الحياة النفسية للسلطة: الإخضاع والمقاومة

السؤال الرئيس الذي تحاول هذه القراءة الإجابة عنه، هو كيف يمكن أن تساعد مقاربة "بتلر" في تفسير بعض جوانب الإخضاع؟ وكيف أن المقاومة تمثل الاستجابة الناشطة للأفراد، والأمم أو الفواعل الحية فيها، حيال سياسات الإخضاع في الداخل والخارج؟

  • كتاب
    كتاب "الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع" للباحثة جوديث بتلر.

لا يُولد الإنسانُ خاضعاً، وإنما يصير كذلك. هذا يُذكِّر بعبارةٍ شهيرة لـ سيمون دي بوفوار، تقول: "إننا لا نُولد نساء، إنما نصير كذلك". ومن ثم فإن الإخضاع أو الخضوع ليس أمراً جوهرياً أو جوهرانياً في حياة ووجود الناس، وإنما هو أمر يتم إحداثه وتخليقه وتشكيله وهندسته في حياة الأفراد والجماعات والأمم.

حتى ليبدو الإخضاع أو الخضوع ملازماً لوجود الإنسان، وأحياناً ما يبدو لها كما لو أنه "قَدَرٌ" لا فكاك منه، وربما "حاجة" و"ضرورة"، من الصعب تحريره أو تحرره منها. والواقع أن ثمة مقاربات كثيرة حول السلطة والقوة والإخضاع والهيمنة والاستبداد والثورة وغيرها، في أفق فلسفات وتيارات وعلوم كثيرة. 

لكن الاستعارة المذكورة من سيمون دي بوفوار، ليست مدخلاً لنقاش في النِسوية، وكاتبة الكتاب الذي نقرأه، جوديث بتلر، هي من أهم الباحثين فيها، في العالم اليوم، إنما هي مدخل للبحث في "الحياة النفسية للسلطة"، بالتركيز على ما تدعوه بتلر "نظريات في الإخضاع"، ثم بتركيز هذه القراءة على فكرة الاستجابة أو المقاومة، بما هي سلطة أخرى، وإخضاع آخر، وليس مجرد ردة فعل على سلطة الإخضاع. وهذا باب لنقاش صعب ومعقد تخوضه بتلر بكثير من العمق والقوة، في أفق نصوص لعدد من المفكرين الغربيين، وليس في أفق الواقع اليوم. ولنا عودة إلى هذه النقطة. 

يتألف الكتاب من ستة فصول، الأول: ارتباطات مُتعنِّتَة، إخضاع جسدي .. إعادة قراءة الوعي الشقي لـ هيغل. الثاني: دوائر الضمير المثقل بالذنب .. نيتشه وفرويد. الثالث: الإخضاع، المقاومة، وإعادة التدليل .. بين فرويد وفوكو. الرابع: الضمير يصيّرنا جميعاً ذواتاً .. الإخضاع الألتوسيري. الخامس: الميلانخوليا [السوداوية] الجندرية/ التماهي المرفوض .. في حركة مستمرة. السادس: بدايات نفسية .. الميلانخوليا، الازدواجية، الغضب .

الكتاب إذاً فصول تتناول موضوعات وفلسفات وتقديرات وتيارات مختلفة، وتنويعات على متن أو خط معنى واحد تقريباً، ولو أنها متفاوتة في درجة الارتباط به، كما أنها متفاوتة العمق، ومتفاوتة القرب من الموضوع/الواقع، إذ إنها –كما سبقت الإشارة- أقرب لنقاش على نصوص وأفكار منها لتقصٍّ حول التشكّلات والتجلّيات في الواقع الذي تشهده المجتمعات في العالم اليوم.

السؤال الرئيس؟

السؤال الرئيس للكتاب هو: كيف تنتج السلطة، وما الشكل النفسي الذي تتخذه؟ إن محاولة الإجابة تتطلب التفكير في نظرية السلطة ونظرية النفس، (ص 11). تقول "بتلر" ان هذا ما تحاشاه المعتقدان الفوكوي والنفسي. وهي لا تَعِد بأنها سوف تحل ذلك التداخل أو التهرب أو التملص منهما، وإنما تحاول "استكشاف" وجهات النظر التي من خلالها تضيء كل منهما الأخرى.  

لكن، السؤال الرئيس الذي تحاوله هذه القراءة هو كيف يمكن أن تساعد مقاربة "بتلر" في تفسير بعض جوانب الإخضاع؟ وكيف أن المقاومة تمثل الاستجابة الناشطة للأفراد، والأمم أو الفواعل الحية فيها، حيال سياسات الإخضاع في الداخل والخارج؟

ولو أن الأمر يتطلب المزيد من البحث والتقصي والتدقيق. إذ إن المقاومة بوصفها استجابة حيال واقع وقيم التسلط والهيمنة والإخضاع والإكراه، لا تزال تُبحث في الجوانب العسكرية والسياسية، المتمركزة حول فواعل السياسة والعسكرة، أكثر منها جوانب أو فواعل الاجتماع والقيم والثقافة. وقد تساعد مقاربات "بتلر" في هذا الكتاب، ومثلها مقاربات كثيرة في الدراسات الثقافية وعلوم النفس والأنثروبولوجيا والتاريخ والاجتماع الخ في الإضاءة على موضوع بالغ الحيوية والإلحاح والتعقيد في آنٍ. 

تتكئ "جوديث بتلر"، المنظرة والناقدة النسوية والفلسفية المعروفة، وأبرز مفكري الجيل الثالث لـ النظرية النقدية المعاصرة، على أفكار فريدريك نيتشه، وميشيل فوكو، وسيغموند فرويد، وإلى حد ما هيغل، بوصفهم مرجعيات تأسيسية لهذا النص/الموضوع، فيما تعتمد على لوي التوسير، وجاك لاكان، وجورجيو أغامبين، في تعزيز خطابها عن الجوانب النفسية للسلطة.

تركز "بتلر" على مقولة الإخضاع، وتَمَثُّل الهيمنة وقيم السلطة، وكيف أن الأفراد والجماعات أحياناً ما يتم إخضاعهم من "دواخلهم" أو "ذواتهم" من خلال "التَمَثُّل" و"الاستبطان"، حتى ليكون الإخضاع أمراً من الصعب تفكيكه أو تجاوزه، ومن الصعب التحرر منه، كما سبقت الإشارة. إذ يتحول الإخضاع أو الهيمنة والخضوع إلى قوة أو حالة "داخل الذات"، وليس فقط "من خارجها"، وقيمة محروسة بالرجال والنساء، كما هو الحال لدى كثير من الأمم والمجتمعات، وخاصة في هذا المشرق، باعتبار المشتركات الثقافية والتاريخية بين شعوبه. 

مشكلة الذات

"اعتدنا على التفكير في السلطة بوصفها ما يضغط على الذات من الخارج، ما يُخضعها، ما يحط من مكانتها، وينزلها إلى مرتبة أدنى". (ص10). وهذا صحيح. لكن السلطة ليست مشكلة برّانية فحسب، بل هي مشكلة جوّانية أو "مشكلة للذات"، بتعبير ميشيل فوكو، وذلك بوصفها، "توفر الشرط المحدد لوجود الذات ولمسار رغبتها، حينئذ لا تكون السلطة ببساطة ما نعارضه، وإنما ما نعتمد عليه بشدة أيضاً من أجل وجودنا، وما نستره ونحفظه في الكينونات التي نكون عليها". كيف يحدث ذلك؟ 

يمكن ملاحظة المسار الآتي: "تفرض السلطة نفسها علنياً، تنهكنا قوتها، فنأخذ في استبطان أو قبول أحكامها. لكن ما يغفل عن ذكره وضع كهذا هو أننا، "نحن" الذين نقبل بمثل هذه الأحكام، نعتمد بصورة أساسية على هذه الأحكام من أجل وجود"نا"". (ص10). وقد أعاد فوكو صياغة الإخضاع ورأى أنه لا يضغط على الذات فحسب، بل يشكّلها (الذات)، ما يشير إلى "وجود ازدواجية في موقع انبثاق الذات". (ص15).

تقول بتلر إن الدراسة مدينة بالفضل لصياغة فوكو حول إشكالية السلطة أو "ذات السلطة"، ومناقشاته العديدة حول "ذات الرغبة" و"ذات القانون"، إلا أن صياغة الذات هنا تحيل إلى "معضلة سياسية وثقافية كبرى، ألا وهي كيفية تطوير علاقة لمعارضة السلطة، مع تورط هذه العلاقة، على نحو لا يمكن إنكاره، في السلطة نفسها، التي يعارضها المرء". 

كثيراً ما أدت هذه الرؤية إلى استنتاج مفاده أن الفاعلية بأكملها هنا تواجه مأزقها. فقد تكون أفعالنا "مروَّضة" بصورة دائمة ومسبقة من طرف أشكال الهيمنة الرأسمالية أو الرمزية، وتقدّم مجموعة من الرؤى المعمقة في بنية معقدة كما لو أنها أبدية القوة والتأثير وتحكم ليس راهن الأفراد والأمم والشعوب فحسب، وإنما المستقبل أيضاً. 

و"قد يُعتَقَد، على الرغم من ذلك، أن الذات تستمد فاعليتها بصورة محددة من السلطة التي تعارضها، ويا لها من صياغة غريبة محرجة تحديداً بالنسبة لأولئك الذين يظنون أن التورط والتناقض يمكن استئصالهما مرة واحدة وإلى الأبد". (ص 26).

ما يجب أن يؤخذ بالحسبان مسألتان: الأولى "كيف ينطوي تشكيل الذات على تشكيل تنظيمي للنفس، وذلك يتضمن كيف يمكننا إعادة ضم خطاب السلطة إلى خطاب التحليل النفسي"، (ص26)، أي خطاب فوكو وخطاب فرويد. والثاني: "كيف يمكننا أن نجعل فهم الذات هذا يعمل كمفهوم للفاعلية السياسية". (ص27). وهذا ما تقوم به فواعل الفكر والتنظيم الاجتماعي والسياسة والقادة وشبكات التنظيم والتأثير وأصحاب الإرادة المدفوعون بمقولات وعناوين كبرى.

"إن قابلية الذات للتأثر تجعل الذات نوعاً من الكائنات القابلة للاستغلال. إن أرادَ المرءُ أن يتصدى لانتهاكات السلطة (وهو أمر يختلف عن التصدي للسلطة ذاتها)، فسيكون من الحكمة النظر في قابليتنا للتأثر بتلك الانتهاكات وفي ما تقوم عليه هذه القابلية". (ص 29).

عودة إلى السؤال الرئيس للكتاب، تسأل بتلر: "كيف تكون الذات نوعاً من الكائنات التي يمكن استغلالها وتكون، بحكم تشكّلها الخاص، قابلة للتأثر بالإخضاع؟". تجيب: "من خلال البحث عن اعتراف بوجودها الخاص في فئات ومصطلحات وأسماء ليست من صنعها، تبحث الذات عن دالّ على وجودها خارج نفسها، وفي خطاب متسلّط وغير مبالٍ في آنٍ معاً". 

تضيف: "تدلّ الفئات الاجتماعية على التبعية والوجود في آنٍ معاً. (و) تسعى الذات إلى التبعية بوصفها وعداً بالوجود تحديداً في اللحظة التي يكون فيها الاختيار مستحيلاً. هذا السعي ليس خياراً، لكنه ليس ضرورة أيضاً. (و) يستغل الإخضاع الرغبة في الوجود، حيث يُمنح الوجود دائماً من مكان آخر؛ إنه يسم قابلية أولية لدى الذات للتأثر بالأخرى من أجل وجودها". (ص 29). وهكذا، فإن "العملية النفسية للمعيار تزوّد السلطة التنظيمية بوسيلة أكثر مكراً من القمع الصريح، وسيلة يسمح نجاحها بعملها الضمني في الاجتماعي". (ص30).

"إن قبل المرء بفكرة سبينوزا التي تقول إن الرغبة هي بصورة دائمة رغبة المرء في الإصرار على وجوده الخاص". فهذا يحيل بكيفية ما إلى السياق أو الوجود الاجتماعي والحياة الاجتماعية، إذ إن "إصرار المرء على وجوده الخاص يعني تكرُّسه من البداية للشروط الاجتماعية التي لا تصبح ملكاً للمرء بصورة كاملة على الإطلاق. إن رغبة المرء في الإصرار على وجوده الخاص تتطلب الرضوخ لعالم الآخرين الذي لا يكون ملكاً له في الأساس". (ص38).

لو أن الإصرار على "الوجود الخاص" يمكن أن يفضي إلى قوة خروج واحتجاج ومقاومة، بما هي فعالية أو استجابة فردية وجماعية أو مجتمعية، الأمر الذي يمكن أن يحدث فرقاً، في تطورات الأمور، وهذا ما نجده في معنى وأفق حركات وتنظيمات المقاومة وشبكات التضامن وما وجده العالم في حركات التحرر في فترات تاريخية مختلفة من تاريخه، وهو ظاهرة مستمرة في العالم اليوم. 

الوعي الشقي

تشير بتلر إلى انتقال مهم لدى هيغل في "فينومينولوجيا الروح" من فكرة "السيد والعبد" إلى "الوعي الذاتي" و"الوعي الشقي"، لكنه انتقال لم تتم قراءته ومساءلته أو اختباره بشكل جيد. ربما لأنه بدأ بالحرية المُخاف منها، ووصل إلى "الاستعباد الذاتي". وتحيل إلى فوكو الذي يشير إلى أن "الهدف من السياسة الحديثة لم يعد يكمن في تحرير الذات، بل بالأحرى في استجواب الآليات التنظيمية التي من خلالها تُنْتَج "الذوات" وتُحْفَظ". (ص41).

وإذ يتخلص العبد من "السيد" الخارجي ظاهرياً ليجد نفسه في عالم أخلاقي خاضعاً لمعايير ومثل مختلفة، أو في صياغة أكثر دقة، "تنبثق الذات كوعي شقي من خلال التطبيق الانعكاسي لهذه القوانين الأخلاقية". ما يعبّر عنه هيغل هنا، يعيد التأكيد عليه فوكو في نظام المراقبة والمعاقبة، وفكرة السجن، وهو ما كان نيتشه قاله في كتابه "جنيالوجيا الأخلاق"، إذ إن "غريزة الحرية هذه دُفعت إلى الخلف وقُمعت، سُجنت في الداخل". (ص 42).

وهكذا، فإن ""التحرر" من السلطات الخارجية لا يكفي لتدشين لذات حرة". (ص43). ويذهب فوكو أبعد قليلاً، بالقول إن حدود التحرر ليست مفروضة من الخارج ولا من الداخل/الذات فحسب، بل إنها "بصورة جوهرية ... الشرط المسبق لتشكل الذات نفسها"، ليصبح الإخضاع شرطاً مؤسساً للذات. (ص 43). 

التسامي 

"إن مفهوم التسامي الفرويدي يوحي بأن تنحية المتعة أو إنكارها يمكن أن يصبح عاملاً مشكلاً للثقافة. وعليه يرسي فرويد في كتابه "قلق الحضارة" حجر الأساس لكتاب هربرت ماركوزة بعنوان "إيروس والحضارة" أو "الحب والحضارة". 

يبدو أن الآثار الجانبية غير المتعمدة للتسامي في تشكيل المنتجات الثقافية تتجاوز الانعكاس الجدلي الذي تُنتَج من خلاله. بينما وفقاً لـ ماركوزة فإن الدوافع أو الإيروس ... تتقدم على الأوامر التنظيمية التي من خلالها تصبح قابلة لأن تُعاش ثقافياً. نجد وفقاً لفوكو أن الفرضية القمعية التي يبدو أنها تتضمن نموذج التسامي في بنيتها، تخفق في العمل بصورة محددة لأن القمع يولد المتع والرغبات التي يسعى إلى تنظيمها". (ص 70). 

لكن التسامي يمكن أن يمثل دافعاً لتحقيق تطلعات والعيش في أفق مقولات وعناوين كبرى، مثل القيم الدينية والاجتماعية، والتضحية من أجلها، وهذا ما يفعله الثوريون والمقاومون والرساليون الذين يمكن أن يقدموا كل شيء ممكن، بما في ذلك دماؤهم وأرواحهم، في أفق القيم الدينية أو الاجتماعية أو الوطنية الخ التي يؤمنون بها. 

وهذا باب يتطلب المزيد من التقصي والتدقيق، إنما في أفق وواقع مجمعات هذا المشرق المنكوب بالإخضاع والاستبداد والسيطرة، الداخلية والخارجية، وبالطبع الاجتماعية والقيمية قبل السياسية والاقتصادية، فضلاً عن التدفقات العولمية التي تمثل دينامية تأثير وإخضاع بالغة السرعة والسيولة والقوة، متجهة إلى أعماق الأفراد والجماعات والأمم والشعوب. 

الإرادة التي تنقلب على نفسها

"ينظر نيتشه إلى الضمير بوصفه نشاطاً عقلياً لا يشكل الظواهر النفسية فحسب، بل يتشكل أيضاً، نتيجة لاستبطان من نوع مميز". ص 75. ونجد لدى نيتشه أن "الإرادة تنقلب على نفسها". ص75. "لكن ماذا يمكننا أن نفعل بهذه العبارة الغريبة؛ كيف نُطالَب بتخيل إرادة ترتد على نفسها...؟". ص75. فيما يتحدث فرويد عن "الغربة التي تنقلب على نفسها"، (ص 75). "إن الفكرة القائلة إن الاخلاق تستند إلى نوع معين من العنف هي فكرة مألوفة فعلاً"، (ص76). وإن عنف الأخلاق عنف الذات والرغبة عندما تنقلب على نفسها.

تعود بتلر لطرح السؤال بكيفية مختلفة، تقول: "ما الذي يدفع الإرادة إلى الانقلاب على نفسها؟ هل تنقلب على نفسها تحت ضغط قوة أو قانون خارجي، تحت قوة العقاب المتوقعة أو المتذكَّرَة، أم أن هذا الشكل الغريب من الانعكاسية سابق على مجموعة المطالب المفروضة خارجياً أو يكون متورطاً بشكل آخر فيها؟". ص 82.

الوعد 

يمثل الوعد قوة إرادة وإنجاز وخلاص، والوعد قوة تحكم أفق أو فضاء العيش والوجود للأفراد والجماعات، فإذا أطلق الفاعل أو القائد وعداً، فإن ذلك يضع كل شيء لدى الأفراد والجماعات في أفق الوعد كما لو أنه قوة تحقيق وإثبات، وليس مجرد أمل أو تعبير عن تفضيل أو سعي لتحقيق أمر ما. إن الوعد قوة تمثّل واستبطان وتمركز لكل ما يمكن أن يحققه، أي أن تجعله وعداً متحققاً أو "وعداً صادقاً".

يشير نيتشه إلى ""انطباع" تحفظه الرغبة، انطباع لا يُنسى، لكنه حين يُتذكر فعلياً ينتج إرادة مستمرة مطولة. لكن هذا الانطباع غير محدد. فمن أين يأتي هذا الانطباع؟ وماذا يخدم؟ يصر نيتشه على أن الشخص الذي يقطع الوعود على نفسه لن يسمح لشيء بأن يقطع العملية التي من خلالها ينتهي تصريحه "سأفعل ذلك" أو "أريد أن أفعل ذلك" بتنفيذ الفعل المحدد. 

بكلمات أخرى، ينشئ الفاعل الذي يقطع الوعد على نفسه استمرارية بين التصريح والفعل، على الرغم من أن الفاصل الزمني بين الاثنين معترف به كفرصة لتدخل مختلف الظروف والحوادث المتبارية". (ص 84).

وهكذا، "في مواجهة الظروف والحوادث، تستمر الإرادة في إنتاج نفسها، في العمل على نفسها في خدمة إبقاء نفسها مستمرة، فتقوم هذه الاستمرارية، هذه "السلسلة الطويلة للإرادة" كما يصفها نيتشه، بتأسيس زمنيتها الخاصة في وجه أي آخر قد يسعى إلى تعقيد التنفيذ أو تقييده". (ص 85).

"هذا الكائن الذي يقطع الوعد على نفسه هو الشخص الذي يدافع عن نفسه عبر الزمن والذي تستمر كلمته عبر الزمن، هو الشخص "الذي يعطي كلمته كشيء يمكن الاعتماد عليه [لأننا نعرف] أنه يتمتع بالقوة الكافية للحفاظ على كلمته في وجه الحوادث". (ص 85). ألا يذكرنا هذا بشيء أو أشياء أو فواعل في زماننا وحياتنا وتاريخنا، وكذلك في أزمنة وحيوات وتواريخ غيرنا، من فواعل ورموز كان وَعْدهم قوةَ إنجازٍ وانتصار، مثلما كان وَعدُ آخرين قوة تدمير وهزيمة؟

هذا يذكرنا بسؤال نيتشه: "كيف يمكن أن تُخلَق الذاكرة من أجل الإرادة". (ص 85). أو كيف يمكن أن تكون الذاكرة قوة إرادة وإنجاز، مثلما تكون قوة نكوص وضعف وتدمير وهزيمة، قوة إخضاع بكل معنى الكلمة.

تعددية المقاومات

"ليس ثمة موقع واحد للرفض الكبير، لا روح للثورة، لا منشأ للتمرد كله، لا قانوناً خالصاً للثوري. ثمة بالأحرى تعددية للمقاومات، حيث تشكل كل مقاومة منها حالة خاصة: مقاومات ممكنة، ضرورية، مستبعدة؛ وأخرى عفوية، همجية، منعزلة، منسقة، جامحة، أو عنيفة؛ وأخرى تسارع إلى المساومة، معنية، أو مضحية". (ص 113).

وحسب التعريف، "لا يمكن أن توجد [المقاومة] إلا في المجال الاستراتيجي لعلاقات القوة. لكن هذا لا يعني أنها مجرد ردود أفعال أو ارتدادات، تشكل فيما يتعلق بالهيمنة الأساسية وجهاً داخلياً يكون في النهاية سلبياً بصورة دائمة، ومحكوماً عليه بالهزيمة الأبدية". (ص113). بالطبع النص مقتبس من كتاب "تاريخ الجنسانية"، لـ فوكو. 

بين الاكتشاف والرفض

تقول بتلر نقلاً عن فوكو، مجدداً: "قد لا يكون الهدف اليوم هو اكتشاف ما نحن عليه، بل رفض ما نحن عليه. علينا أن نتخيل ونبني ما يمكن أن نكون عليه من أجل التخلص من هذا النوع من الارتباط السياسي "المزدوج"، أي الفردنة والتشميل المتزامنين لبنى السلطة الحديثة .... سنستنتج أن المشكلة السياسية والاجتماعية والفلسفية في أيامنا هذه لا تكمن في محاولة تحريرنا من كل من الدولة ومؤسسات الدولة، بل محاولة تحريرنا من الدولة ونوع الفردنة المرتبط إلى الدولة. علينا ترويج أشكال جديدة من الذاتية من خلال رفض هذا النوع من الفردية الذي فُرض علينا منذ قرون". (ص 116).

التعليم، الإخضاع

يربط ألتوسير انبثاق الوعي بمشكلة "التكلم بشكل صحيح". (ص131)، والإيديولوجيا، بنظره، هي اكتساب المهارات المتنوعة لقوة العمل ومنها "مهارات الكلام" أو "التكلم بشكل سليم"، وهذا شكل من أشكال الخضوع أو الإخضاع، الذي لا مفر منه تقريباً، طالما أن التعليم هو متطلب من متطلبات العيش والعمل والإنتاج.  

وهكذا، تمثل المدرسة التي "تعلم المهارات التقنية"، أهم مؤسسة من مؤسسات الإخضاع في العالم اليوم، ومثل ذلك نظم النظم والقوانين ونواظم التفاعلات الاجتماعية، كونها تعمل على "إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية"، أي "إعادة إنتاج للخضوع"، (ص 133).

سياسات الغضب

"إذا حرم العضب علينا، يمكن أن تأخذ الآثار الميلانخولية [السوداوية] لهذا التحريم أبعاداً انتحارية"، ص 166. قُل احتجاجية ثورية، قد تتجاوز الإخضاع السياسي من قبل نظم الحكم، إلى الاخضاع القيمي والثقافي. هنا يمكن الإحالة مثلاً إلى مقاربة ميشيل فوكو للثورة الإيرانية، أو مقابة يورعن هابرماز حول "عودة المقدس" أو عودة الظاهرة الدينية في العالم.

يستدعي فوكو فكرة الدين والثورة، وكيف أن ما حدث في إيران عام 1979 مثلاً لم يكن مجرد احتجاج ضد نظام حكم الشاه، وإنما شكل من أشكال انتفاض وغضب روح المجتمع ضد غزو المادية والليبرالية المتوحشة تحت اسم التحديث. وهنا يستذكر فوكو عبارة لـ ماركس يقول فيها "الدين هو روح عالم من دون روح". 

وبصرف النظر عن اختلاف التقديرات والمسارات اللاحقة للثورات والحركات الاحتجاجية حول العالم، على اختلاف أنماطها وخطاباتها، فإن المعنى المراد ليس تقييم "ما صارت  إليه"، وإنما "ما تدشنه" أو "تبدأ به" أو "تحيل إليه" وحتى "ما تَعِدُ به". وهي جميعاً استجابات ناشطة، متفاوتة القوة والفعالية، ضد الإخضاع. وهذا باب فيه كلام كثير. 

لكن لا بد من التنبه إلى أن الغضب أو الخوف أو النهوض ضد الإخضاع، لا يُفضي إلى ثورة بالضرورة، ولا الثورة تفضي إلى عمل منظم وواعٍ. قد يشهد النهوض ضد الإخضاع أو الثورة نكوصاً أو ارتداداً إلى حال أسواء مما كان. ثم إن الثورة نفسها تقيم نظام إخضاع معكوس، هل تتذكرون "سلطة البروليتاريا" و"سلطة الشعب العامل". وقد تعيد إنتاج ما ثارت ضده، إنما بعناوين ومسمّيات مختلفة. ومن ثم لا بد أن تُولِّد ديناميات معارضة لها أيضاً. ذلك أن "السلطة المفروضة على المرء هي السلطة التي تحض على نشوئه، يبدو أنه ليس هناك مفر من هذه الازدواجية". (ص220).

في الختام، 

يثير الكتاب أسئلة ويفتح أبواباً كثيرة، ويدخل في بعض خطوط المعنى الممكن لها، ولا يغلقها، ومن ثم فهو يفتح باب الإمكان على أسئلة ومشروعات إجابة، قل مداخل تفكير عديدة، في فضاء الفكر الذي تقدمه جوديث بتلر في كتبها وإسهاماتها الكثيرة والمهمة. 

ويبدو أن الكتاب "الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع"، هو فصول سجال ومداولة ونقد أكثر منه فكرة تم نسجها في خطاب أو كتاب. وهذا قد يكون من سمات الكتابة في العالم اليوم، التي عادة ما يتم هندستها قطعاً أو فصولاً، في خط كتابة وتعبير عن موضوع ما، الأمر الذي يفترض أن يساعد القارئ في الاطلاع على الموضوعات فصولاً، وليس بالضرورة كلاً.

في الكتاب القليل من الشواهد والإحالات إلى أحداث تثبت موضوعاته وأفكاره. وهو لا يذكر واقعة إخضاع واحدة ولو على سبيل المثال، كما لا يذكر حالة اعتداء واحدة. كما أن الكاتبة لا تذكر ثورة أو حركة رفض واحدة، على  كثرتها في العالم، وخاصة في القرن العشرين، ولا كيف أن الأمم والمجتمعات تؤسس رفضها للإخضاع في مستويات: الداخل، بمعنى الثورة على النظم السياسية، والثورة الاجتماعية؛ والخارج، بمعنى التحرر الوطني. وبالطبع ثمة أنماط من السلوك الاحتجاجي ضد الهيمنة والإخضاع العالمي، وهيمنة قيم العولمة والرأسمالية المتأخرة.

والكاتبة تخالف بذلك منهجها في كتاباتها الأخرى، مثل كتابها "اضطراب في النوع- النسوية وتخريب الهوية"، الذي تضمن الكثير من المسوح والمعطيات والأمثلة والشواهد الخ ولو أنها فعلت لكان الكتاب والخطاب أكثر انفتاحاً على القارئ.

وربما كان من المناسب إدراج ملاحظات توضيحية حول وجود ترجمات عربية لأكثر الكتب المحال إليها في النص. فضلاً عن إدراج توضيحات وتعريفات حول عدد من المفاهيم الواردة في النص، لأن ذلك يساعد القراء في تتبع ما ورد في الكتاب والتعمق في المصادر والمظان الرئيسة لما يناقشه أو يبحث فيه. 

لكن، هذه مهمة شاقة، نظراً لصعوبة الأسلوب، وبالطبع صعوبة الموضوع، وقد اختلف نمط وإيقاع الترجمة في التعامل مع الإحالات المرجعية في النص، فمرة تترجم عناوين ما يحيل إليه النص من كتب لـ هيغل أو نيتشه أو ألتوسر أو فوكو الخ ومرة تورد العناوين كما وردت في النص الأصلي/الإنكليزي. 

لعل كتاب "الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع" يثير استجابات بحثية تتناسب مع حجم التحديات وحجم الإخضاع الذي تشهده حياتنا ومجتمعاتنا وعوالمنا المختلفة، والأهم هو تفكيك وتجاوز إخضاع السلطات، وإخضاع قوى الهيمنة والتغلغل الخارجي، والأكثر أهمية هو تفكيك وتجاوز إخضاع وإكراه مشروعات الاحتلال التوسعي في المنطقة، التي تتطلب سياسات مقاومة وإخضاع معاكسة. 

الكتاب: الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع

الكاتب: جوديث بتلر. 

المترجم: نور حريري.

الناشر: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2021، 238 صفحة.