الاستعمار وتمثلات الآخر بين جوزيف كونراد وتشنوا أتشيبي

رغم الإعجاب الشديد لإدوارد سعيد بأعمال جوزيف كونراد إلا أنه قدم نقداً وتحليلاً لأعماله عن الفترة الكولونيالية البغيضة فى تاريخ الغرب فى كتابه الشهير "الاستشراق".

  • رواية
    رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد

جسدت رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد صراع الإنسان مع الطبيعة والبحث عن القوى الكامنة في الإنسان وحس المغامرة والاكتشاف وقرع أبواب المجهول في أنحاء العالم المترامي الأطراف، في رحلة بطلها في مجاهل أفريقيا عبر نهر الكونغو، وهي التي عُدّت من أهم روايات الحداثة والتي يمكن أن تقرأ على أكثر من مستوى.

إقرأ أيضاً: "أماكن الفكر" .. سيرة فكرية لإدوارد سعيد

وقد حاول المفكر إدوارد سعيد أن يقدم قراءة جديدة لـ"قلب الظلام" عندما قال "إن كونراد يجعلنا نحس أنه يحاول أن يخرج من الدائرة التي وضع نفسه فيها، ليصل بنا إلى واقع ملموس خارج الوصف البشع للاستعمار الذي ينشغل به ذلك الواقع، الذي يمكن في الوقت نفسه أن يكون مناهضاً للاستعمار ذاته".

لكننا في هذه القراءة نحاول أن نسلط الضوء على الجانب الذي يهمنا وهو أسلوب تناوله لعالم المهمشين والمظلومين، وقراءة ما بين السطور وما تخبئه اللغة من معان تطفو رغماً عن صاحبها لتعبّر عن فكر سائد، فقد صوّر كونراد الاستعمار الأوروبي كحالة استكشاف لمجاهل الغابات البكر الأفريقية في مغامرة عبر جغرافية مناطق غير معروفة.

هذا الاكتشاف والمغامرة تحيط بهما مخاطر عدة من ضمنها تلك الأقوام المتخلفة الهمجية والبدائية، هذه الصور هي التي وصلتنا عن سكان المناطق الأصلية ولم يظهر سوى جانب بسيط من عذاباتهم ومعاناتهم كوصف العبيد المربوطين بسلاسل أو بحلقات من أعناقهم، ولم يقف عند أي شخصية منهم ليرى دوافع العنف لديها، كما أن أفراح هذه الطائفة من البشر وطقوسها وأسلوب عباداتها لم يره إلا باعتباره نوعاً من الصخب والضجيج لأقدام سوداء وكتلة من الأيدي التي تصفق، واكتفى برسم مشهدية عادية لأقوام قتلوا الرجل الأبيض لأنه اعتدى بالضرب على كبيرهم فيصوّرهم وقد ظهروا بوجوههم البشعة البغيضة، ولم يقف عند كرامة أحد منهم لأن أحدهم قتل الرجل الأبيض المسؤول إثر قيامه بضرب أبيه العجوز ضرباً مبرحاً.

إقرأ ايضاً: هكذا تحدث الطيب الصالح عن آثار الاستعمار

وفي إثر الخوف والرعب فر أفراد القبيلة كلهم خوفاً من انتقام جائر، ذلك الانتقام الذي أباد عشيرتهم كلها، وربما سلط الضوء على هذه الصورة لكي يظهر رفضه للظلم الممارس عليهم، ولكن لا نجد لديه اعتراض حقيقي على مدى حق المستعمر بالاعتداء على أرض الآخرين وثرواتهم واستغلاله لمستوى وعيهم وبساطتهم، رغم فضحه لأساليبهم في السيطرة على عقول البشر في تلك البقعة من العالم إذ يقول إننا "نحن البيض يجب أن نظهر لهم (المتوحشون) في صورة كائنات خارقة للطبيعة، يجب أن نأخذهم بالقوة كالآلهة" وهذا ما جسّده في شخصية كورتز وما يكتنفها من لبس وغموض، إذ كان لقدرته الغريبة في جعل السكان من حوله يرونه شخصية خارقة للطبيعة أشبه بإله بالفعل، ورغم ذلك تُسمع عبارات مدسوسة عن خبثه ودناءته في أصوات أخرى، ومع ذلك فإن صاحب "الشريك الخفي" لم يلق بالًا ليدخل في عمق أي شخصية من عالم الآخر المختلف.  

فهو يشعرك أننا مقابل أناس على قدر عال من التوحش والاضطراب العقلي والبعد عن الآدمية، وكأنه يوحي بقدر كبير من التخلف والهمجية بالإضافة إلى العنف لدى السكان الأصليين، ولكن حتى لو كانوا ما كانوا عليه من الضعف والتخلف فهذا لا يبرر ولا بمكان سرقة ثرواتهم وأراضيهم واستعبادهم في أي عرف كان، هذا وللإنصاف كان من المعروف أن جوزيف كونراد من المعارضين للإمبريالية إذ يصف جامعي العاج بقطط الحضارة الميتة، و كذلك يصف البطل مارلو عند رجوعه إلى بلده أوروبا بـ"القارة التي يلفها الظلام"، لكن موقعه ووجوده في العالم الغربي جعلاه لا ينفصل في تعبيره ولا وعيه عن تلك التركيبة الاستعمارية حتى لو صرح بما يخالف ذلك.

النظرة العنصرية المختفية وراء الكلمات على غرار الاشتباه المعتم بطبيعتهم البشرية إذ يعبّر عن المتوحش الذي يقوم بتزويد المركب بالوقود فهو يراه كمن ينظر إلى كلب يقوم بعمل استعراضي، الأمر الذي حدا بالباحثين أن يدرسوا غباء سكان تلك المناطق وكسلهم، ويعزو ذلك إلى توحش في السلالة الجينية أكثر منه دراسة الظروف التي حالت دون التقدم والتطور لديهم ودور الاستعمار في استمرار هذا الواقع.

  • رواية
    رواية "أشياء تتداعى" للروائي النيجيري تشنوا أتشيبي

الأمر الذي دعا كاتب نيجيري مهم مثل "تشنوا أتشيبي" ليعطي صورة مختلفة تماماً في روايته " كل شيء يتداعى" وهو يتحدث عن واقع عرفه وخبره جيداً في عرضه لمجتمع أفراده آمنون في حياتهم البسيطة وكل ذنبهم أنهم لم يطمعوا بثروات الآخرين وأرضهم؛ وهو الكاتب المنتمي إلى ذلك المكان وهو موطنه الأصلي الذي رعى فيه أفراحه وأحزانه، ليوضح الجزء الآخر المضيء من اللوحة التي طليت بالسواد من جانب كونراد إذ عبّر عن طقوسهم وعالمهم الروحي الذي يتوزع بين إيمان بآلهة وثنية خاصة بهم وخرافات متنوعة يعزون إليها الحياة والموت البدائية شأن كل وسط اجتماعي في درجة تفاعله مع وسائل الحياة وتفاعله مع المحيط، كذلك رؤيته الجمالية لقوانينهم مثل طقوس السلام الدارجة في المجتمع الأفريقي حيث هناك أسبوع سلام لا يضرب المرء أحداً ولا يؤذيه بكلام ومن يخالف ذلك يتعرض لعقوبة قاسية، كما يعرض مباريات المصارعة التي هي أشبه بمصارعات الروم حيث للقوة البدنية ميزة كبيرة بالعمل والسطوة الاجتماعية، وهذا لا يمنع اهتمامهم البالغ بالموسيقى في تعبيرات الأفريقي عن العشق والشوق والحنين. 

إقرأ أيضاً: "الأشياء تتداعى".. إحدى روائع الأدب الأفريقي المقاوم

فهو يعرضه كأي مجتمع نشأ بشكل فطري في البداية، والمتغيرات التي طرأت عليه إثر تطور أدوات الإنتاج التي انعكست على علاقات الإنتاج كذلك، وبعدها كيف دخل الرجل الأبيض إلى حياتهم وفرض قوانينه عبر البعثات التبشيرية التي تستثمر الدين لجذب البعض من السكان ليكونوا حصان طروادة في الدخول إلى المكان وتهيئة البنيه السيكولوجية للسكان من خلال إحداث شرخ في الولاءات التقليدية والانتماءات الدينية وقد اعتمدت اللين والإقناع مرة والعنف مرة ثانية، ففي إحدى المناطق أبيدت عشيرة بكاملها لقيام فرد بقتل رجل أبيض مما يكذب ادعاءهم بتطبيق قوانين مدنية متطورة، وبطلان حجة تمدين المناطق بإخضاعها لقوانين عادلة تحكمها منظومة قيم وقواعد على درجة عالية من التطور. 

إقرأ أيضاً: نغوجي واثيونغو أهم أدباء أفريقيا وأبو الرواية الكينية

رؤية أتشيبي الكاشفة تفصح عن قيم مجتمع متكامل بطقوسه الروحية وعباداته وأساليب إنتاجه والزراعات والصناعات والعلاقات التجارية المتبادلة التي يعتمد عليها أبناؤه في حياتهم ومعيشتهم، بالإضافة إلى أعيادهم وأفراحهم وتقاليدهم التي تستقر عميقاً في وجدانهم، والسؤال الذي يطرح نفسه هو عن المنطق الأخلاقي والعدالة الاجتماعية التي يتشدق بها الغرب هل التفوق الحضاري والتكنولوجي وحيازة آلة الموت بكل جبروتها تعطي حقاً مكتسباً بإبادة الشعوب والسطو على ثرواتها والاستحواذ على أراضيها واستعباد سكانها، نعم هي القضية الأخلاقية الحية التي لا تزال تطرح نفسها رغم تغير أساليب الاستعمار وسطوة آلته الإعلامية في تغيير وتغييب الحقائق وإعطاء صورة معاكسة تدريجياً لما يجري في العالم، فما زالت عنجهية القوة تفرض منطقها وسيطرتها على العالم في نفي تام لكل معايير الإنسانية والمساواة والتي ترفع الصوت عالياً مدّعية الدفاع عنها في ازدواجية المعايير التي تتحكم بالعالم والوجود الإنساني.