الإمبراطورية الخطابية: من الخطابة إلى الفعل

كلما كان الخطاب مُركَّزَاً كلما كان أنيقاً وأقرب للتلقي، إلا أن الحجاج يتطلب أكثر من ذلك، وقد يتطلب العكس، إذ أن الأصل ليس التركيز أو التكثف، على أهميته، وإنما قوة الحجة ووجاهتها.

  • كتاب
    كتاب "الإمبراطورية الخطابية: من الخطابة إلى الفعل" للباحث شاييم بيرلمان.

الكتاب: الإمبراطورية الخطابية: صناعة الخطابة والحجاج

تأليف: شاييم بيرلمان

ترجمة: حسين هاشم

الناشر: دار الكتاب الجديد – بيروت – 2022 |

تبدو عودة الخطابة والبلاغة والحجاج، بعد تراجع على مستوى العالم، غريبةً عن الثقافة العربية والمشرقية، التي تُوصفت بأنها "ثقافة بلاغية". غير أن التدقيق والتقصي يُظهِرَان أن الخطابية العربية، هي في جانب كبير منها، تكاد تكون بلا معنى أو بلا مضمون تقريباً، ذلك أن الخطابية ليست مجرد رصف للكلام والصور والتعابير والأمثال والأشعار، ولا بد أن تنطوي على معنى، وأن تكون قابلة للتلقي الحسن والتصديق، والأهم "أن تتجه للفعل"، أي أن يحيل الخطاب، وهو هنا نصوص كتابية ورقية أو رقمية، أو شفاهية، أو صور ومقاطع الخ إلى معانٍ وقيم مادية ورمزية، وإلى فواعل في الواقع. 

استعادت البلاغة "إمبراطوريتها"، وأصبحت "الملكة الجديدة القديمة للعلوم الإنسانية"، (ص 255). وهي لم تَستَعِد مكانة سابقة فحسب، بل توسعت وارتادت أفاقاً جديدة، واقتحمت فضاءات كانت تُعدّ خارج مجالها. ونحن اليوم أمام بلاغة خطابات كثيرة، مثل: الخطاب السياسي والديني والصحافي والتاريخي وبالطبع الأدبي، بالإضافة إلى بلاغة الصورة والفنون والعلم، (ص5). 

يحاول كتاب "الإمبراطورية الخطابية: صناعة الخطابة والحجاج" للكاتب شاييم بيرلمان، تجاوز صناعة الخطابة والبلاغة القديمة، التي تتمثل في "تعليم الخطابة وتوفير وسائل الإقناع للخطيب"، إلى "فهم ميكانيزمات التفكير وبنيات الحجاج التي يستعملها الإنسان في الأمور العملية ومجال الفعل"، (ص9). ويدخل في هذا الباب تقنيات الخطاب الشفهي والصورة. 

يقول الكتاب إن "الكائنات المنتمية إلى فئة أساس واحدة ينبغي أن تُعامل بطريقة واحدة". ويتساءل: "لكن كيف يمكن تمييز ما هو أساس مما ليس كذلك، وما هو مهم مما يمكن إهماله؟". يجيب: "إن هذا التمييز لا يمكن أن يتم من دون الرجوع إلى أحكام قيمة كانت تبدو لي، وقتئذ، اعتباطية تماماً وغير مضبوطة منطيقاً". ويتساءل: "كيف يمكن للمرء الاستدلال في مجال القيم؟ هل توجد مناهج مقبولة عقلانياً تمكن من تفضيل الخير على الشر، والعدل على الظلم، والديمقراطية على الدكتاتورية؟"، (ص58).  

الفلسفة وصناعة الخطابة

يقول رولان بارت إن صناعة الخطابة "يجب أن تُقرأ دائماً في الإطار البنيوي لجاراتها: النحو والمنطق والشعرية والفلسفة". ويضيف الكاتب أنه "ينبغي تدقيق علاقاتها بالجدل لكي نحدد موقعها وتعرّفها بشكل أفضل"،(ص69). 

وميّز أرسطو في "الأورغانون" بين نوعين من الاستدلالات: تحليلية وجدلية. في التحليلات، يدرس أشكالاً صحيحة من الاستنباط، وخصوصاً القياس، وهي تمكن من أن تُستنبط من بعض الفرضيات، بعد وضعها، نتيجة ما بالضرورة: إذا كانت "أ" هي "ب"، وإذا كانت كل "ب" هي "ج"، ينتج عن ذلك ضرورةً أن كل "أ" هي "ج". فالاستنباط صحيح، كيفما كان صدق المقدمات أو كذبها، لكن النتيجة لا تكون صادقة إلا إذا كانت المقدمتان صادقتين". 

لكن الأمر ليس كذلك في الاستدلالات الجدلية، فالاستدلال يكون جدلياً، كما يقول أرسطو، إذا كانت مقدماته مكوّنة من آراء "مقبولة بوجه عام" أو "جديرة بالقبول". وبما أن الهدف من الاستدلالات الجدلية هو الدفع إلى القبول بدعاوى أُخر، متنازع فيها، فهي تستهدف إذاً الإقناع أو التقين. وهي لا تقوم على استنباطات صحيحة مُلزمة، بل تعرض حججاً قوية بهذا القدر أو ذاك، مقنعة بهذا القدر أو ذاك، ولا تكون صورية. و"ينبغي التمييز بوضوح بين الاستدلالات التحليلية والاستدلالات الجدلية، فإحداها تقوم على الحقيقة والأخرى على الرأي"، (ص71).

قابل أرسطو الخطابة بالجدل، الذي يهتم بالحجج المستعملة في مناقشة مخاطب واحد، في حين أن صناعة الخطابة تهتم بالتوجّه إلى جمهور مجتمع في الساحة العمومية، ولا يملك أي معرفة متخصصة وغير قادر على تتبع استدلال معقد شيئاً ما. غير أن صناعة الخطابة الجديدة، تتعلق بالخطابات الموجهة إلى جميع أنواع المستمعين أو المتلقين، وحتى الحجج التي يوجهها المرء لنفسه، (ص73). 

الحجاج والخطيب ومُستمعَه

 وما دام أن هدف الحجاج ليس استنباط النتائج من مقدمات معينة، وإنما إحداث تصديق مُستمَع ما لدعاوى المعروضة عليه وتقويته، فهذا يستلزم "اتصالاً عقلياً بين الخطيب ومستمعه: فلا بد للخطبة من أن تُسمع، وللكتاب من أن يُقرأ ... إن اتصال العقول ضروري".  (ص79). 

يقول الكاتب: "إن كل مجتمع، مقر بأهمية مثل هذه الاتصالات، يسعى إلى تنظيمها، بل يمكن أن يجعلها إجبارية، فقداس يوم الأحد يتيح اللقاء الأسبوعي للقس مع أفراد رعيته، والتعليم الإجباري يضمن للمدرس حضور تلاميذ خاضعين لتأثيره، والدعوة السنوية للدورات البرلمانية، المنصوص عليها في الدستور، تجعل الحكومة تواجه منتخبي الأمة في تاريخ محدد، والمساطر القضائية تؤمن للمدعي السير الطبيعي للمحاكمة، حتى لو عاند الخصم". (ص80). 

"وتشكل إقامة العلاقات الدبلوماسية أو قطعها شرطاً أول، يدل على أننا مستعدون للنقاش مع الطرف الخصم أو أننا لا نقبله مخاطباً. وحتى قبل التساؤل عن صاحب الحق في نزاع ما، فمن المهم أن نعرف هل نفكر في تسوية خلاف بالتفاوض أي اللجوء إلى الحجاج، أم باللجوء إلى القوة". (ص80). 

لكن الحجاج هو اتصال وموضوع، وليس الاتصال متاحاً دائماً، إذ ثمة عوائق أو حدود، ومثل ذلك بالنسبة للموضوعات، ومن ذلك مثلاً احتكار وسائل الاتصال والإعلام، والقيود أو الضغوط على الحريات؛ وقد ينسحب ذلك على الموضوعات والقضايا، إذ ليست كلها ممكنة التناول في الفضاء العام. وهذا ما قاله أرسطو من قبل، إذ إن "بعض القضايا لا تستحق النقاش، وبعضها الآخر لا يمكن مناقشته، لأن جعلها موضع تساؤل، هو في حد ذاته، مسّ بالمقدسات أو عمل مشين". (ص81). 

ولكن الحجاج "لا يهدف إلى التصديق الفكري المحض فقط، بل غالباً ما يسعى إلى الحث على الفعل، أو إحداث استعداد له على الأقل. ومن الجوهري أن يكون الاستعداد الذي أُحدث بهذه الطريقة، قوياً بما يكفي للتغلب على العوائق المحتملة".(ص82). وهذا ما لاحظه أوغسطين، يقول: "إنه لا جدوى من الاقتناع بحقيقة ما قيل، ولا جدوى من الاستمتاع بالطريقة التي قيل بها ذلك، إذا لم تُتعلم بقصد الممارسة. إن القس البليغ، حين يقدم حقيقة عملية، ينبغي ألا يلقنها بقصد التعليم وإثارة الإعجاب بشكل يشد الانتباه فحسب، بل ينبغي أيضاً أن يتمكن من العقل بشكل يُخضع له الإرادة". يضيف: إن المستمع لن يكون مقتنعاً حقاً إلا "إذا انقاد لوعودك وارتاع من وعيدك، وطرح ما تدينه واعتنق ما توصي به؛ وحزن لما تعتبره مثيراً للحزن، وابتهج بما تعتبره مثيراً للبهجة؛ وَرَقَّ قلبُه لمن تعتبرهم أهلاً للشفقة، وتجنب من تقدمهم له كأناس يُرهب جانبهم وتُتّقى شوكتهم". (ص82).

لكن الحجاج يبحث عن تأثيرات مختلفة، ويستعمل مناهج ومقاربات وأدوات مختلفة حسب الحال، بمعنى أن الخطيب "يتكيف مع مستمعه"، وبالطبع، الموضوع، والمخاطَب، والمكان، وهذا ما تكثفه عبارة: "لكل مقام مقال" المعروفة في العربية. كما أن الخطاب يتجاوز من يوجه إليهم إلى دائرة أوسع من المتلقين، إذ إن عضو البرلمان يتوجه في خطابه إلى رئيس الغرفة، لكن ثمة متلقين آخرين، وقد يكونون هم المعنيون أساساً بالخطاب، مثل أعضاء البرلمان الآخرين، أو الحكومة أو الرأي العام. 

لكن، هل أن اقتناع المتلقي بالخطاب مشروط بأن يكون صاحب الخطاب مقتنع به أصلاً؟ ثمة كلام كثير في هذا الباب، إذ يمكن للخطاب أن يكون مُضلِّلَاً، بقصد أو من دون قصد، كما أن التحليل النفسي أقنعنا بأن المرء يمكن أن يُضلِّل نفسه، وأن الخطاب يمكن أن يرتكز على تبريرات وليس محض حقائق. وكانت إرهاصات هذه الفكرة بدت عند شوبنهاور، "الذي يرى أن "العقل" لا يفتأ يتستر على الدوافع الحقيقة لأفعالنا التي قد تكون لا عقلانية تماماً". (ص85). 

مقدمات الحجاج

على الخطيب أن يتكيف مع مستمعه، وهذا يقتضي منه أن "يختار نقطة انطلاق استدلاله .. من الدعاوى المسلم بها من قبل هؤلاء الذين يتوجه إليهم". (ص91). و"هدف الحجاج، فعلاً، ليس إقامة الدليل على صدق النتيجة انطلاقاً من صدق المقدمتين، كما هو الشأن في البرهنة، بل إن هدفه هو نقل التصديق الممنوح للمقدمات إلى النتائج. وعلى الخطيب ألا ينطلق سوى من مقدمات تتمته بتصديق كافٍ، وإلا كان عرضة لخطر الفشل في مهمته، وإذا لم يكن التصديق كافياَ، فتقويته بكل الوسائل يجب أن يكون أول انشغالات من يريد الإقناع". (ص91).

والآن، كيف يمكن للخطاب إقصاء أو تجاهل واقعة أو حقيقة؟ يقول الكاتب: "إن الطريقة الأنجع للاعتراض عليهما هو بيان تعارضهما مع وقائع أو حقائق أخرى أنها أكثر وثوقاً، بل الأفضل إثبات تعارضهما مع حزمة من الوقائع أو الحقائق ليس هناك استعداد للتخلي عنها". (ص95). و"عادة ما نعوّل على مظنونات لا تعرض باعتبارها تملك نفس وثوقية الوقائع والحقائق، إلا أنها تقدم أرضيات كافية لإرساء قناعة معقولة. وهي تُقرن عادة بما يحدث باطراد، وربما يكون من المعقول أن تعول عليه". (ص95). 

ومن الأمثلة على المظنونات ذات الطابع العام: "مظنون كون نوعية فعل ما تكشف صفات صاحبها؛ ومظنون التصديق التلقائي التي تجعل تصديقنا لما يقال هو رد فعلنا الأول، ومظنون الاهتمام الذي يجعلنا نفترض أن كل ملفوظ يصل إلى أفهامنا سيثير اهتمامنا؛ والمظنون المتعلق بالطابع المعقول لأي فعل إنساني. (ص95).  

يقول الكاتب: إن ثمة قيم كونية تبدو محل اتفاق، مثل: الحق والخير والجميل والعادل، إلا أنها كذلك (أي كونية ومحل اتفاق) "طالما بقيت غير محددة، لكن بمجرد أن نحاول تحديدها، بتطبيقها عل حالة أو فعل ملموس، لا تلبث خلافات الجماعات الخاصة واعتراضها أن تطفو على السطح". (ص98). 

وثمة ترتيبات تتعلق بالقيم، مثل: سمو العادل على النافع، والعلة على المعلول، والأحد على المتعدد، (ص100)، وترتيبات تعتمد على الكم، مثل: أولوية او أفضلية الكمية الكبيرة على الصغيرة، والنخبة على الجماهير، والاستثنائي على المعتاد، والعاجل والطارئ على النمطي، والسابق على اللاحق، والسبب على النتيجة، والموجود على الممكن الخ (ص102).

الاختيار والحضور والعرض

"إن كل حجاج ينطوي على انتقاء مسبق، انتقاء للوقائع والقيم، وعلى وصف بطريقة خاصة، بلغة معيّنة وبإلحاح يختلف بحسب الأهمية التي تُولى إياها. وانتقاء العناصر، واختيار أسلوب للوصف والعرض، وحكم القيمة أو حكم الأهمية، كل هذه العناصر تُعدّ، بطريقة هي بالأحرى مبررة، معبّرة عن موقف مسبق، (ص106).

يقول الكتاب "إن الحضور يؤثر بطريقة مباشرة في حساسيتنا"، مثل عرض الضحايا أو صور لهم، أو عرض مقاطع فيديو. لكن الحضور قد يؤثر على ذهن الفاعل أو الخطيب أو صاحب الخطاب، وقد تتحرك دوافع مخيالية أو تصورية أو عاطفية كذا. ثمة تأثير متبادل بين الفاعل والمتلقي، ولذلك أنماط مختلفة بحسب الحال. وقد يحدث تلفيق أو تحريف للوقائع، وتَكَلُّف بلاغي. 

"يمكن التمييز بين أربعة أنواع من التعريفات في اللغة الطبيعية: التعريف المعياري الذي يحدد طريقة استعمال لفظ ما، والتعريف الواصف الذي يهتم بالاستعمال العادي، وتعريف التكثيف الذي يبيّن العناصر الأساس للتعريف الواصف، وأخيراً التعريف المركب الذي يؤالف بشكل متنوع بين عناصر التعريف السابقة". (ص 138).

إن استعمال تعريف ما، هو مسألة خلافية وإشكالية إلى أبعد الحدود، واستخدام غير منضبط، كيفي، براغماتي، قل: سياسي، في كثير من الأحيان. وعادة ما يكون الاستخدام مرتبطاً بأولويات ورهانات وتقديرات الفاعل. وإذا ما كان الجدال أو السجال أو قل الحجاج في أمور محتدمة. يقول الكاتب: "إن المناطقة ينزعون إلى اعتبار التعريفات اعتباطية، غير أن ذلك لا يصدق إلا على نسق صوري حيث يُفترض في العلامات ألا تتضمن سوى المعنى الذي يُسند إليها اصطلاحاً". (ص138). 

وإن "أغلب الحجج المؤسسة على الواقع تلجأ إلى روابط تعاقب، كرابطة السبب بالنتيجة، أو روابط تعايش مثل العلاقة بين الشخص وأفعاله". (ص161). وثمة الحجاج بالمثال والشاهد والقدوة، (ص187). والقدوة المضادة أي "التعلم بالمعاكسة" بتعبير مونتيني. (ص195). وعلى مبدأ "بضدها تُعرف الأشياء".

التناسب والاستعارة

يمثل اللجوء إلى التناسب أحد مميزات التواصل والاستدلال، (ص199). ويمكن التعبير عن التناسب في مثال أو موعظة إبيكتيتوس التي تقول: "إذا أدخل طفل يده في وعاء ضيق المنفذ ليستخرج تيناً وجوزاً، وملأ بهما يده، ماذا سيحصل له؟ لن يستطيع إخراجها وسيبدأ بالبكاء. سنقول له: أطلق بعضاً منها لتستطيع إخراج يدك". (ص201). وثمة تناسب بين الفعل والجزاء، بين الفعل والمكافأة، وبين العمل والأجر. و"كل تناسب يُبرز بعض العلاقات ويترك أخرى في الظل. فـماكس بلاك يؤكد عن حق أنه حين توصف معركة بألفاظ مستعارة من لعبة الشطرنج، يُقصى كل ما يتعلق بفظاعات الحرب". (ص205). 

ويعرّف أرسطو الاستعارة بأنها: صورة تقوم على أن يعطى لشيء اسم يلائم اسماً آخر، هذا التحويل يتم إما من الجنس إلى النوع، أو من النوع إلى الجنس أو من النوع إلى النوع، أو على أساس تناسب ما". (ص206). وبالنسبة للكاتب، "ليست الاستعارة سوى تناسب مكثف، بفضل اندماج الثيمة والحامل ... ويُولَّد من التوجه  بين صفة ما والواقع الذي تنطبق عليه. فحين نكتب عن محارب شجاع: "هذا الأسد انقض فإننا نضمر أن هذا المحارب أسد، الشيء الذي يتضح بالتناسب التالي: هذا المحارب بالنسبة للرجال الآخرين مثل أسد بالنسبة إلى حيوانات أخرى". وبشكل أعم، "حين نقول عن شخص إنه دب أو أسد أو ذئب أو خنزير أو حمل، فإننا نصف طبعه أو سلوكه أو مكانته بين الناس بشكل استعاري، وذلك بالاستعانة بالفكرة التي نكوّنها عن تصرفات هذا النوع أو ذلك ومكانته في عالم الحيوان، محاولين أن نثير بخصوصه نفس ردود الفعل التي نحس بها جماعياً تجاه هذه الأنواع". (ص207).

"إن اللجوء إلى المجاز الاضطراري ناجع جداً في الحجاج، إذ أن استخلاص نتيجة انطلاقاً من طريقة معتادة في التعبير تجعل القار لا ينتبه إلى طابعها التناسبي، فتبدو ناجمة من طبيعة الأشياء نفسها". (ص209).

سعة الحجاج وقوة الحجج

كلما كان الخطاب مُركَّزَاً كلما كان أنيقاً وأقرب للتلقي، إلا أن الحجاج يتطلب أكثر من ذلك، وقد يتطلب العكس، إذ أن الأصل ليس التركيز أو التكثف، على أهميته، وإنما قوة الحجة ووجاهتها، وحسن التلقي والقبول والتصديق. و"الخطيب له نزوع طبيعي للمبالغة في تقدير قوة الحجج التي يعرضها (اعتبار الرغبات حقيقة) وتحقير حجج الخصم، لذلك، فإن تقليص مدى الحجاج طوعاً والوقوف عند جانب من الخلاصات التي يبدو أنها تتيحها تقنيةٌ ناجعة، لأنهت توحي بالثقة". (ص231).

يقول الكاتب: "إذا تطابقت شهادات متعددة، مستقلة عن بعضها البعض، حول الجوهري تَقَوَّت قيمة كل واحدة منها. غير أن تطابقاً كبيراً جداً قد يثير الشكوك حول استقلالها". (ص233). و"قد تُفسّر سعة الحجاج أحياناً بالجهل بالدعاوى المسلّم بها عند المستمع. فحين لا يعرف المرء أي حجة ستكون هي الأكثر نجاعة، يمكن أن يقدم عدة حجاجات تكون متكاملة أحياناً، بل متعارضة". وقد "يحدث أن تنتج سعة الحجاج لا من تقديم حجج متنوعة، وإنما من التكرار، بل من الإسهاب في حجة واحدة. هذا الإلحاح من شأنه أن يعطي حضوراً لبعض الحجج. وهو ليس عديم الفائدة دوماً، لكنه قد يكون مضجراً". (ص234). 

ترتيب الحجج

عالجت صناعةُ الخطابة والجدل تنظيم المواد المتناولة في الخطبة وترتيب الحجج. وتم التمييز بهذا الصدد بين أقسام متعددة من الخطة: الاستهلال، والعرض، والدليل، والتفنيد، والتلخيص، والاختتام، كما لو أن الخطابات لها نفس البنية كيفما كان موضوعها ومستمعها والوقت المسموح به لها. (ص237). 

والآن، بحسب أي ترتيب ينبغي تقديم الحجج؟ هناك ثلاثة ترتيبات يُنصح بها، ترتكز على قوة الحجج: ترتيب القوة الصاعدة، وترتيب القوة النازلة، ثم الترتيب النسطوري، حيث يُبدأ ويُنتهى بالحجج الأقوى وتُترك الأخرى في الوسط. 

السيء في الترتيب الصاعد، هو أنه ببدئه بالحجج الأضعف ينفر المُستمع، ويكدر صورة الخطيب، ويسيء إلى هيبته وإلى الاهتمام المُولى له. 

أما الترتيب النازل الذي يُنهي الخطبة بالحجج الأضعف، فإنه ينتهي وقد ترك المستمعين تحت انطباع سيء يكون الانطباع الوحيد الذي يتذكرونه في أغلب الأحيان. لهذا نصح أكثر معلمي الخطابة في العصور القديمة باتباع الترتيب النسطوري. (ص239).

الإمبراطورية الخطابية

"إن صناعة الخطابة تهمل الحقيقة وتكتفي بتصديق المستمع، بإبقائه تحت سحر الكلام بفضل تأثيرات اللغة، وباللجوء إلى المصانعة، هي تقنية الظاهر. إنها تشبه هؤلاء الرجال الذين بدل أن يتعهدوا أجسامهم بواسطة الرياضة، ويعالجوها بواسطة الطب، يصانعونها بواسطة طبخ لذيذ من دون أن يشغلوا بالهم بالعواقب السيئة التي ستنتج عن الشراهة". (ص246).

"إن مجال الحجاج بامتياز، مجال الجدل وصناعة الخطابة، هو الذي تتدخل فيه القيم. وقد بيّن أفلاطون، في محاورته عن التقوى، أن المجال الأثير للجدل هو الذي ينفلت من الحساب، من الوزن والقياس، حيث يعالج العادل والظالم، والجميل والقبيح، والخير والشر، وبشكل عام المُفَضَّل". (ص253).

وأخيراً،

أثارت البلاغة اهتماماً متعاظماً في العالم، في نوع من "إعادة الاعتبار لصناعة الخطابة" في الثقافة المعاصرة، وذلك في لحظة يشهد لعالم فيها سيولة في الأزمات والنزاعات والحروب والكوارث والأوبئة. ويتجلى ذلك في تدفقات لا حصر لها تقريباً من الأحداث والمعلومات والصور، وبالطبع الرهانات والتطلعات، وحيث تمثل الخطابة والبلاغة أحد ميادين أو فضاءات الصراع على المعنى والقوة في العالم اليوم. 

يحتاج العالم العربي لإعادة قراءة الواقع، والانطلاق من بداهات الرؤية والمصلحة لشعوب المنطقة، ولا خير في خطابة لا تنسجم مع أوليات الشعوب. وإذا كانت المنطقة العربية تعاني من سيولة على صعيد الخطابات، إلا أنها تفتقر لخطابة تتقصى مصادر المعنى والقوة فيها، وتفتقر لفواعل سياسة وفكر وفن الخ تُظهِّر تلك الأوليات، في خطابة تفضي إلى الفعل، وتدفع لتغيير الأحوال.