"احتضار الفرس" لخليل صويلح.. كي ينال جميع الموتى نصيبهم العادل من الحداد

طمأنينة الراوي لم تتحقق بوصوله إلى دمشق، فبعد مشاهداته المديدة لهول الفاجعة التي حلَّت بالبلاد، عاوده سأم العزلة بأقصى درجات، خاصةً مع تفشي وباء كورونا.

  • غلاف رواية
    غلاف رواية "احتضار الفرس" للروائي السوري خليل صويلح.

يتتبع الروائي السوري خليل صويلح في روايته "احتضار الفرس" ذاكرة الموت والعزلة واللعنات، ليس على طريقة أعماله السابقة "جنة البرابرة" و"اختبار الندم" و"عزلة الحلزون"، إذ يتكئ هذه المرة على تسجيلية من نوع خاص، ترسم خرائط البلاد، وتضع يدها على جُرْح الأمكنة، في رحلة الآلام على مسار القبور المفتوحة، والجراح المنكوءة للبشر، وذلك ابتداءً من دمشق مكان إقامته، إلى مسقط رأسه في قرية الشمسانية بالحسكة، حيث قبر والدته التي ماتت من دون أن يراها منذ تسع سنوات، بسبب الحرب التي اشتعلت في البلاد مُمَزِّقة الخرائط، ومُبعثرةً التضاريس وأرواح البشر. 

ورغم أنه يذكر في روايته هذه (الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- بيروت 2022) أنه "يشهق بصمت لفقدان أُمَّين لا أم واحدة"، والدته وسوريا، إلا أن شهقته الروائية كانت مُدوّيّة إلى حدٍّ بعيدٍ، إذ امتزج فيها أنينه الذاتي، كإنسان يعيش مرارة الغياب بأكثف أشكاله وأبلغِها، وكصحافي يكتب في عموده الأسبوعي عن عبثية الموت، وخراب البلاد، وتشظّي الهوية، ثم كروائي يجمع طبقات السرد والأصوات المكلومة ويجدلها بِرَوِيَّةٍ، مُحاولاً تفسير ما ينتاب الكائن الأعزل من ألم ورعب مَدِيدَيْن، وذلك بأسلوبية أشبه بـ"ضربة بلطة شاقولية تزعزع طمأنينة الراوي من جهة، ويقين الحكاية ومسالكها لتشقّ مجرى آخر للواقع، من جهة ثانية".

سريالية الألم

تبدأ الرواية برسالة وصلت إلى بريده الإلكتروني على أمل نشرها في الصحيفة، ورغم نسيانه لها، إلا أنها ظلَّت تُلحّ عليه، لهول ما تحويه من مُخادَعة وخذلان، فكيف يمكن أن تصل جثة جندي برأس مقطوع ويدين يُسرتَين مبتورتين والمطلوب دفنها بتكتُّم شديد؟ شيءٌ من سريالية الألم بمَذاقٍ غير مفهوم، تتكثف شيئاً فشيئاً مع رحلة آلام الراوي إلى مسقط رأسه بطائرة "اليوشن" متهالكة، مُحمَّلة بجنودٍ ومرضى وحقائب وتوابيت، ثم زيارته لقبر والدته التي لا يحتفظ بصورة فوتوغرافية لها، إلا ما خزَّنته ذاكرته الخصبة منذ فطامه المُبكِّر، وحتى آخر اتصال له معها، وكأنه في سردياته عن شقائها وتفاصيل علاقته معها، يعيد وصل حبله السري بها إلى الأبد.

وبالطريقة ذاتها فإنه خلال عودته بالحافلة من الحسكة مروراً بتل تمر وتل أبيض وعين عيسى في ريف الرقة، ثم عين عرب ومنبج على الشريط الحدودي السوري التركي، عبوراً بمدينة حلب نحو دمشق، كان يوثِّق ذاكرة الألم للمناطق المدمَّرة التي مرَّ بها، ابتداءً من مخيم الهول شرق الحسكة الذي فرّت إليه نساء تنظيم داعش من الموصل والرقة والأنباء، إلى مقبرة الهوتة في أقصى ريف الرقة الشمالي، ثم عفرين التي استولى عليها الأتراك وهجروا سكانها من الأكراد لمصلحة غرباء احتلوا بيوت أهلها وشجر زيتونها، وحطموا التماثيل البازلتية والمنحوتات النادرة التي تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، في مواقع النبي هورى، وبرج عبدالو، وتل جنديرس، ومعبد عيد دارة.

ثم منبج الواقعة بين شرقي الفرات وغربه، ما وضعها في مهب حرب شرسة بين كتائب متناحرة، وأيضاً معرة النعمان التي استفاقت في 12 شباط / فبريار 2013 على جريمة حز رأس الفيلسوف الأعمى باستعمال آلة قص حجارة، لتستعيد ذاكرة الراوي ما حل بتدمر بعدما غزاها الإرهابيون مضيفين "ش" الشام إلى اسم دولتهم، وكيف تم التنكيل بجثة عالم الآثار خالد الأسعد لأنه رفض تسليمهم مفاتيح الكنوز القديمة، وأيضاً ما تعرضت له معلولا عام 2013 من إضرام النيران في البيوت والكنائس والساحات، وخطف راهبات، وتهجير عائلات بأكملها، ثم القذائف التي كانت تُوجّه نحو مدينة صيدنايا المجاورة، من دون أن تتوقع أجراس الكنائس والأديرة عن قرع أجراسها تنبيهاً لخطر وشيك.  

تصحيح خطأ الموت

تلك الاستعادة للمجازر والدمار والموت المجاني وازته استعارة "صويلح" لأصواتٍ مُساندة، يُدوْزِن انفعالاتها، جاعلاً منها جوقة تدعمه فيما أسمته دعد حداد "تصحيح خطأ الموت"، إذ يعود إلى جدارية محمود درويش، مُستلهِماً منها "كونشيرتو الأصوات" في مجابهة الموت الذي هزمَه في الحركة الرابعة، ويستعين بفاتح المدرس الذي حمل أشجار الزيتون من قريته كفر جنة في جبال عفرين إلى مرسمه في دمشق، وهناك كتب قبل مجيء البرابرة بأعوام "مرّ هولاكو من هنا، تبسّم ثم ولّى الأدبار".

ويستند الراوي في ضيقه أيضاً على قصاصة ورق وُجِدَت في قميص فواز الساجر بعد وفاته كتب فيها: "تفكيرنا ضيق، مصيرنا ضيق، موتنا ضيق، قبرنا ضيق، افتحوا الأبواب والنوافذ، سيقتلنا الضيق، افتحوا الأرض والسماء سيقتلنا الضيق، افتحوا الكون، الضيق، الضيق، الضيق". وبالتوازي يُقرؤنا ما قاله سان جون بيرس "ضيقة هي المراكب، ضيق سريرنا"، وإلى جانب ذلك يستذكر "صويلح" الشاعر حامد بدرخان صاحب "الزيتون يركض حافياً"، ورياض الصالح الحسين الذي كتب "نحن أبناؤك الطيبون الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك .... ولن نتركك تضيعين يا سورية"، ليكون الحضور الأبرز لخوان رولفو وروايته "بيدرو بارامو" التي يعود فيها إلى قريته "كومالا" تنفيذاً لوصية أمه بضرورة أن يسأل عن أبيه الذي لا يعرفه بمجرد موتها، ليكتشف بأنه يجول في قرية أشباح، وهو ما تطابق مع عودة الراوي إلى قريته الشمسانية.  

طمأنينة الراوي لم تتحقق بوصوله إلى دمشق، فبعد مشاهداته المديدة لهول الفاجعة التي حلَّت بالبلاد، واستذكاراته الأدبية التي استدعتها لعنات الأيادي المبتورة، والرؤوس المقطوعة، والتَّمزُّق في كل شيء، عاوده سأم العزلة بأقصى درجات، خاصةً مع تفشي وباء كوفيد-19، ليبدأ صويلح بترويض عزلته بأصوات جديدة وصور مُغايرة، فها هي صديقته الفنانة التشكيلية "س" تهديه لوحة لبومة زرقاء مع لطخة سوداء على عينيها، ليكتشف بعد حين أنها تماهت مع ما كتبه الإيراني "صادق هدايت" في قصته "البومة العمياء" وانتحرت.

كافكا محليّ

ثم نتعرف على "دلال شاكر" بِطَرْقَاتها الخاصة على باب بيته، ومزهريتها الخزفية بياسمينها الذي يعبق في روح الراوي وذاكرته كلما مرّ طيفها، وهناك أيضاً المُصوِّر والمراسل الحربي جابر عرابي، جار الراوي الذي يتحدث عن حنينه للصور المغمورة بمحاليل التحميض، وعن ارتكاسات فن التصوير الضوئي، وعن ذاكرته الملعونة التي أتعبته، خاصةً عندما يتذكر كيف وثَّق إعدام 17 ضباطاً بتهمة التمرد على عقيدة الجيش وخروجهم عن مبادئ ثورة آذار/ مارس 1963، وبعد نكسة حزيران / يونيو 1967 كيف صوَّر إعدام ضابطين كان أحدهما من كلَّفه بالمهمة الأولى، وغير ذلك الكثير، ليموت "عرابي" وحيداً فيتحول الأستوديو الخاص به إلى بيت بغاء، تديره الأرملة "بينيلوب" المكلومة بزوجٍ مختطف اقتنعت بأنه لن يعود، فاضطرت إلى الغطس في "بانيو الرغبة والشهوات" بالشراكة مع جنرالات الحرب الجدد، ومعاركهم التي لا تنتهي.

وفي خضم هذه العشوائية تتناهب عزلة الراوي شخصيات أدبية أخرى من مثل جلجامش وأنكيدو، والشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، والبرتغالي فرناندو بيسوا، والزير سالم، وجورج أورويل في روايته ""، فضلاً عن بيانات الانقلابات العسكرية في سوريا بين عامي 1949 و1966 التي كان يبثها الراديو، ليكتشف الراوي أن "هذا الحطام العمومي في الأجساد والأرواح، يحتاج إلى كافكا محليّ في تفسير عمق الهاوية" ليضيف: "ولكن ماذا سيفعل كافكا هنا، بصرف النظر عن هويته؟ سينصرف، على الأرجح، إلى كوابيسه المخترعة، إلى نفقه، إلى جحره، إلى قفصه، أمام الأهوال التي تصنعها مطحنة الموت، هذه المفرمة المفزعة التي لا تتوقف عن العمل ليلاً نهاراً بنوع من الفكاهة السوداء، على الأرجح، ستبدو سوداوية كافكا، مجرد تمرينات أولية في توثيق الكوابيس مقارنةً مع الوقائع المستجدة التي ابتكرها الموت في هذه الجغرافيا الملعونة".

ولا يكتفِ "صويلح" بتصويره لجدارية الجحيم ومتحف الأنقاض، ولا توثيقه لوليمة الموت المتنقلة التي لم تتوقف يوماً عن تسديد الطعنات للجميع في هذه البلاد، بِطَيْشٍ غير مسبوق، بل إنه يضع كل ذلك على ظهر سرديات أشبه بِفَرَسِ، يعرف "كل الأسماء"، كما في رواية ساراماغو، ويسعى ما استطاع لأن يكون نزيهاً "حتى ينال كل الموتى نصيبهم العادل من الحداد"، وكأن صويلح في عمله الروائي هذا يُكرِّر ما قاله ت. س. إليوت من قصيدة "أربعاء الرماد": "لأنني لا آمل في العودة ثانيةً/ دَعْ هذه الكلمات تَتَحمَّل/ تَبِعَةَ ما صُنِعَ، حتى لا يُصنَع ثانيةً/ وليكن حُكم القضاء غير شديدٍ علينا".