة، يعود إليه أبناؤها في حال حدوث طارئ اجتماعي معيّن. وتكون "المضافة" هي المكان للبتّ في النزاعات والخلافات والقضايا المعروضة للنقاش، إلا أن أهالي دير الزور أوجدوا مكاناً آخر ينافس "المضافة" في تنظيم حياة الناس، والبتّ في مشاكلهم، وإيجاد الحلول الملائمة لها. هذا المكان هو "المقاهي".

بعيداً عن التسلية والثقافة وتعزيز الروابط الاجتماعية، تؤدي المقاهي في دير الزور دوراً فريداً من نوعه، وهو فضّ النزاعات والخلافات بين الأهالي. وهذا الدور جاء نتيجة وجود وجهاء المدينة بصورة مستمرة في المقاهي. لذلك، تُعرض عليهم الخلافات والقضايا الشائكة حتى يبتّوا بها أمام الناس، من دون الحاجة إلى الذهاب إلى المضافة، الأمر الذي يوفّر جهداً ووقتاً كبيرين.

في هذا السياق، يؤكد الباحث في تاريخ دير الزور، عبد المنعم خليل، أن "الدور القضائي للمقاهي موجود منذ عشرات الأعوام في المدينة، وتعزَّزَ بصورة كبيرة بعد بداية الحرب السورية، نتيجة خروج مناطق في ريف دير الزور عن سيطرة الدولة، الأمر الذي دفع الوجهاء إلى عقد اجتماعاتهم ومناقشاتهم في المقاهي، التي تمثل مكاناً حيوياً لمناقشة القضايا المهمة".

ويشير خليل، في حديث إلى "الميادين الثقافية"، إلى أن الخلافات الصغيرة، مثل المشاجرات الفردية والخلافات العائلية، يتم حلّها بصورة سريعة داخل المقاهي عن طريق ما يُسمى "الرضوة" أو "المصالحة"، بحيث يعمل الوجهاء على تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين من أجل الوصول إلى حلّ يرضي الجميع، وغالباً ما تنتهي هذه القضايا باتفاق الأطراف، وإعلان الوجهاء تقديم المشروبات مجاناً إلى الحضور، ابتهاجاً بإنهاء القضية.

المقهى منافساً للمضافة

بالإضافة إلى كونها مركزاً لفض النزاعات، شكّلت المقاهي أيضاً مكاناً لإعلان المصالحات التي تتم بين القبائل أو العشائر أو العوائل الكبيرة في الجزيرة السورية، بحيث كانت تجري المرحلة الأولى من حلّ المشكلات المعقّدة المتعلقة بالثأر في المضافات، بحضور الوجهاء وشيوخ العشائر، بينما يتم إعلان انتهاء الخلاف في المقاهي، حتى يكون أكبر عدد من الناس شهوداً على المصالحة. وغالباً ما يتبع ذلك تحضير ولائم طعام كبيرة في منزل أو مضافة لدى إحدى العشيرتين المتخاصمتين.

ينتشر في مقاهي دير الزور الذين يُطلَق عليهم "الشرع"، وهم مجموعة من الوجهاء وكبار السن في منطقة ما، ويمتازون بمعرفتهم قوانين العشائر وأحكامها، وقدرتهم على حلّ المشاكل. ويعود إليهم المتخاصمون لأخذ الرأي بشأن مشاكلهم ونزاعاتهم، وخصوصاً التجارية، مثل الخلاف على تقسيم الأراضي الزراعية ومحاصيلها، أو الخلاف بين التجار والفلاحين، أو الخلافات بين أصحاب العقارات. كما يمكن أن يكون لهم رأي في بعض النزاعات الاجتماعية الحسّاسة، مثل الثأر وغيره.

أحمد الشمري، شيخ عشيرة البوليل العربية في دير الزور، يؤكد لـ "الميادين الثقافية" أن دور المقاهي في المدينة يوازي دور الدواوين والمجالس في الريف، على صعيد حل النزاعات والخلافات واتخاذ المواقف في الأحداث الكبيرة. كما باتت اليوم أحد أهم مراكز صنع القرار السياسي في ظل الأزمة التي تشهدها سوريا، بحيث تكون مركز اجتماع لكبار شيوخ العشائر والوجهاء في المنطقة.

ويتذكر الشمري أول مشاركة له في حلّ خلاف حدث بين عدد من أبناء عشيرته وعشيرة "البوعويص" في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، داخل مقهى "عصمان بيك"، ولاحقاً في مقهى "السرايا"، بحيث اجتمع الشيوخ والوجهاء لتقريب وجهات النظر. وبعد أكثر من جلسة تم إعلان المصالحة وانتهاء الخلاف، بصورة كاملة.

جزء من الوعي والهوية

يبدو صعباً تمييز الفوارق الطبقية بين مرتادي المقاهي في دير الزور. وهذه الحال تنطبق على مختلف المظاهر الاجتماعية والثقافية داخل المدينة. فالأغلبية العظمى من السكان منصهرة في بيئة واحدة، تجعل الجميع في طبقة متساوية من حيث المظهر الخارجي. وفي كثير من الأحيان، فإن البذخ الاجتماعي على اللباس يُعَدّ نوعاً من الشذوذ عن التقاليد والأعراف، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على المقاهي، فلا يوجد مقهى ذو طابع للأثرياء أو آخر للفقراء، وإنما تتداخل عوامل أخرى في انتقائية المقهى، كالطابعين المناطقي والثقافي.

حملت المقاهي في دير الزور، على مدى أعوام طويلة، إرثاً ثقافياً ورسالة أخلاقية هادفة. لذلك، كانت مقصداً لفئات المجتمع المنعددة، ولم تكن حكراً على شريحة معينة، ونجحت في أن تكون ركيزة أساسية في بناء المجتمع، ثقافياً وأخلاقياً.

بشأن هذا الأمر يتحدث إبراهيم العلي، "أبو خليل"، إلى "الميادين الثقافية"، عن الدور الذي أدّته المقاهي في بناء شخصيته: "في المرة الأولى، التي دخلت فيها المقهى قبل 51 عاماً، حينما كنت في الــ 18 من عمري، كان ممنوعاً على الصغار والمراهقين ارتياد المقاهي. لذلك، كان الشعور فريداً من نوعه، بحيث دخلت مع أصدقائي مقهى "عصمان بيك"، الذي يطل على نهر الفرات. وكان عصمان بيك، رحمه الله، يجلس مع عدد من الرجال كبار السن في صدر المقهى، فسارع لحظة دخولنا إلى الطلب إلى أحد العمال أن يذهب واحد منا إليه للتأكد من أعمارنا، ويشرح لنا آداب ارتياد المقهى وعدم جعل الجلوس فيه مضيعة للوقت أو الابتعاد عن واجباتنا الاجتماعية. كان هذا الموقف مؤثراً للغاية، فما زلت أذكر تفاصيله إلى اليوم".

وبشأن مشاهداته، التي يذكرها خلال أعوام ارتياده المقهى، يقول العم "أبو خليل" إن المكان كان مقصداً لأبرز شيوخ العشائر ووجهائها في الجزيرة السورية، مثل فرحان الفياض، وراغب البشير، وعبود الهفل، وجميعهم كان لهم دور محوري في فض النزاعات وإجراء المصالحات.

ولا ينسى "أبو خليل" رجال الثقافة والعلم من روّاد المقهى، مثل: محمد الفراتي، وتوفيق قنبر، وسعد صائب، وجلال السيد، وجمعة الساعي، وعبد القادر عياش، ورشيد الخرابة، وناجي الضللي، وبهاء مشرف، حيث أدى هؤلاء جميعاً دوراً في تكوين الهوية الثقافية والتُراثية لمدينة دير الزور في أثناء وجودهم في المقاهي، سواء من خلال جلسات الحوار، أو الأمسيات الشعرية والأحاديث الودية.

بين المقهى والمقهى.. مقهى

يُعَدّ المقهى ركناً أساسياً من مقومات الحياة في دير الزور، فلكل مقهى طقوسه الفريدة وأجواؤه المميزة. لكن ما يميّز المقاهي جميعاً في دير الزور هو كثرة الروّاد وانخفاض الأسعار مقارنة بسائر المدن السورية، وهذا ما يجعل إمكان ارتيادها مُتاحاً للجميع.

بالتأكيد، فإن دير الزور لا تنفرد في وجود المقاهي، لكن ما يميّز هذه المدينة هو كثرة عدد المقاهي فيها. وهناك مقولة تتردد لدى جميع أبناء سوريا: "في دير الزور بين المقهى والمقهى، تجد مقهى". وتنوعت هذه المقاهي بحسب الفئات التي تقصدها، فبعضها يكون حكراً على الطبقة المثقفة من الشعراء والأدباء والكتّاب، وبعضها الآخر يكون للطبقة الشعبية البسيطة، إلا أن العامل المشترك بين مختلف المقاهي أنها كانت ضحية للحرب في سوريا، بحيث دُمّرت عشرات المقاهي في دير الزور وريفها خلال الأعوام الماضية، من دون أن تتم إعادة بنائها وترميمها.

لا يوجد اليوم إحصاء دقيق لعدد المقاهي الموجودة في دير الزور، نتيجة تعرّض أعداد منها للتدمير الكامل، بالإضافة إلى خروج عدد آخر عن الخدمة في انتظار عملية إعادة الترميم والتأهيل، لكن بعض الإحصاءات يؤكد وجود أكثر من 100 مقهى داخل المدينة التي تُعَدّ صغيرة نسبياً، ولا تتجاوز مساحتها 33 ألف كلم مربع. وأشهر المقاهي هو "عصمان بيك" و"السرايا" و"غبيني".

لم يكن "المقهى" يوماً، بالنسبة إلى أبناء مدينة دير الزور، مجرد مكان للتسلية فقط، بل هو جزء من الوعي والهوية. لذلك، يصرّون على التمسك بهذه الهوية على رغم الظروف، ويسعون لنقلها من جيل إلى آخر، من أجل المحافظة على الإرثين الثقافي والاجتماعي.