"الاستياء العالمي".. 12 حواراً مع تشومسكي حول مشروع الإمبراطورية الأميركية

يؤكد تشومسكي أن الحقائق تقول بأن تنظيم "داعش" هو إلى حد كبير جداً صناعة أميركية.

 

  • نعوم تشومسكي من أبرز المثقفين المعادين للصهيونية والإمبريالية.
    نعوم تشومسكي من أبرز المثقفين المعادين للصهيونية والإمبريالية.

يتضمّن كتاب "الاستياء العالمي"  12 حواراً شيّقاً وغنياً ودقيقاً، جرت على مدى 5 سنوات، ما بين عامي 2013 و2017، ‏بين المفكّر اليساري والناشط السياسي الأميركي نُعَوم تشومسكي وزميله الكاتب والإعلامي الشهير ديفيد برسميان. وقد تناولت هذه الحوارات ‏مواضيع شتّى، مثل أسباب دعم الولايات المتحدة غير المشروط لـ"إسرائيل"، والتشابه ‏بين نظام جنوب إفريقيا العنصري و"إسرائيل"، ودعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ‏وكندا للأبرتايد الذي يزدهر اليوم في الكيان الإسرائيلي، من خلال مؤسسات بيروقراطية ‏وسوقية وعسكرية معقّدةٍ تتفوّق على نظيرتها الجنوب إفريقية إبّان الفصل العنصري.

 ‏كذلك، تناولت الحوارات، التي نشرت في كتاب نقله إلى العربية  د. محمد جياد الأزرقي ونشرته الدار العربية للعلوم ناشرون عام  2020، البرامج الجاسوسية للدول واللعبة الديمقراطية وقضايا الشرق ‏الأوسط و"داعش" والأكراد وتركيا وإشاعة المخاوف والترويج لها والتحالفات والهيمنة ‏وجذور الصراعات والانتخابات والتصويت ورئاسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وغيرها. ‏

يقول مُترجم الكتاب إن وباء كورونا الذي ضرب العالم قد عرّى، بشكل خاص، النظام العالمي الحاكم منذ تسعينات القرن الماضي باسم الانتصار التاريخي للرأسمالية والليبرالية، المتحكمة في السياسة والاقتصاد.

وامتداداً كانت الهيمنة الاستعمارية والكيانات العربية التابعة والاستلاب الاقتصادي لشعوب المنطقة؛ وفي النتيجة كان البلاء المزدوج: مشروع إمبريالي غربي مسكون بعقلية التعالي والفوقية والهيمنة، ونظم سياسية حاكمة مسكونة بالتخلف وبالدونية والعجز أمام الغرب. 

في حواره الأوّل حول (تجسّس الدولة والديموقراطية)، يخبرنا المؤلّف أنه ما كان ضمن جوقة المصفّقين لوصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض. يقول تشومسكي: لم أتوقع الكثير من أوباما. لقد كتبت عنه نقداً قبيل انتخابات الترشيح الأوليّة، حين راجعت موقعه على شبكة الإنترنت واطّلعت على ما كان يكتبه ويصرّح به... لكنني لم أفهم غرضه من هجومه المتنامي على الحريات المدنية.. أعتبر عهده امتداداً لعهد بوش الإبن، خاصة "برامجه الاجرامية" في تعزيز أجهزة المراقبة واستعمال طائرات الدرَون (المسيّرات) في ملاحقة من اعتبِروا إرهابيين وقتلهم، وقتل الناس الأبرياء من حولهم، في العراق وأفغانستان واليمن والصومال وغيرها من الدول الأفريقية.

قتْل الناس الأبرياء هو ما ركّز عليه المؤلّف تشومسكي، وهو سبب وقوفه إلى جانب المبلّغين عن جرائم الحربwhistle blower ، مثل الناشطة الأميركية وكاشفة الفساد تشيلسي ماننغ، والمحلّل الأمني السابق الذي كشف برنامجاً تجسسياً للحكومة الأميركية إدوار سنودن.

يُذكر أن سنودن نقل إلى الصحافة كمية هائلة من الوثائق السريّة لكشف مدى برامج المراقبة الإلكترونية الأميركية وحماية الحريّات الفردية. وهو تمكن في سياق عمله من تنزيل واستنساخ 1.7 مليون وثيقة سريّة تُظهر كيفية مراقبة السلطات مئات ملايين الأشخاص؛ وكذلك راقبت وكالة الأمن القومي الأميركية المكالمات الهاتفية لنحو 34 قائداً ورئيس دولة حول العالم.

في حواره الثاني (جولة في الشرق الأوسط)، ذكّرنا تشومسكي بداية بألاّ نغفل أن الدول الثلاث الكبرى الأشد دعماً لدولة الاحتلال الإسرائيلي هي الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وهي كيانات قامت على حركات الاستيطان الاستعمارية، التي أبادت السكان الأصليين؛ وما تفعله "إسرائيل" في فلسطين صورة مشابهة لما جرى في تلك البلدان.

كما شرح المؤلّف بالوثائق دوافع دعم الولايات المتحدة غير المشروط لـ"إسرائيل"، مؤكداً على الأسباب الدينية والثقافية المتمثلة في الصهيونية المسيحية، حيث نشأت الأصولية المسيحية قبل الأصولية اليهودية؛ وأشار إلى أن الأصوليين المسيحيين يقرؤون في الكتاب المقدس عن ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين.

وبحسب تشومسكي، يؤمن الأصوليون أو الإنجيليون (البالغو النفوذ في دوائر صنع القرار) بحَرفيّة العهدين القديم والجديد معاً؛ ووفق اعتقادهم، "فإن قيام دولة "إسرائيل" يُعدّ تمهيداً لعودة المسيح المخلّص، الذي يواجه الوثنيين، من المسلمين وغيرهم، وذلك خلال معركة كبرى تسمّى "هرمجدون"، أي سهل هرمجدون في فلسطين، وأن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين تأخير لوعد الله، بحسب زعمهم. 

هذا بالإضافة إلى دور اللوبي الإسرائيلي في توجيه السياسة الخارجية الأميركية. وليس هناك أفضل من يُعرّي هذا الدور غير وليم فُلبرايت؛ وهو يُعتبر من أهم الشخصيات السياسية الأميركية في الكونغرس، التي وقفت في وجه اللوبي الصهيوني، حيث تمّ اغتيالها معنوياً بسبب ذلك.

  • غلاف كتاب
    غلاف كتاب "الاستياء العالمي" بنسخته الإنجليزية.

في الحوار الثالث (أنظمة القوّة الغاشمة لا توزّع الهدايا)، يعقد تشومسكي مقارنة بين نظام جنوب إفريقيا العنصري والنظام الإسرائيلي، فيقول إن الكيان قد تحوّل إلى اليمين المتطرف. في الحقيقة، إن ما حدث في "إسرائيل" يشبه إلى حد كبير ما حدث في جنوب إفريقيا. ويضيف: لقد مارس المجتمع الدولي في حالة جنوب إفريقيا في نهاية المطاف ضغطاً شديداً لإنهاء التمييز العنصري ضمن الدولة الواحدة. أما في حالة فلسطين، فإن المجتمع الدولي يبدو مستعداً لدعم "قيام الدولة" من دون التصدي جدياً للأبارتايد الإسرائيلي. إن شعار"المشاركة البنّاءة" وحلّ الدولتين هما خرافتان تصرفان الانتباه عن القضية الأساسية وتسمحان باستمرار الاستعمار والتطهير العرقي في فلسطين. كما تسمحان أيضاً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا بالتأكيد مراراً وتكراراً على دعمهم للأبارتايد، من خلال الخطاب السياسي والدعم العسكري والعقود واتفاقات التجارة المبرمة مع "إسرائيل" والتربّح على مستوى الشركات من الاستعمار والاحتلال.

ينتقل تشومسكي في حواره الرابع (داعش والأكراد وتركيا)، ليناقش علاقة "داعش" والأكراد وتركيا بأميركا، مؤكداً أن الحقائق تقول بأن "داعش"، وإلى حد كبير جداً، صناعة أميركية، وأبا بكر البغدادي وغيره من قادة التنظيم هم صنيعة أميركا. فالتنظيم تمّ تشكيله وإعداد قياداته في سجن بوكا في البصرة، الذي كانت تديره قوات الاحتلال الأميركي في أعقاب غزو العراق واحتلاله. بل إن أميركا هي التي صنعت وبالمعنى الحرفيّ المباشر، تنظيم القاعدة في أفغانستان، وهي التي موّلته وسلّحته؛ وكانت الاستخبارات الأميركية هي التي صاغت الخطاب الديني والسياسي والإعلامي الذي روّج للقاعدة كتنظيم مجاهد في مواجهة الاحتلال السوفياتي "الكافر". 

وهكذا كان الحال قبلهما مع الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين حين استنفذ دوره. فهو كان حاكماً أثيراً لدى القيادة الأميريكية في عهد الرئيسين ريغان وبوش الأب. فهما وقفا إلى جانبه وزوّداه بالدعم والمساعدة خلال حربه الغاشمة ضد إيران، وأغمضا عيونهما عن جرائمه الوحشية ضد الشعب العراقي، بما فيها جريمة الحرب الكبرى بضرب مدينة حلبجة الكردية والقرى المجاورة بالأسلحة الكيميائية.

أما عن علاقة الأكراد بالولايات المتحدة، والتي تعود إلى العام 1920، فيكشف تشومسكي أن واشنطن كانت تعِد الأكراد دائماً بالمساعدة ثم تُخلف وعدها، كما حصل عام 1975، عقب اتفاق الجزائر بين الحكومتين العراقية والإيرانية وطرد الإمام الخميني من العراق إلى فرنسا.

هذا التذبذب في العلاقة الأميركية – الكردية طبع العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، ولكن ليس على الدوام، إذ كانت تركيا هي الحليف الأقرب للولايات المتحدة في الخمسينات من القرن الماضي، وطوال فترة الحرب الباردة، والظهير العسكري الذي عمل بشكل وثيق على مواجهة الاتحاد السوفياتي.

وقد دخلت هذه العلاقة طوراً جديداً منذ أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001، وتحديداً بعد وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي، برئاسة رجب طيّب أردوغان، إلى السلطة عام 2002؛ لكن ظهرت بعض التصدعات في العلاقات السياسية بين البلدين، سواء خلال فترة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أو الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن؛ وأخيراً في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.

في حواره الخامس مع ديفِد بَرسميان (الذاكرة الحيّة)، تحدث تشومسكي عن انخفاض أسعار النفط بدرجة عالية، وعن آثار الدمار الذي سيحلّ بالبيئة نتيجة استخدام الوقود الأحفوري بسبب إقبال الناس على قيادة سياراتهم برغبة أكبر. ودعا إلى زيادة أسعار النفط في أسواق الولايات المتحدة لتكون على الأقل بمستوى الأسعار في أوروبا، وذلك للحدّ من تشجيع استهلاك الوقود الأحفوري، الذي يدمّر البيئة ويعيث فيها الخراب.

وفي السياق تحدث تشومسكي عن الخسائر الكبيرة التي لحقت بأكبر مصدّري البترول، مثل روسيا والسعودية، خلال أزمة انتشار جائحة كورونا، وبسبب حرب الأسعار بينهما، والتي انضمّت إليها الإمارات العربية والكويت لاحقاً.

ومن ثمّ تطرّق الحوار إلى الأعمال الإرهابية التي مارستها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لتقويض النظام في كوبا منذ إسقاط النظام الدكتاتوري لرئيس البلاد باتيستا.

وانتقل الحديث بعدها إلى قاعدة غوانتانامو، حيث مارس العسكر الأميركيون ومعهم منتسبو وكالة الاستخبارات المركزية جرائم حرب مقيتة في تعذيب السجناء (عناصر أو أنصار لتنظيم القاعدة). 

واختُتم هذا الحوار بتعريف أو تحليل عبارة "ذاكرتنا الحيّة" التي صيغت بعناية فائقة لتشمل ذكر كل ما يفعلونه ضدّنا وتجاهل كل ما نفعله ضدّهم، بحسب تعبير تشومسكي. وهو أتى على ذكر ذلك حين نوقش الهجومان الإرهابيان على مجلة "شارلي إيبدو" ومحل البقالة اليهودي في باريس في صيف عام 2015.

فالإرهاب لا يقتصر على تلك العمليات التي تمارسها تنظيمات داعش والقاعدة وغيرهما؛ بل هناك أشكال أخرى مثل إرهاب الدولة الذي تمارسه دولة أو مجموعة دول ضد غيرها من الدول، سواء بشكل عسكري مباشر، أو غير مباشر عن طريق تنظيمات إرهابية تنفّذ العمليات بالوكالة عن الدولة المموّلة؛ وما تفعله الولايات المتحدة في المنطقة تحت ذريعة مشروع الشرق الأوسط الجديد هو شكل من أشكال الإرهاب.

في الحوار السادس، بعنوان "إشاعة الخوف والترويج له"، تحدّث تشومسكي عن النشاطات لنشر المخاوف والترويج لها داخل وخارج الولايات المتحدة، مثلما فعل عضو في مجلس الشيوخ الأميركي، حين ذكر بأنه "يجب أن نخاف من إيران لأنهم سيطروا على طهران"؛ وكذلك فعل بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية (السابق)، الذي حذّر الناخبين من أن المواطنين العرب سيتراكضون إلى مراكز الاقتراع ليُدلوا بأصواتهم تأييداً لممثّلي اليسار، بتشجيع من الحكومات الأجنبية. ومثل هذا المزيج من التخويف والعنصرية حقّقا له الفوز في الانتخابات. 

الحوار السابع مع تشومسكي (التحالفات والهيمنة)، افتتحه المؤلّف بالسؤال عن منطقة الشرق الأوسط، التي أصبحت تحت الوصايتين الفرنسية والبريطانية ما بين الحربين العالميتين. وبعد حرب السويس عام 1956 قرّرت بريطانيا سحب قواتها من شرق القناة، بما فيها شبه الجزيرة العربية والخليج، فزحف النفوذ الأميركي إلى المنطقة وشكّل تحالفاته، وفي طليعتها مع "إسرائيل".

ظهرت كيانات جديدة وانقسم العالم العربي إلى معسكرين؛ معسكر الوطنية والعلمانية ومحوره مصر، والمعسكر الثاني القائم على حركة الإسلام السياسي. وفي نظر تشومسكي، فقد رعت بريطانيا حركة الإسلام السياسي وشرعت الولايات المتحدة بنفس النهج، فقابلت الحركة الأمر بالشكر والامتنان والدولارات. وعمل الجانبان معاً على تقويض نفوذ القاهرة، وجرّتاها إلى حرب طاحنة في اليمن.

وبعدما يكشف  الدور الأميركي – الإسرائيلي في هزيمة المشروع القومي العروبي (الناصري) من خلال حربي 1956 و1967، يقول المؤلّف إن "إسرائيل" أصبحت الحليف المدلّل ذا الهيمنة الواسعة في الولايات المتحدة، حيث نال معسكر التديّن والتعصب النصر الذي يبتغيه. وقد شكّل المسيحيون الإنجيليون في ذلك الوقت غالبية قاعدة الحزب الجمهوري. وبالنسبة لهؤلاء، فإن الدفاع عن "إسرائيل" لصدّ هجمات المسلمين أصبح بمثابة عقيدة دينية، لأن الإنجيل يخبرهم بذلك.

وفي رأي تشومسكي، ربما يكون باراك أوباما من أكبر من أيّد "إسرائيل" في تاريخ الرئاسة الأميركية، رغم أنه في نظر بعض المتطرفين ليس مؤيداً تمام التأييد. ففي أواخر عهد أوباما، أقرّت إدارته تقديم حزمة من المساعدات العسكرية إلى الكيان الإسرائيلي هي الأكبر من نوعها في تاريخ العلاقة بين البلدين، إذ ستحصل "إسرائيل" على 38 مليار دولاراً من الدعم العسكري على مدار عشر سنوات، على أن تلتزم "إسرائيل" بعدم ممارسة أي ضغط  داخل الكونغرس للحصول على أموال إضافية. وهذا اعتراف  أميركي صريح بالابتزاز الإسرائيلي والهيمنة التي تتمتع بها الدولة الحليفة.

تناول الحوار الثامن (جذور الصراعات)، التي أعادها تشومسكي إلى "العامل الرئيسي، وهو الدور التقليدي للقوى الكبرى، والتي تحبّ دائماً أن تتوسع". لكلّ من فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة تاريخ طويل لبسط الهيمنة الاستعمارية؛ والشيء الوحيد الذي تبرع فيه هذه القوى هو استخدام القوّة العسكرية المفرطة.

ويتحدث تشومسكي هنا عن وجهة النظر التي تقول بأن الصراعات كانت دائماً، سواء في نشأتها، أو تطوّرها، أو محاولات معالجتها، أو التعامل معها، محصّلة لتفاعل عوامل محلية، وأخرى إقليمية، وثالثة دولية. مع الإشارة إلى أن تلك الصراعات في المنطقة لم تعد مقصورة على صراعات حول أراضٍ، أو على تصفية الاستعمار، كما تجسّده حالة القضية الفلسطينية. وكذلك لم تعد مقصورة على موارد طبيعية، أو للاستحواذ على أسلحة دمار شامل؛ بل إن صراعات المنطقة شهدت أبعاداً يمكن وصفها بالأيديولوجية، كما حصل في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي (تقدّمي ومحافظ-علماني وديني).

في حواره التاسع (نحو مجتمع أفضل)، يعرض المؤلّف لتطوّر الأوضاع السياسية والاقتصادية في دول أميركا اللاتينية، التي عانت من أزمات عديدة، إضافة إلى التدخل الأميركي في شؤونها، حيث عملت الولايات المتحدة (في خمسينات القرن الماضي) على استبدال العديد من القادة المنتخبين ديمقراطياً في تلك البلدان، عن طريق عمليات سريّة لوكالة الاستخبارات المركزية، بقادة أكثر وديّة للمصالح الأميركية.

وفي السبعينات، اكتسب اليساريون نفوذاً سياسياً كبيراً دفع اليمينيين والمسؤولين في الكنيسة وجزء كبير من الطبقة العليا في دول أميركا اللاتينية لدعم الانقلابات العسكرية لتجنّب ما يُنظر إليه على أنه خطر شيوعي. وزاد ذلك من التدخل الكوبي والأميركي مما أدّى إلى الاستقطاب السياسي.

بعد ذلك يتحدث تشومسكي عن أسباب التعاون العسكري بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" من جهة وبين الهند من جهة أخرى، والتي تعود في الحقيقة إلى التطرّف الهندوسي الصهيوني الأميركي ضدّ كل ما هو مسلم أو إسلامي، كما تكشف سياسات حكومات هذه الدول.

ويختم المؤلّف هذا الحوار بقوله حول كيفية تحقيق المجتمع الأفضل: "في ذهني، هو المجتمع الذي تكون فيه القرارات بيد الناس الواعين المهتمين بشؤون عامّة الشعب. وهذا شرط مطلوب لكي تكون الخيارات معقولة ومنطقية".

افتتح المؤلّف حواره العاشر (الانتخابات والتصويت) بالحديث عن شخصية ترامب غير المستقرة، والتي كشف جون بولتون، مستشاره للأمن القومي الأميركي السابق في إدارة ترامب، عن بعض أبعادها في كتابه (الغرفة التي شهدت الأحداث – مذكّرات من البيت الأبيض)؛ وقد أكّد بولتون فيه أن ترامب غير مؤهّل للرئاسة، معرباً عن أمله في عدم تولّيه ولاية ثانية.

وينقل تشومسكي عن بولتون قوله إن ترامب كان يتعامل مع الصين وعينه على إعادة انتخابه، وإنه تدخل مراراً لمساعدة حكّام مستبدّين أصدقاء حول العالم، كالرئيس التركي رجب طيب إردوغان. ووصف بولتون ترامب بأنه "ساذج"، كاشفاً أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين لم يكن يرى في نظيره الأميركي (ترامب) خصماً، وإنما يستطيع تحريكه كما يعزف الكمان".

وحين أثار المُحاور مسألة احتمال قيام ثورة في أميركا، ردّ تشومسكي ناصحاً: "ليست الولايات المتحدة في موقف ناضج من أجل قيام ثورة.. إذا كنت تريد الوصول لتلك الغاية، فيجب أن تبني لها قاعدة شعبية".

وفي السياق، ينقل المؤلّف عن الكاتب المصري مصطفى قطبي قوله إن "أميركا بلد الحريّات غارق في العنصرية"، خلال حديثه عن الاحتجاجات في الولايات المتحدة، والتي تؤكد على السلوك العدائي للأميركيين أصحاب البشرة البيضاء تجاه مواطنيهم من السود؛ بينما اعتبرت الكاتبة نيرفانا سامي أن "مقتل جورج فلويد لم يكن حادثاً غريباً على المجتمع الأميركي، الذي يتفنّن في إظهار العنصرية والكراهية ضدّ المواطنين الأميركيين من أصول إفريقية".

جورج بيري فلويد الابن هو رجلٌ أميركي من أصل أفريقي قتلته الشرطة في أثناء اعتقاله في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا في 25 مايو 2020.

في حواره الحادي عشر (الأزمات والتنظيم السياسي)، يتطرّق تشومسكي إلى مسؤولية أميركا في احترار المناخ، خلال حديثه عن المهاجرين واللاجئين إلى الولايات المتحدة، مع تفريقه بين المهاجرين لأسباب سياسية أو بسبب الحروب، وبين اللاجئين لأسباب بيئية بفعل تغيّرات المناخ.

ويشير المؤلّف إلى أن القوانين المحلية أو الدولية لا تعترف بحالة ما يسمّى بلاجئي المناخ؛ لكن أعداد هؤلاء اللاجئين تزداد باستمرار. هناك عنصر يجعل تأثير التغيّر المناخي العالمي على الناس واضحاً للغاية، وهو الماء، في حال ندرته وفي حال زيادته عن الحاجة. يعيش ثلث سكان العالم قرب السواحل؛ ومع ارتفاع منسوب مياه البحر سيفقد حوالى 700 مليون شخص أماكن عيشهم.

ومن المفارقات أنه في البلد الذي يتسبّب في أعلى انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، يعيش أغلب الذين يُنكرون التغيّر المناخي، في الولايات المتحدة؛ وفي مقدّمتهم يأتي ترامب، الذي انسحب من اتفاقية باريس للمناخ واستأنف استخراج الوقود الأحفوري وبنى جداراً لإيقاف المهاجرين. هذا في الوقت الذي يكافح فيه نشطاء المناخ من أجل إجراء تغييرات جذرية لوقف الكارثة المناخية.

ولم تكن حال العالم والبلاد أفضل في عهد أوباما، حيث شهدت الولايات المتحدة أحد أكبر حوادث إطلاق النار في تاريخها يوم 14 كانون الأول / ديسمبر 2012، حين هوجمت مدرسة ابتدائية في مدينة نوتاون بولاية كنَتِكت، فقتل منفّذ الاعتداء  شخصاً بينهم 20 طفلاً، ثم انتحر. كما خيّب أوّل رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة، والذي انتُخب بفضل دعم كبير من الأقليّات، الآمال حيال مسألة اللامساواة العِرقيّة.

وقد كرّس تشومسكي حواره الثاني عشر والأخير بعنوان (رئاسة ترامب)، والذي دار بينه وبين زميله بَرسَميان، عن طريق البريد الإلكتروني بتاريخ 20 حزيران / يونيو من عام 2017، للحديث عن رئاسة ترامب المثيرة للجدل. كان ترامب قد دخل البيت الأبيض قبل ستة شهور؛ وهو في رأي المؤلّف ليس سوى واجهة مضحكة؛ مهرّج تحرّكه من خلف الستار زمرة من أقصى اليمين في الحزب الجمهوري لتحقيق غاياتها وأهدافها السياسية المتطرفة في الداخل والخارج. 

ويقدّم تشومسكي قضية تعامل الإدارة الأميركية الفاشل مع جائحة كورونا، والتي كانت بمثابة "اختبار هائل" للعولمة وفلسفة "السوق الحرّة" ومبدأ عدم تدخل الدولة في الاقتصاد، بينما عاشت المجتمعات التي اجتاحتها كورونا حالة من الصدمة والخوف بأن يقضي الفيروس على شعوبها.

إن إدارة ترامب تعاملت مع أزمة جائحة كورونا، والتي كانت كلفتها مروعة، لا سيما بالنسبة للفقراء والفئات الأكثر ضعفاً، بطريقة تجارية، ما قد يجعلها أكبر جريمة في التاريخ، إذا نظرنا للعواقب.

ويختم المؤلّف كلامه بالتحذير من إلقاء اللوم على ترامب وحده في الاستجابة الكارثية لتلك الأزمة؛ فالأخير جاء إلى منصبه في مجتمع مريض، ويعاني من 40 عاماً من النيوليبرالية (نقيض دولة الرعاية).

وأخيراً، يدعو ديفيد برسميان، مُحاور المفكّر الكبير تشومسكي، للاستفادة من أفكاره كي نفهم هذا الكوكب الملوّث بالقسوة والغطرسة وشبق التوحش، في ظلّ إعلان الولايات المتحدة جهاراً نهاراً، أن مصالحها هي الأبدى، وأن هيمنتها هي الأبقى، وما على العالم، بدوله وشعوبه وخيراته، إلاّ أن يكون في خدمة هذا اليانكي المتغطرس.