إطلالة تاريخية.. معرض عن المعلمين الروس في سوريا وفلسطين ولبنان

"المتحف الوطني للتاريخ الديني" في سان بطرسبورغ يفتتح معرضاً لأعمال مدارس "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" في المشرق.. ماذا قدّم إلينا؟

  • بعض الكتب من معهدي الناصرة وبيت جالا
    بعض الكتب من معهدي الناصرة وبيت جالا

افتتح "المتحف الوطني للتاريخ الديني" في مدينة سان بطرسبورغ الروسية معرضاً مخصصاً لأعمال مدارس "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" في المشرق، في الفترة 1882-1914.

يضمّ المعرض، الذي عمل على تنظيمه الباحث العلمي بيوتر فيدوتوف، صوراً ووثائق وكتباً ولوازم مدرسية وممتلكات شخصية وقصاصات ومذكرات (يزيد عدد المعروضات على 100)، تجسّد تاريخ هذا المشروع التعليمي الكبير. ويمكن لزواره أن يتعرفوا إلى شخصيات بارزة من معلمي المدارس والمعاهد وتربوييها وطلابها وتلاميذها.

تأسست هذه الجمعية، التي اصطُلح عليها بـ "الجمعية الفلسطينية"، عام 1882، وهي واحدة من أقدم المنظمات الخيرية العامة الروسية. وهدفت إلى تحسين الرعاية الطبية والتعليم لدى السكان العرب في الأراضي المقدسة، كما ساهمت في تعزيز الوجود الروسي في المشرق.

على هامش المعرض، الذي يستمر حتى 30 أيار/مايو الجاري، كانت لــ "الميادين الثقافية" مقابلة مع منظمه بيوتر فيكتوروفيتش فيدوتوف، الذي وُلد في لينينغراد (سان بطرسبورغ حالياً) عام 1978، وتخرج عام 2005 من كلية التاريخ في جامعة سان بطرسبرغ الحكومية.

  • تلاميذ من مدارس القدس
    تلاميذ من مدارس القدس

في عام 2006، أصبح عضواً في "متحف الدولة للتاريخ الديني"، وفي عام 2007 أصبح أميناً للأرشيف البصري (بما في ذلك الصور التي جمعتها الجمعية الفلسطينية). نتيجة التعاون الإبداعي مع الباحثة الروسية اللبنانية تاتيانا كوفاشوفا بحر، أعدا ونشرا ألبوماً بعنوان "المدارس الموسكوبية في لبنان" عام 2012.

في العقد الأخير، نشر أكثر من 15 مقالاً في مجلات علمية بشأن أنشطة المؤسسات التعليمية للجمعية الفلسطينية. في عام 2021، أصدر كتاباً يحتوي على ملاحظات وصور من المعلمين الروس الذين عملوا في المشرق. لا تقتصر اهتماماته على البحث العلمي، فمنذ عام 2010، زار عشرات البلدان في مناطق متعددة من العالم، بينها سوريا والأردن، ويعمل على مطبوعة أدبية وفنية مخصصة لهذه الرحلات.

فكرة المعرض ورسالته

  • جانب من المعرض
    جانب من المعرض

بشأن ما إذا جاء المعرض استمراراً لعمله على موضوع المدارس المسكوبية، يقول فيدوتوف: "كان عملي مع تاتيانا بحر أول انغماس جدي لي في الموضوعات المتعلقة بلبنان والمشرق والجمعية الفلسطينية والتفاعل الروسي العربي. أثار هذا التعاون مع مؤلفة مشاركة ذكية وحساسة ومتخصصة اهتماماً عميقاً بالمعلمين والتربويين الذين شاركوا في مشروع الجمعية الفلسطينية التعليمي. ومنحني وجود كمية هائلة من المواد الأرشيفية، غير المكتشَفة والمخزَّنة في أرشيف السياسة الخارجية للإمبراطورية الروسية، مجالاً كبيراً للعمل. فالتعاون مع تاتيانا بحر فتح الباب أمام إيجاد "منجم الذهب"".

وبشأن رسالة المعرض، التي أراد أن يوصلها فيودوتوف إلى الروس المعاصرين، يرى أن الموضوع غير معروف كثيراً لدى الروس حالياً. حتى أولئك الذين سمعوا بشأن "الجمعية الفلسطينية"، في الغالب، لا يدركون حجم مشروعها التعليمي. فعلى مدى 3 عقود، عمل أكثر من 120 مدرساً روسياً في المؤسسات التعليمية التابعة لها، أكثر من 80 معلمة و 40 معلماً. وهذا نتيجة التطور المهم الناتج من الإصلاحات التي شهدها المجتمع الروسي في ستينيات القرن التاسع عشر وسبعينياته، في مجال التربية والتعليم. 

  • خريطة فلسطين
    خريطة فلسطين

لقد قامت "الجمعية الفلسطينية" على مبادئ تطوعية، وكان الدافع الشخصي للمعلمين الروس ذا أهمية كبيرة. وانتقلوا من البيئة الثقافية الروسية بعد إعدادهم الجيد إلى بيئة (عربية) مغايرة. بهذا المعنى، كان مشروع "الجمعية الفلسطينية" التعليمي اختباراً للثقافة الروسية بصورة عامة، وليس فقط لتفاعل المعلمات والمعلمين مع المجتمعات المحلية. وعبر المعرض، يمكن للزائرين أن يتعرفوا إلى التجارب التي خاضها مواطنوهم في المشرق. 

ونلاحظ في الأثر الثقافي المتبادل، مثلاً، أن أشخاصاً، مثل إسكندر كزما، وعفيفة عبده، وأنطون بلان، وقسطنطين كناسي، وهم من العرب، شعروا بالانتماء إلى الثقافة الروسية بعد أن تعرفوا إلى أفضل ممثليها. ونشاهد في إحدى الصور طلاب معهد الناصرة. أحد طلابه إبراهيم عرور، الذي تزوج شابة روسية، ارتبطت حياته أولاً بالإمبراطورية الروسية، ثم بالاتحاد السوفياتي. في صورة أخرى، تظهر كلثوم عودة (فاسيليفا عودة)، التي تزوجت شاباً روسياً، وارتبط اسمها بوطنها الجديد، بحيث باتت أحد أعلام الاستعراب.

الأثر الثقافي

  • ستاند ستيبان كوندوروشكين وبعض أعماله
    ستاند ستيبان كوندوروشكين وبعض أعماله

إذاً، مَن هم أبرز معلمي مدارس "الجمعية الفلسطينية" وطلابها، وما الإرث الذي تركوه، ثقافياً وأدبياً؟

عمل في المدارس والمعاهد المسكوبية ودرس أشخاص اكتسبوا شهرة خارج أنشطتهم المهنية. يعدد فيدوتوف منهم، ماريا الكسندروفنا تشيركاسوفا، مديرة المدارس المسكوبية، في بيروت، والتي حملت لقب "الماما الموسكوبية"، وباتت من الشخصيات العامة في بيروت العثمانية، ويحمل أحد شوارع المدينة حتى اليوم اسم "الماما" تكريماً لها.

كذلك، لا تغيب أعمال ستيبان سيميونوفيتش كوندروشكين، الذي عمل، طوال عدة أعوام، مفتشاً مدرسياً في راشيّا، وأصدر لاحقاً مجموعة "قصص سورية"، واكتسب شهرة في عالم النشر.

كما ترك لنا المعلم الروسي ميخائيل أوفشينيكوف مجموعة "رسائل من فلسطين"، التي تضم ملحوظاته الأنثروبولوجية، وكان عمل في الناصرة. وباتت هذه الرسائل متاحة للقارئ العام الماضي، بعد نشر كتاب عنوانه "المعلمون الروس في الشرق الأوسط: مذكرات من الحياة اليومية 1889-1895".

كما نُشرت مذكرات ألكسندر ياكوبوفيتش ونيقولاي بوغويفلينسكي، وكان هذان المؤلفان مصورين فوتوغرافيين، فتركا لنا الصور الأكثر إثارة للاهتمام، دليلاً مرئياً على الحياة والعمل في سوريا وفلسطين ولبنان والشرق الأوسط.

أمّا المعلّمان الزوجان فاسيليوف وستودينكوفا، فتُظهر نصوصهما خبرتهما الأدبية وحب الكتابة، وولد ابنهما الكاتب السوفياتي الشهير ليونيد سولوفيوف، في طرابلس اللبنانية. 

  • فيدوتوف بين زوار معرضه
    فيدوتوف بين زوار معرضه
  • فيدوتوف مع رئيس المركز الثقافي العربي في سان بطرسبورغ مسلم شعيتو
    فيدوتوف مع رئيس المركز الثقافي العربي في سان بطرسبورغ مسلم شعيتو

كانت الدوافع التعليمية في ذلك الوقت متداخلة بصورة وثيقة مع رغبة المرأة في التحرر. وتنحدر المعلمات الروسيات اللواتي عملن في المشرق، في الغالب، من أسر فقيرة، وعملن على إعالة أنفسهن وأفراد أسرهن. وعملت الموظفات المستقلات والطموحات بينهن على حلّ المهمّات الصعبة التي اعترضتهن. على سبيل المثال، كان القسم الداخلي في معهد بيت جالا تحت إشراف ي. م. تاراكانوفا، وانخرط في تعليم الفتيات العربيات وإعدادهن ليَغْدِين معلمات محليات في البلدة.

تُظهر بعض الصور المدرسية بعض الكتّاب العرب المشهورين من طلاب معهد الناصرة. ولا يخفى أن خليل بيدس، وميخائيل نعيمة، وغريغوار الحلبي، وبندلي الجوزي، وسليم قعبين، وعبد المسيح حداد، ونسيب عريضة، وإسكندر خوري البيتجالي، ومخايل إسكندر، كانوا من طلاب هذا المعهد. 

  • كرسي وآلة كاتبة استخدمت في فلسطين
    كرسي وآلة كاتبة استخدمت في فلسطين
  • مقعد تلميذ وأدوات استخدمت في تدريس الحساب وعلم النبات والجغرافيا
    مقعد تلميذ وأدوات استُخدمت في تدريس الحساب وعلم النبات والجغرافيا

يضمّ المعرض أكثر من 30 صورة أصلية للجمعية الفلسطينية، من مجموعة "المتحف الوطني للتاريخ الديني". كما تضمّ المعروضات كتباً لأعضاء الجمعية من محفوظات مكتبة المتحف العلمية، وخطاب تهنئة على المنسوجات الحريرية التي أنتجتها المعلمات في بيروت احتفالاً بالذكرى السنوية الخامسة والعشرين لإنشاء الجمعية، وأيقونة "صعود والدة الإله" من بيت المقدس.

كما تضم صوراً لمصورين هواة التقطوها عبر كاميراتهم نهاية القرنين التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهي من مجموعة مركز المعارض "روسفوتو"، بالإضافة إلى أغراض ومستلزمات كانت شائعة في الحياة المدرسية.