التطهير العرقي وأساليب النضال في القدس

الكتاب يدرس الأبعاد التاريخية والقانونية للاعتراف الأميركي تجاه القدس، ونقل سفارتها إلى "تل أبيب". ويقترح التمسك بآلية عدم الاعتراف التي ينصّ عليها القانون الدولي، والاستمرار في الرهان على اللجوء إلى الهيئات الدولية لمواجهة "إسرائيل".

  • التطهير العرقي وأساليب المقاومة في القدس
    التطهير العرقي وأساليب المقاومة في القدس

استناداً إلى أهمية مدينة القدس في الصراع العربي-الإسرائيلي، أصدر "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت كتاباً تحت عنوان "القدس: التطهير العرقي وأساليب المقاومة" (2023)، وهو بحث في الوضع القانوني للقدس، وفي واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ودور الحركات الجماهيرية فيها، والفاعلين الاجتماعيين في مواجهة سياسة التهويد الإسرائيلي. ويبرز الكتاب الصراع القائم في القدس على التطهير العرقي، وآليات مقاومة الفلسطينيين التي تجلت في النزاع الديموغرافي، والحرب على الوعي والمقدسات.

يأتي الكتاب في ستة عشر فصلاً، وهو من تأليف أحمد جميل عزم ومجموعة باحثين، وتشير محررته آيات حمدان في المقدمة، إلى أهمية ما يكشفه من سياسات الكيان في التطهير العرقي للمدينة، واستغلال غطاء "القوانين الإدارية" مثل التنظيم الحضري، وهدم البيوت، لغاية تغليب الوجود الصهيوني. كما يبرز البحث تأثير الأوضاع الاقتصادية على الفلسطينيين داخل المدينة، وترديها من جراء السياسة التي فرضها الكيان، ومحاصرتهم بقوانين تكرس النظام الضريبي، وترسخ للبيئة الاستعمارية للمدينة. إلى جانب فصولٍ تبرز مواجهة المقدسيين الأصلانيين لمنطق الاستعمار الاستيطاني وأساليبه المختلفة، وذلك عبر تسليط الضوء على أدوار الفاعلين المجتمعيين أمام التحديات التي واجهتها المدينة. ومن جهة السياسة الدولية والقانون الدولي الذي عكس تحديات تعلقت بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وما تعرض له القانون نفسه من جهة وضع المدينة، كونه كان واضحاً بشأن مدينة القدس بوصفها مدينة محتلة. 

جوانب تاريخية من مدينة القدس

في القسم الأول من الكتاب، والذي يتألف من ثلاثة فصول، يسلط الباحثون الضوء على الأوقاف المسيحية في القدس، ويعالج "إشكالية الديني والسياسي في العلاقة بين الدولة السلطانية والأوقاف المسيحية في الدولة العثمانية". وما منحته التشريعات العثمانية من حصانة للأوقاف المسيحية لقاء منعها عن الأوقاف الخيرية الإسلامية في مرحلة إعادة هيكلة الدولة العثمانية وتحديث مؤسساتها القانونية. ومنه يتجه الباحثون لمعالجة تمثيل القدس في الصورة الفوتوغرافية المبكرة، تحت عنوان الاستعمار بالمخيلة، والذي يؤكد استعمار المدينة بالمخيلة والنص أولاً، قبل أن تُستعمر على أرض الواقع، مع الإشارة إلى أن تلك الصور أظهرت القدس خالية من السكان، بما في ذلك قبة الصخرة وباحات الأقصى، فلم يظهر الفلسطيني بصفته جزءاً من الطوبوغرافيا الاجتماعية للمدينة، بل تم استدعاء الذاكرة عبر تلك الصور من جهة جماعة دينية متخيلة ترى فلسطين أرضاً بلا شعب.

ومن ناحية أخرى، يحلل الباحثون النظرة الصهيونية إلى المنطقة الشرقية في الأقصى، ومشروعات تقسيمها، ويؤرخون لظهور فكرة التقسيم ورصد الثورات المقدسية من انتفاضة النبي موسى (1920) وثورة البراق (1929) للتأكيد على أن المسجد الأقصى هو المحرك الأول والأساسي للتحركات ضد الاحتلال في المدينة.

التعليم في القدس: فضاء للسيطرة والمقاومة

يتطرق القسم الثاني من الكتاب إلى ساحة أخرى من ساحات الصراع مع الاحتلال في القدس، والمتمثلة في العملية التعليمية ومناهجها بوصفها فضاءً للنضال من أجل تثبيت الهوية الفلسطينية، وتعزيز معرفة الطالب الفلسطيني بقضيته، لقاء سياسات "الأسرلة" في المجال التعليمي، والتي عالجها البحث عبر كيفية استخدام "إسرائيل" أدوات السيطرة والقمع في فرض الكتب والمناهج في المدارس العربية شرق القدس المحتلة، ومحاولاتها وضع الجهاز التعليمي العربي تحت سيطرتها، إلى جانب إلزام الطلاب بدراسة نصوص تعزز الرواية الإسرائيلية، وتدمجهم بما سمّوه " تاريخ الشعب الإسرائيلي" مقابل إقصاء الوجود الفلسطيني.

من ناحية أخرى، يذهب الباحثون لتأكيد سطوة الحرب غير المتكافئة على المناهج، وما مارسته قوات الاحتلال في حق الشعب المحتل، هو حرب متجددة، يخوضها المعلمون وأولياء الأمور بداية كل عام دراسي. وما أدوات الطمس، والاستبدال، والتغيير في المتن، والتحريف، سوى عمليات تزوير قمعي للهوية الفلسطينية، وهو ما أكده البحث في نقله تجارب عشرين معلماً ومعلمة مقدسيين، أفادوا في وضع المصادر البديلة التي اعتُمدَت في صقل الهوية الفلسطينية، وفقاً للسياق الاستعماري الذي يعيشونه. 

أدوات السيطرة على المدينة وأساليب المواجهة

يتألف القسم الثالث من الكتاب من خمسة فصول، ويُعنى بأساليب السيطرة على المكان الفلسطيني، والإنسان الفلسطيني نفسه، مع إبراز الحرب التي يشنها الكيان على الفلسطينيين ديموغرافياً وجغرافياً وبيئياً. ويبحث في كيفية تشكل الصراع على الجغرافيا، من خلال قراءة في سياسة "إسرائيل" لتهويد القدس الشرقية، وهدم المنازل للحفاظ على الغالبية اليهودية في صعيد المدينة، وما تعرض له الشطر الغربي والقرى المحيطة به، من عمليات تطهير عرقي ممنهجة أفضت إلى تهجير السكان الأصليين. وهو ما أوجد واقعاً ديموغرافياً يميل إلى مصلحة السكان اليهود، وساعد في تحديد إقامة الفلسطينيين، والتمييز ضدهم في الخدمات، والحد من التوسع العمراني في القدس الشرقية. وعد الباحثون أن التشديد في دفع الضرائب، كان من أهم السياسات التي استخدمتها سلطات الكيان لتهجير القطاع الخاص وإضعافه، إلى جانب تغيير مسارات السياح في القدس الشرقية وجعلهم يمضون وقتاً أقل في تلك المناطق مقارنة بما يمضونه في الأحياء الغربية ذات الأغلبية اليهودية، وهو ما أدى إلى ضعف السياحة، وأثر سلباً في إيرادات المحال التجارية الفلسطينية العاملة في مجال السياحة. 

القدس في السياسة الدولية

يتمحور القسم الأخير من الكتاب حول البحث في سلبية دور الاتحاد الأوروبي، لقاء قوة الدفع الأميركية ومبادرتها المتعلقة بصفقة القرن. إذ تثبت الدراسة أنه على الرغم من الدور الذي أداه الاتحاد الأوروبي في ضمان استمرارية عملية سلام "أوسلو" منذ عام 1993، فإن الموقف الأميركي في ما يتعلق بالقدس اتسم بالازدراء الكامل لهذا الدور؛ إذ لم تكتفِ الحكومة الأميركية بتجاهل الأوروبيين، بل سددت ضربات متتالية لعملية السلام، أبرزها الإفصاح عن مواقف سلبية تتعلق بالمساعدات التي تُقدم للسلطة الفلسطينية. 

من هنا، يدرس الباحثون السياسة الأميركية نحو مدينة القدس، والمراحل المختلفة التي مرت بها، والأطر السياسية المتغيرة التي تبنّتها الإدارات الأميركية المتعاقبة في التعامل مع وضع المدينة قانونياً وسياسياً، وتشير الدراسة إلى أن التحوّل في السياسة الأميركية تجاه القدس حدث بعد دخول بيل كلينتون البيت الأبيض عام 1993، وهو ما أظهر المدينة في خطاب المرشحين لمنصب السياسة الأميركية وحول عدّها "عاصمة لإسرائيل". ليأتي تمرير قانون الاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" في الكونغرس عام 1995، وتبدأ مرحلة اتصفت بتراجع حدة النقد الأميركي للتوسع الاستيطاني اليهودي في القدس المحتلة، بما في ذلك الشرقي منها.

يُختتم الكتاب بفصل يدرس الأبعاد التاريخية والقانونية للاعتراف الأميركي تجاه القدس، ونقل سفارتها إلى "تل أبيب". وهنا، تقترح الدراسة التمسك بآلية عدم الاعتراف التي ينصّ عليها القانون الدولي، والاستمرار في الرهان على اللجوء إلى الهيئات الدولية لمواجهة محاولات الكيان فرض الواقع وشرعنته، والتي عززته قرارات مجلس الأمن حين وصفها بأنها انتهاك للقانون الدولي، مع القول بانتهاك الولايات المتحدة القانون الدولي العام، وهو أمر يجعل التمسك بمبدأ عدم الاعتراف فعالاً في مواجهة سياسة تغيير الوضع القانوني للمدينة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.