الأرشيف العاطفي للبشرية

في عالم تحكمه شركات كبرى تسعى جاهدة لتحويلنا إلى مجرد "مستهلكين"، ولا تقيم وزناً لشيء سوى "القوة الشرائية" للبشر/الزبائن، يأتي الشعر كالعصيان الأنقى.

  • أدونيس
    أدونيس

في هذه الحقبة الزمنية المتّسمة بكثرة الصخب والضوضاء والاستهلاك العظيم، حيث يلهث كثير من الناس وراء قشور الحياة، وتغرق الأرواح في الضجيج الخالي من المعنى، يراودني السؤال التالي: أي مكان للشعر في زمن "التيك توك" وأخواته؟ أي مقعد للوجدان بين زحام البضائع والأرقام؟ إنها المعركة الوجودية بين الجوهر والمظهر، بين العمق والسطح، بين ما يبقى وما يزول.

الشعر ليس زينة تزاحم زينة العصر. إنه ضرورة إنسانية أدركها أسلافنا منذ ابتكار الإنسان لغة التواصل وأدوات التعبير. وقد ذهب العرب القدماء إلى اعتباره نوعاً من الوحي والإلهام كما في قول أبي حيّان التوحيدي: "الشِّعرُ قِطعةٌ من النبوّة، ومِثَلٌ من الحكمة".

إنه الأوكسجين الخفي الذي يسري في أوردة القلب، والملح الذي يُبقي مائدة الروح شهية. فالإنسان - بحكمة الخالق - لم يُخلق كي يأكل ويشرب ويُشبع غرائزه الحسيّة فحسب، ولكنه ولد كي يقول، ويصغي إلى همس الكائنات ويحوله أنغاماً ونوتات، ويكتشف معنى الوجود.

الشعر يشبه الأنهار الجوفية التي تجري تحت سطح الأرض، يظل خفياً عن الأعين لكنه يغذي جذور الأشجار والنبات. هو النظام البيئي للوجدان الذي يحفظ توازن كينونتنا. ولو اختفى هذا النهر لجفتْ القلوبُ، وتحولت الحياة إلى قفار موحشة.

في عالم تحكمه شركات كبرى تسعى جاهدة لتحويلنا إلى مجرد "مستهلكين"، ولا تقيم وزناً لشيء سوى "القوة الشرائية" للبشر/الزبائن، يأتي الشعر كالعصيان الأنقى. فإذا كانت اللغة مسكن الكينونة كما ذهب هايدغر، فإن الشعر هو النفحة الروحية التي تَكشِف ما أخفته آلة الاستهلاك من حقائق وجودنا.

النظام الاستهلاكي يخترع دائماً حاجات وهمية لنشبعها بشراء المنتجات، بينما يقدم الشعر إشباعاً لا ينضب أبداً.

السيارة الجديدة تبلى بعد سنوات، لكن قصيدة المتنبي "الخيل والليل والبيداء تعرفني" لا تزال تجدد نفسها منذ ألف عام. هذا هو الفرق بين ما يُشترى بالمال وما يُقتنى بالروح والفكر والوجدان.

كتب التاريخ تسجّل أحداث الملوك والقادة والحروب والنزاعات، بينما يحتفظ الشعر بنبض الناس "العاديين"، بدموعهم وفرحهم، بحبهم وحزنهم، إنه الأرشيف العاطفي للبشرية. ولذلك فإن قصيدة عن فراق الحبيب قد تخبرنا عن روح العصر أكثر من مئات الصفحات عن معاهدات الأمن والسلام. فكما قال أبو تمام: "الشعر ديوان العرب"، وهو أيضاً ديوان إنسانيتنا، السجل الذي يحفظ ما تبقى منا عندما تغيب كل السجلات.

ولئن كانت الحضارات تزول وتندثر معالمها، فإن الشعر يبقى شاهداً على وجودها. اليوم نعرف مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام من خلال المعلقات أكثر مما نعرفه من "الوثائق الرسمية"، ونعرف كثيراً من قصص الحب العظيمة من خلال قصائد الشعراء، سواء تلك التي تروي تجاربهم الشخصية أو التي عايشوها؛ فالشعر ليس مجرد كلمات منمقة تميزه عن سواه من أنماط الكتابة الأدبية، بل هو مرآة الذات العليا.

ووفق أدونيس: "الشعر رؤيا.. والشاعر هو الذي يرى في الظلام، ويقول ما لا نراه في الضوء". إنه المعبِّر الأصدق عن لحظات الحياة والموت، الفرح والحزن.

القصيدة الجيدة تشبه نافذة نطل منها على العالم، لكنها في الوقت نفسه مرآة نرى فيها أنفسنا. فعندما نقرأ لامرئ القيس "قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل" لا نكون فقط أمام شاعر جاهلي أنشد حكايته الشخصية، بل أمام كل إنسان وقف يوماً يذكر حبيباً أو داراً. إنه الجسر الذي يربط الأزمنة والأمكنة، وعلاقة الإنسان بها.

لا يقتصر دور الشعر على التعبير عن المشاعر فحسب، بل يصنع ذائقتنا الجمالية ويصقل إحساسنا بما نعيشه ويدور من حولنا. إنه يشبه عدسة مكبرة تُظهر لنا تفاصيل العالم التي كنا نمر عليها مرور الكرام. فالشاعر لا يكتب عن المطر، بل يجعلنا نسمع همس القطرات، نشم عطر الأرض بعد الشتوة الأولى، ونرى دموع السماء وهي تحتضن التراب.

يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار: "الشعر يعلمنا أن نرى العالم من جديد". فمن خلال الصور الشعرية، نتعلم أن ننظر إلى القمر لا كجرم سماوي فقط، بل كمرآة للحبيب، أو كشمعة في ظلمة الوجود، أو كرسالة من عالم آخر. هكذا يصبح تذوق الشعر مشروعاً تدريبياً مستمراً لتعلم فن النظر بعمق، لا بسطحية.

الشعر يعيد تشكيل ذائقتنا اللغوية أيضاً. فالقارئ للشعر يبدأ لا إرادياً في تذوق الجملة الرشيقة، والكلمة الموحية، والصورة المبتكرة. فكل قصيدة جيدة نقرأها ترفع من سقف توقعاتنا الجمالية، وتجعلنا أقل تقبلاً للغة التسطيح والسهولة التي باتت رائجة ومنتشرة.

لنستردَّ الشعرَ إلى حياتنا، لا بالمعارك الضاجة، بل بالعودة الهادئة إلى نبضنا الإنساني. ليكن لقاؤنا بالشعر موعداً مع الذات المنسية، كمن يفتح نافذة قديمة على روحه بعد طول غياب. ولمن يسأل كيف أقيم علاقة جيدة مع الشعر في زمن المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي: 

ابدأ بالسماح للقصيدة أن تزورك في عزلتك، كضيف عزيز يطرق الباب من دون موعد. دع كلماتها تحتل مساحات من صمتك، وتعيد ترتيب أثاث روحك. امنحها وقتك كما تمنح وردةً تتفتح، ببطء وصبر وإعجاب.

احتفظ بمفكرة تكون حديقة سرية للحظاتك الخاصة، دوِّن فيها الومضات التي تسرقها منك القصائد، والصور التي تتركها فيك كعلامات على الطريق. لا تبحث عن الكمال، بل عن الومضة التي تعيد تشكيل عالمك من جديد.

اجعل من قلبك قاعةَ استماعٍ للشعر، حيث تتحول الكلمات إلى أنغام، والإيقاعات إلى دقات قلب. استمع كما كان الأوائل يستمعون إلى الرواة حول النار، ففي الصوت نبضٌ لا تجده في الحروف.

لا تتردد في أن تهمس بالشعر في آذان هذا العصر، أن تنشره في حواشي رسائلك، تعلقه على جدران ذاكرتك الرقمية، تزرعه في تعليقاتك كما تزرع زهرة في أرض قاحلة. ليكن الشعر مقاومتك الهادئة ضد جفاف المشاعر.
وتذكّر أن تدع القصيدة تكتبك أحياناً، لا أن تكتبها أنت. دع المشاعر تتدفق كما تشاء، من دون قيود الوزن والقافية. فالشعر الحقيقي ليس شكلاً واحداً، بل هو النبض الذي يسبق الكلمة، والروح التي تسبق الجسد.

هكذا، بخطوة بسيطة في كل مرة، نعيد للشعر موضعه من القلب، ونعيد للقلب موضعه من الحياة. ففي زمن البيع والشراء، يبقى الشعر هو الجوهرة التي لا تقدر بثمن. يبقى تذكاراً بأننا - فوق أننا مستهلكون - نحمل في أصاغرنا أنجم السماء. هو "الشاهد الأخير على إمكانية لغة أخرى" في زمن يحاول أن يسلبنا حتى كلماتنا. وأيهما - يا ترى - هو الحياة الحقيقية؟

إنه السؤال الذي تُترك إجابته تتردد في مساحات الصمت بين كلمات القصيدة.

اخترنا لك