الإنسان بين التصفيق والصفعة.. أو اليد كعلامة تاريخية

لا نعرف بدقة متى صفّق أو صفع إنسانٌ للمرّة الأولى، لكننا ندرك اليوم وظيفة كل منهما. إليكم موجز عن تاريخ التصفيق والصفعة.

في مسرحيّة "العاصفة"، التي كتبها ويليام شكسبير، والتي تُعَدّ وصيّته الأخيرة كشاعر ومسرحيّ، يختمها بكلمات يضعها على لسان شخصيّته الرئيسة بروسبيرو، بحيث يقول: "اعتقوني من قيودي، بعونٍ من أياديكم الكريمة".

تلك إشارة صريحة وطلب من المتفرّجين أن يُصفقّوا، دلالة على استحسانهم وإعجابهم بما شاهدوه. والتصفيق في الآن نفسه يمتدّ كي يكون تصفيقاً لشكسبير، الذي يختم مسيرته، شعريّاً ومسرحيّاً، وفقاً لبعض الروايات، ويتخلّى عن قدراته السحريّة ويرميها بعيداً.

على النقيض من هذا الفعل، الذي يشير إلى الاستحسان، عبر إعمال اليدين، كلتيهما، ثمة فعلٌ آخر، عبر إعمال يدٍ واحدة، تتباين دلالته كلياً عن دلالة التصفيق، ألا وهو الصفعة، وهي شيء يستحيل على شكسبير، أو أيّ كاتب آخر، أن يطلبه من جمهوره.

لا يمكن الإشارة بدقّة إلى متى صفّق أو صفع إنسانٌ للمرّة الأولى. ولا يمكن القول إنّ فعلاً منهما لوحظ في حضارة أو مجتمع قبل المجتمعات الأخرى، حتى ليبدو اليوم، وفقاً للإجماع البشريّ على دلالة كلٍّ من الفعلين، أنهما بدآ مع الإنسان نفسه.

لماذا نصفق؟

  • رسم فرعوني يظهر نساء يصفقن
    رسم فرعوني يظهر نساء يصفقن

في كتابه "لماذا يصفق المصريون؟"، يفرد عماد عبد اللطيف فصلاً يرصد فيه تاريخ التصفيق وظهوره والإشارات التي تحيل عليه منذ أقدم الحضارات، إذ توجد نقوش مصرية قديمة كثيرة تُظهر المصريين يصفقون بمصاحبة الرقص والغناء، إذ كان التصفيق في مصر الفرعونية أداة الإيقاع الأساسية. بينما اتُّفق، في الحضارة اليونانية، أنه وسيلة لإظهار استحسان الجمهور وإعجابه بالعروض المسرحية والموسيقية أو الغنائية، التي يشاهدها. 

وربما كانوا أول من عرف مهنة المصفق المأجور، إذ كان ثمة مؤلفون مسرحيون يؤجّرون مجموعات من الجماهير تقوم بالتصفيق الحار لمسرحياتهم أمام لجان تحكيم المسابقات المسرحية. وثمة أمثلة من التاريخ تذكر أنّ ميناندر فعل ذلك، وتمكن من الفوز بأكثر من مسابقة بسبب هذا. كما تذكر شواهد أخرى أنّ نيرون كان أسس مدرسة خاصة لتعليم أصول التصفيق، وكان يأمر ما يقارب 5 آلاف فارس وجندي بحضور الحفلات التي كان يعزف ويغني فيها، ليصفقوا له بعد أن ينتهي.

وانتقل التصفيق من المجتمعين الفرعوني واليوناني إلى المجتمعات العبرانية القديمة، وإن تباينت الدلالة والغاية. ثمة إشارات من العهد القديم تربط التصفيق بمشاعر الفرح الإنساني، وتصفه بأنه فعل محبّب إلى الرب. حتى إنه ورد في المزامير: "أيها الناس صفقوا بأيديكم".

أما في العهد الجديد، فلم يرد نص بشأن التصفيق، لكنه كان معروفاً في الكنائس المسيحية منذ فترة مبكرة من تاريخها، ربما من القرن الرابع الميلادي، كما تذكر دائرة المعارف البريطانية، نتيجة تأثر الكنائس بتقاليد المسرح اليوناني الذي كان التصفيق أبرزها.

عرف العرب في عصر ما قبل الإسلام التصفيق أيضاً، كممارسة شعائرية تؤدى أمام الحرم المكي، ولا سيما أنه غالباً ما تم تصوير عبادة العرب قبل الإسلام عند الكعبة على أنها مزيج من الطواف المصحوب بالتصفيق.

أما في صدر الإسلام فاستُخدم التصفيق للتشويش على المسلمين في بداية دعوتهم، وبعض القرشيين كان يستخدم التصفيق للتشويش على الرسول محمد كلما قام ليدعو الناس إلى الإسلام، وذلك كي لا يستطيع أحد سماعه أو التأثر به.

في ما بعد، استخدم بعض المتصوفة المسلمين التصفيق وسيلة للعبادة، ولا سيما في حلقات الذكر، والحضرة، كتصفيق شعائري.

في العصر الراهن، تم الاتفاق على أن التصفيق ممارسة اجتماعية، ويمكن القول إنه ممارسة ثقافية، لها مضامينها ودلالاتها الواضحة والصريحة. وصارت علامة من العلامات التي تدل على الاستحسان والتقدير. كما أصبح التصفيق عرفاً وشيئاً جمعياً ومهارة تواصلية، أو لغة عالمية متعارفاً ومتفَّقاً عليها بين الجميع. 

في بعض الأحيان، يخرج التصفيق من مقولة ويليام جيمس في أنه رمز مختصر للرضا، محل تعبير عن امتعاض أو عدم رضا. يحدث في البرلمان البريطاني، مثلاً، عندما لا تعجب النواب أقوال الحزب المنافس أو إجراءاته، أن يقوموا بالتصفيق دليلاً على الاعتراض أو عدم الترحيب. وهذا التقليد القديم يسمى "التصفيق الساركاستيكي"، أو "التصفيق الاستهزائي"، ويكون عادة مصحوباً بإيحاءات ساخرة من الحزب الآخر.

واهتُمَّ بالتصفيق، من أجل دراسته، سواء في علم النفس أو الاجتماع، كما تم الاعتقاد أنه واحد من مظاهر العدوى الجماعية أو أشكالها. كما أنه، من الأمثلة التاريخية المذكورة عنه، يُعَدّ متلازمة تاريخيّة، ويمتد إلى أن يكون ممارسة طقسية دينية واجتماعية من طرف، وفعل تلقٍّ في الطرف الآخر. 

ويشير علم النفس إلى أنّ للتصفيق مظاهر سلبية، منها ما يدُعى "ضغط العاطفة الجماعية"، وفي علم الاجتماع يسمى "تأثير الحشود".

هكذا، وجد التصفيق طريقه، عبر التاريخ، كي يصبح ممارسة شائكة، على بساطتها وسهولتها، تكلّف الباحثين جهداً ومشقة لدراستها.

ظروف متعددة للتصفيق

يبدو التصفيق، كفعل بسيط، شيئاً إرادياً وحراً. لكن ليس هذا ما كان عليه الأمر دائماً. في أوروبا، حتى القرن الــ 17، كان التصفيق مرتبطاً بمزاج الحاكم، الذي كانت تقدَّم العروض برعايته، فلا يضحك أو يصفق أحد حتى إذا بدأ هو ذلك.

وظلّت جوقة المصفقين (مثل المصفقين المأجورين، لكن على نحو منظم) موجودة في فرنسا، حتى ألغاها الكوميدي فرانسيز، ثم أُلغيت عبر قانون فرنسي عام 1902.

إذاً، ثمة تصفيق حر وتصفيق إجباري، وتصفيق تلقائي وتصفيق مُعَدّ سلفاً، وتصفيق مجاني وتصفيق مأجور، وتصفيق متصاعد وتصفيق بطيء، وتصفيق طلبي واستحساني، وتصفيق كتعبير عن الغضب، وتصفيق جنائزي، وتصفيق للتعجب أو للتأسّي، وتصفيق مع السحر.

جدير بالذكر أن الدراسة العربية الوحيدة بشأن التصفيق هي التي أشرنا إليها، بعنوان "لماذا يصفق المصريون؟"، بينما تقتصر الدراسات المكتوبة بالإنكليزية على دراسة التصفيق في الخطابات السياسية والوعظ الديني، وعلى رأسها دراسة ماكس أتكينسون "أصوات أسيادنا: اللغة ولغة الجسد في السياسة". ويرفق عماد عبد اللطيف بعض الدراسات السابقة بشأن التصفيق في كتابه، كما يفسر أو يلخص بعضها.

المنصفعة

الصفعة، مثلها مثل التصفيق، ممارسة اجتماعية وممارسة ثقافية ولغة عالمية. وبينما التصفيق استخدام لليدين معاً، وإطباق لهما، فإنّ الصفعة استخدام ليد واحدة، وهي في معاجم العربية الضرب على الخدّ بكفّ اليد مبسوطةً. وفي غير المعاجم، تُعَدّ سلوكاً مرذولاً ومستنكراً، لأنّ مضمونها الإهانة، على النقيض من التصفيق.

مع ذلك، تثير الصفعة جدلاً ونقاشاً ولبساً أكثر من التصفيق، إذ توجد أمثال شعبية تؤيدها، مثل "ضرب الحبيب زبيب"، أو من الموروث الديني مثل قول السيد المسيح، "من ضربك على خدك الأيمن فأَدِر له الأيسر". كذلك صارت الصفعة "رياضة"، بحيث استضافت مدينة كراسنويارسك الروسية أول بطولة هواة لضرب الكفوف أو الصفع على الوجه، وتُوِّج أحدهم بالبطولة.

  • الصفعة العثمانية
    الصفعة العثمانية واحدة من التقنيات القديمة للدفاع عن النفس

مثل جوقة المصفقين، كتب شرف الدين التيفاشي، في كتابه "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب"، عن طبقة "المنصَفِعة". وهي طبقة مندرجة ضمن حاشية السلاطين وأصحاب النفوذ، وظيفتها تلقّي الصفعات من أسيادها الذين يودّون التنفيس عن غضبهم أو التعبير عن مودتهم.

ووضع التيفاشي فضائل للصفع، وامتيازات للمنصفع، وأقساماً للصفّاع، وذكر فوائد طبية للصفع، سواء على الصافع أو المنصفع، منها الفالج واللقوة وتغلب البلغم على الدماغ. كما قال إنّ في الصفع أماناً من البرص والبهق والجذام. ويفيد طالب العلم بتصفية الذهن، وتذكية القلب، وزيادة الحفظ ونفي النسيان ويزيل البلادة، ويلطف الفطنة.

صفعات تاريخية وسينمائية

  • نقش سومري
    نقش سومري

ثمة روايات كثيرة تقوم على سرد "أشهر صفعة في التاريخ"، مثلاً، تلك التي وجهها مدرّس رياضيات، في إحدى القرى الألمانية، في القرن الــ 16، إلى تلميذه. كان جاوس، التلميذ، لا يترك فرصة لزملائه للإجابة عن أسئلة المدرّس، فطلب المدرّس منه، كي يلهيه، أن يوجد ناتج جمع الأعداد من 1 إلى 100، وحين عاد جاوس بإجابته بعد 5 دقائق، صفعه المدرّس، ولم يكن على علم بأنه يصفع عالم الرياضيات كارل فريديتش جاوس، الذي ألّف قانون: n(n+1)/2.

كما تروي رواية تاريخية أخرى قصة بين جبلة بن الأيهم، وهو من أمراء الغساسنة، والذي صفع أعرابياً من فزارة، داس ثوبه في أثناء الطواف. شكا الأعرابي إلى عمر بن الخطاب، فحكم له الأخير برد الصفعة. لكن كبرياء "جبلة" أبت دون ذلك، إذ طلب مهلة يراجع فيها نفسه، هرب خلالها إلى الروم، وارتد عن الإسلام.

يحفل التراث الشعبي بمثل هذه القصص، ومنها قول شهير لحاتم الطائي، هو: "لو أنّ ذات سوار لطمتني"، بعد أن تلقى صفعة من جارية (ولم يكن يحق للجواري بالأساور أو الحلي). 

لكن أقسى الصفعات هي الصفعة المسماة بالعثمانية، وهي إحدى التقنيات القديمة للدفاع عن النفس، كان الجيش العثماني يتدرب عليها بعد وقوع سلاح الفرد في المعركة، كي تؤدي إلى الموت المباشر. 

ويُذكر أنّ أول من قام بتلك الصفعة الصدر الأعظم العثماني، حافظ باشا (1564 - 1631) في عهد الخليفة مراد الرابع. أما آخر أحداث الصفع، التي شغلت العالم، فهي صفعة ويل سميث لكريس روك، في حفل توزيع جوائز أوسكار 2022. 

ثمة حضور غير عادل للصفعة في السينما، ولا سيما في الأفلام المصرية القديمة، التي يكون ضحاياها النساء. 

ومن الروايات عن ذلك أنّ عماد حمدي بقي أكثر من شهرين في بيته، خائفاً من بطش الناس به، بعد عرض فيلم "الخطايا" عام 1962، والذي صفع فيه عبد الحليم حافظ، صفعة حقيقية، بحسب طلب الأخير. 

كذلك، في "بداية ونهاية" عام 1960، فقدت سناء جميل سمعها بالأذن اليمنى، في إثر صفعة حقيقية تلقتها من عمر الشريف، بناءً على طلب المخرج صلاح أبو سيف. وغير ذلك الكثير.

هكذا، إذاً، يتباين الفعلان، التصفيق والصفعة، بصفتهما ممارسة اجتماعية وثقافية، تنقّلت عبر الأزمان، على الرغم من أنّ كليهما إعمالٌ لليد، لكنّ يداً واحدة لا تصفّق، بل تصفع. ومدلولات كلٍّ منهما متباينة: واحد يرفع رتبة الإنسانية، والثاني يحطّ منها ويحدّها.