الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة

قد تكون فكرة العلمنة والحداثة من أهم العوائق التي حالت دون تطوير مقاربات جديدة للظاهرة الدينية.

  • كتاب
    كتاب "أقنعة الدين السياسية: الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة".

كيف توظّف الأحزابُ المشاعر الدينية والخطاب الشعبي من أجل حشد الكتلة الناخبة دينية التوجه خلفها وكسب أصواتها في الانتخابات، وكيف تتحول اتجاهات السياسة في أفق الأفكار الدينية، والعكس، أي اتجاهات التديّن في أفق السياسات. وكيف تتغير الأوزان أو الأدوار النسبية للأفكار الدينية في سياسات الأحزاب والحكومات في عدد من الدول الديمقراطية أو ذات السمات الديمقراطية؟

يبدأ كتاب "أقنعة الدين السياسية: الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة" للكاتب والأستاذ في جامعة تورينو الإيطالية لوقا أوزانو، بعرض أهم الأدبيات التي تتناول دور الدين في الأحزاب السياسية وسياسات الدول، وخاصة الديمقراطية أو ذات التوجه الديمقراطي منها. وهو دور متغير بشكل لافت، ليس تقدماً أو تراجعاً في الوزن الانتخابي أو السياسي فحسب، وإنما في أنماط التديّن في السياسة، ليبرز العامل الديني في مختلف أنماط الأحزاب والتنظيمات السياسية، مثلما تبرز العلمنة والاتجاهات المحافظة غير الدينية في مختلف أنماط الأحزاب والتنظيمات والجمعيات الدينية. 

يتناول الكتاب بالدراسة ست حالات من مناطق جغرافية مختلفة: آسيا وأفريقيا وأوربا وأميركا، وأديان مختلفة: إسلام ومسيحية ويهودية وهندوسية، ويتعلق الأمر بدراسة دول: الهند و"إسرائيل" وإيطاليا وتركيا والولايات المتحدة وتونس، على النحو الآتي: "الهند بين علمانية الدولة والكراهية الطائفية"، و"دولة يهودية أم علمانية؟ اللغز الإسرائيلي"، و"إيطاليا من الديمقراطية المسيحية إلى الشعبوية"، و"الإسلام والعلمانية والعملية الديمقراطية في تركيا"، و"الدور المتغير للدين في الولايات المتحدة الأميركية"، و"منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والإسلام والديمقراطية". 

ويختم الكاتب بتحليل إجمالي يتضمن استخلاصات وأحكام رئيسة، بما في ذلك تقييمات عامة، ومقارنة بين الحالات المدروسة، وأوجه التشابه والاختلاف.

في المقولات الإطارية

كانت "أطروحة العلمنة" هي الفكرة السائدة في الأدبيات التي تتناول الدين والسياسة طوال القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد تكون فكرة العلمنة والحداثة من أهم العوائق التي حالت دون تطوير مقاربات جديدة للظاهرة الدينية و"تقديم دراسات مقارنة في مجال العلاقة بين الأحزاب السياسية والدين". ص7.

من المقولات الإطارية أو المرجعية التي حكمت الكتاب ومقارباته، "أطروحة الانقسامات"، التي توضح –من منظور الكاتب- طبيعة الانقسامات الدينية والطائفية، والتوظيفات المختلفة للظاهرة الدينية في السياسة، من خلال رصد أو تقصي التحولات في الخطاب السياسي أو لنقل البعد الديني والموضوعات الدينية في الخطاب الحزبي، وأيضاً التحولات في الخطاب الديني أو لنقل البعد السياسي والموضوعات السياسية في الخطاب الديني، وأنماط الانقسام في الأحزاب الدينية، والتحولات أو "التمفصلات" بين الدين والظاهرة الدينية وكل من اليمين واليسار. مع ملاحظة أطياف كثيرة للتشكلات السياسية والدينية، وتحول سلوك الناخبين والمتحزبين حيال الموضوعات ذات البعد الديني في المجتمعات والدول المدروسة.

الدين والديمقراطية

يقول الكاتب إنه اشتغل على الكتاب في لحظة "بدت الصورة المرتقبة للديمقراطية في أرجاء المعمورة قاتمة. فبروز الأحزاب الشعبوية، وتزايد عمليات الطغيان –بمعنى نمو حركة الابتعاد عن الديمقراطية- وانحسار القيم الديمقراطية التي هي مكوّن رئيس للأنظمة السياسية الديمقراطية؛ كلها معطيات تشير إلى السير في اتجاه مغاير لانتشار الديمقراطية. ودور الأحزاب السياسية وتأثيرها واحد من المقومات الأساسية للتفكر في مدى تحقق الديمقراطية، أو عدمها، بما يسد متطلبات النظام الديمقراطي وتحديد هدفه". ص13.

يقول الكاتب إن الظاهرة الحزبية في أوروبا كانت على العموم "ذات توجه ديمقراطي علماني"، وأما بقية بلدان العالم، "فإن الأحزاب الدينية التوجه تتزايد في عددها ومجال نشاطها ونفوذها". ص13. "وعلى مدى عقود، كانت كيفية تأثير الأحزاب الدينية التوجه في كل من التحول الديمقراطي والديمقراطية ذاتها مسألة خلافية. ففي بداية الأمر، برزت أهمية الثقافة السياسية في تفسير نجاح أو فشل عملية تحول ديمقراطي، في كل من ألمانيا الغربية وإيطاليا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. 

وبالإضافة إلى ذلك، قيل إن لتعاليم دينية ما –من قبيل الكاثوليكية الرومانية في إيطاليا، والديمقراطية المسيحية في ألمانيا، أهميتها في تشكيل (وإعادة تشكيل) الثقافة السياسية فيها، بعد تجربة أنظمة الحكم الشمولية. وحظي دور الدين في عملية التحول الديمقراطي باهتمام بالغ إبان الموجة الديمقراطية الثالثة (من منتصف سبعينيات القرن العشرين حتى أواخر تسعينياته). وأُشير كثيراً –على سبيل المثال- إلى أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية لعبت دوراً محورياً في تقويض نظام الحكم الشيوعي في بولندا، وفي المساعدة على إرساء دعائم حكم ديمقراطي مسؤول في عصر ما بعد زوال النظام الشيوعي". 

تزامن ذلك مع بروز ظاهرة اليمين في دول كثيرة مثل الولايات المتحدة، كما برزت الظاهرة الدينية والجهادية في العديد من البلدان الإسلامية، وخاصة الثورة الإسلامية في إيران، والظاهرة القومية الهندوسية في الهند، و"الأصولية اليهودية" في كيان "إسرائيل" (فلسطين المحتلة).

لكن ثمة طغيان لمدارك نمطية سلبية حيال الظاهرة الدينية في السياسة، الأمر الذي انعكس سلباً على فهم الأحزاب ذات التوجه الديني، التي حاولت التكيّف مع الواقع، ومخاطبة شريحة أوسع من الناخبين، تتجاوز شريحة المتدينين، والدخول في تحالفات انتخابية وسياسية، ومراعاة الاعتبارات القانونية والسياسية، والأيديولوجيات السائدة أو الحاكمة، واحتواء مدارك التهديد لدى الفواعل العلمانية والحداثية.

الأسئلة وأطر التحليل 

كيف نشأت مختلف أنماط الأحزاب دينية التوجه، وكيف نجحت في شغل حيز  كبير في مختلف البلدان، مع التركيز على دور الانقسامات الاجتماعية وتسييسها، وكيف تتطور الأحزاب الدينية التوجه من نمط إلى أخرى، وهل هناك أنماط عامة للتغيير من حالة إلى أخرى مغايرة لها، وما هي العوامل الدافعة لحدوث مثل هذا التغيير. ولهذا السؤال الأخير، أهمية خاصة في فهم السياسة العالمية المعاصرة، ذلك أن الحالات التي يدرسها الكتاب عرفت في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين "نجاحاً للأحزاب الشعبوية اليمينية الجديدة، أو نمو توجه شعبوي يميني داخل أحزاب محافظة/قومية موجودة بالفعل". 

كيف ترتبط الأنماط المختلفة للأحزاب الدينية التوجه بالديمقراطية عامة، وبعمليتي التحول الديمقراطي والاستقطاب الاجتماعي والسياسي بوجه خاص، في أنظمة الحكم الديمقراطية المعاصرة؟ هل ثمة أنماط لأحزاب دينية التوجه يمكن أن يكون تأثيرها في الديمقراطية أكثر إيجابية بالمقارنة بأنماط أخرى؟ 

واتصالاً بهذا الخط من الأسئلة، يناقش الكتاب فرضيات أو مقولات مثل "الاستثنائية البروتستانتية"، في أفق ماكس فيبر وآخرين، وفرضية "عدم التوافق بين الإسلام والديمقراطية"، التي ترد في دراسات الاستشراق والدراسات الإسلامية في الغرب. 

ينطلق الكتاب في تحليل العلاقة بين الدين والديمقراطية وتجلّياتها المختلفة، وأحياناً المتعاكسة، من فكرة "تعدد المشارب في الديانة الواحدة" التي اقترحها ألفريد سايبان، والتي تؤكد "إمكانية أن توحي كل ديانة بأنماط مختلفة من الحركات المناصرة للديمقراطية أو المعادية لها". ص 26.

الهند بين علمانية الدولة والكراهية الطائفية

يتزايد حضور العامل الديني في ديناميات السياسة الحزبية في الهند بشكل مضطرد، صحيح أن حزب "بهاراتيا جاناتا" هو الأكثر بروزاً في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، على حساب "حزب المؤتمر" الذي حكم الهند لعدة عقود في مرحلة ما بعد الاستقلال، وأن حزب "بهاراتيا جاناتا" يتبنى مقولات دينية هندوسية عموماً. إلا أن الهوية الدينية أو توظيف الدين في السياسات ليس حصرياً بالحزب المذكور، فقد فعل ذلك "حزب المؤتمر" نفسه، ويفعل ذلك الآن. ص 183. 

كما أن حزب "بهاراتيا جاناتا" يغيّر من تكتيكاته بهذا الخصوص، ويدفع بمقولات تتجاوز الخط الديني المعروف، ليضم أتباع أديان أخرى، ويتبنى مقولات سياسية واجتماعية-اقتصادية تتجاوز خطوطه التقليدية، كما تتجاوز قواعده الانتخابية، سواء أكانت دينية أو مناطقية. ص 182. ويتبنى خطابا يتراوح بين التطرف والاعتدال، بحسب الأحوال، وتغيّر القيادات وخطوط الانقسام-التحالف على مستوى المناطق والولايات والجماعات الدينية والعرقية واللغوية والطبقية الخ. 

"إسرائيل" دولة يهودية ام علمانية؟

إن دينامية الانقسام الرئيسة في "إسرائيل" هي: المتطرفون مقابل المعتدلين، ويعني اتجاهات الناخبين والتنظيم الحزبي وديناميات الصراع الانتخابي، وبالتالي تشكيل السياسات. وهكذا، تناقص عدد المتدينين الذين يتخذون مواقف معتدلة، وأصبح الربط بين التديّن واليمين سمة في الظاهرة الحزبية والسياسية، ص222. 

وتراجع اليسار، كما تراجعت خطوط انقسام تقليدية كما كان الحال بين أشكيناز وسيفارديم، وظهرت داخل كل خط صدوع أو انقسامات: يمين-يسار، متدين-علماني إلخ. مثلما ظهرت اهتمامات من قبل الأحزاب الدينية لتبني خطاب يتجاوز قاعدتها الاجتماعية والأيديولوجية، ما يعني أن لديها قدراً من التكيّف بقصد توسيع النطاق وإدماج عناصر جديدة.

تمثل "إسرائيل" "معملاً سياسياً بالغ الأهمية لدراسة العلاقة بين الأحزاب السياسية والدين"، ص 223. إذ توجد فيها كل أنماط الأحزاب الدينية التوجه، بتنويعات إيديولوجية وبرامج اجتماعية وسياسية، وتحالفات، وتكييفات مختلفة. 

إيطاليا: من الديمقراطية المسيحية إلى الشعبوية

شهدت إيطاليات تحولات كبيرة في بناها التنظيمية وقوانين الانتخاب والتيارات الرئيسة في المجتمع والبرلمان والسياسة، حيث تراجع حزب "الديمقراطية المسيحية" و"الحزب الشيوعي الإيطالي". ص261. ولعب الانقسام العلماني-الديني دوراً حيوياً، إلى جانب الانقسام الطبقي والاقتصادي، وبالطبع الانقسامات المناطقية (شمال-جنوب)، وانقسامات: المركز-الأطراف، حزب رئيس-أحزاب أصغر، وتغيّر كبير في التحالفات الحزبية.  

أخذت الظاهرة الدينية تمثّل الثابت الرئيس في الظاهرة الحزبية، ليس بوجود حزب يمثلها، كما كان الحال سابقاً مع حزب "الديمقراطية المسيحية"، وإنما وجود الدين والبعد الديني في خطاب وسلوك مختلف الأحزاب، بما فيها اليسارية والعلمانية منها، مثلما عدلت أو كيفت الأحزاب الدينية التوجه من خطابها وأنماط عملها وتنظيمها لكسب مرونة تُمكّنها من جذب أشخاص أو شرائح غير متدينة بشكل تقليدي أو لديها أجندات ومقولات ومواقف علمانية أو يسارية مثل موضوعات الهوية الدينية والهجرة وقوانين الزواج والطلاق الخ.  

الإسلام والعلمانية في تركيا

تشكَّلَ النظامُ الحزبي في تركيا –إلى حد كبير- عبر انقسامات تقليدية: مركز-أطراف، ديني-علماني، يسار-يمين، عسكريين-مدنيين، مناطق غرب-وسط وشرق البلاد، ترك-كرد، سنة-علويين؛ ولكنها كانت محكومة بخطوط رئيسة، تمثلت بهيمنة العسكر على السياسة خلال عدة عقود، ولاحقاً بروز استقطاب علماني-ديني، مال تدريجياً لصالح الظاهرة الدينية الإسلامية. ووصل الأمر إلى سيطرة حزب العدالة والتنمية على الحكم، ومركزة السلطات بيد الرئيس رجب طيب أردوغان، وتبني سياسات هجينة، تضم مختلف التشكلات الإيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية، لكن في إطار مقولات إسلاموية يمينية الطابع. 

"حظي حزب العدالة والتنمية في بداية نشأته بثناء الكثيرين بوصفه نموذجاً للتوافق بين الإسلام والديمقراطية (بل بوصفه نموذجاً أولياً لتطور حركة ديمقراطية إسلامية قادرة على تحقيق التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط)، ودليلاً على صحة أطروحة "الاعتدال عبر الإدماج"، إلا أن هذه الأفكار باتت محل شك في ظل تصاعد توجهه السلطوي وتنامي النغمة الأصولية والقومية في خطابه". ص 307.

الدور المتغير للدين في الولايات المتحدة

مثَّلَ الاقتصادُ والدين أحد خطوط الصدع أو الانقسام الرئيسة في السلوك الحزبي والانتخابي في الولايات المتحدة. تداخل ذلك مع دور أو تأثير لاتجاهات المكوّنات العرقية والمناطقية، إذ أن السلوك التصويتي وتفضيلات الناخبين تختلف في الجنوب عنها في الشمال، كما يختلف تصويت الإنجيليين البيض عن الإنجيليين السود، ص347. 

يلاحظ الكتاب بروز نوع من الانقسام ضمن ظاهرة التديّن، ويضع المتدينين المحافظين مقابل المتدينين الليبراليين والوسطيين (وغير المتدينين أو غير المؤمنين)، وهو انقسام فرعي وليس أساسياً داخل الظاهرة الدينية، ولم يحل محل "الانقسام الطائفي"، بل غالباً ما يمارس تأثيره داخل دوائر الحزبين الرئيسين وفي الانتخابات التمهيدية، ويدفع المرشحين المؤيَّدين من قبل تيارت وكتل ناخبة كبيرة للأخذ بالاعتبار اتجاهات هؤلاء.

ويلاحظ الكتاب أن كلا الحزبين في أميركا أبدى "علامات على السير باتجاه راديكالي"، إذ يعمّق الجمهوريون ولاءهم للقيم الدينية وموقفهم "المحافظ" الديني التوجه، فيما يعمّق الديمقراطيون علمانيتهم وينأون بأنفسهم عن الطوائف الدينية. ص 348. 

الإسلام والديمقراطية: الحالة التونسية

يرى الكاتب أن تونس "هي الحالة الوحيدة الناجحة للإصلاح الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد الربيع العربي". ص 360. في حين أن معظم دول المنطقة "غير ديمقراطية". ويطرح الكتاب سؤالاً يتردد في الخطاب السياسي والإعلامي الخ حول العالم، وهو: هل الإسلام يتوافق مع الديمقراطية؟ 

يستعرض الكتاب إجابات إطارية وتقديرات شبه مستقرة في الدراسات حول الموضوع، وخاصة رأي برنارد لويس، الذي لا يرى أي إمكانية للتوافق، ويعرض في المقابل وجهات نظر ومقاربات جديدة حول الموضوع، تعتمد على المعطيات الرقمية والإحصائية والمقاربات الانثروبولوجية والسوسيولوجية الخ، التي تقول: إن الديمقراطية ممكنة في المجال الإسلامي. ص365.  

تمثل حركة النهضة في تونس مثالاً لـ"تكيُّف" حركة دينية إسلامية مع إكراهات السياسة، وهو "تكيُّف" حركي وفيه جرأة، لكنه محل شك وعدم ثقة من قبل أطراف وفواعل عديدة. وكان سلوك الحركة بعد ثورة تونس عام 2010، مهماً في إدراك حدود التطلعات الدينية في السياسة، وهذه ظاهرة عميقة في تطور الحركة المذكورة، المستمر منذ حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. 

يقول الكتاب إن حركة النهضة تمثل "دعامة لاستقرار النظام السياسي الديمقراطي" في تونس، ولو أن الوضع مقلق، مع "تزايد التفتت السياسي وتدني نفوذ الأحزاب السياسية الوطنية". ص 380. وقد تمثل حركة النهضة استثناء عربياً وإسلاموياً، إلا أن المزيد من التدقيق في ظروف البلد وتطوراته، يساعد في تفسير "اللغز التونسي" من جهة، وتقصي إمكان أو احتمال نجاح تجربة "التكيُّف" في بلدان عربية وإسلامية أخرى. 

أقنعة الدين السياسية

يمثل الدين أحد الأبعاد المهمة في ثقافات وهويات ومدارك الناس، سواء أكانوا متدينين أم غير متدينين، وهذا يتجاوز الانقسام الديني-العلماني، للقول بأن الدين حاضر بكيفيات مختلفة لدى مختلف الفواعل من أحزاب وتنظيمات أو جماعات أو أفراد. 

ويتحدث الكتاب عن أن الدين أصبح "قناعاً للفاعلين السياسيين وليس وجهاً لهم"، على افتراض وجود من يمثل الدين وجهاً له بالفعل. ص 389.

وبالتالي لم يعد الدين، بما هو ممارسة أو نظام عقدي وإيماني مهماً، وإنما بما هو "سمة للهوية في سياق هوية شعبوية يمينية تقوم على رؤية مجتمعية-تقليدية للعالم". ص 410. وهكذا يَقبل الناس بوجود قادة سياسيين "يوظفون القيم والرموز الدينية في المجال السياسي، مع عدم اشتهارهم هم أنفسهم بالالتزام الشخصي بها أو حتى تبنيهم نمط حياة يتعارض صراحة مع المرتكزات الأساسية لأديانهم.

إن استخدام الكاتب لتعبير "الحزب الديني التوجه"، هو من أجل تفادي التعميمات القطعية حول الأحزاب والأحزاب الدينية، وخاصة مع تنامي البعد الديني في الظاهرة الحزبية والسياسية عامة، ولدى مختلف الأحزاب والبرامج السياسية. 

ويخلص الكاتب للقول إن ذلك يؤكد فكرة "تعدد المشارب في الديانة والواحدة، ... وعدم صحة أي فكرة جوهرانية عن وجود دور سياسي حتمي لأي ديانة ما وموقفها من الديمقراطية وحقوق الإنسان". ص 411.

يلاحظ الكاتب وجود تغيّر في موقف الأحزاب الدينية من العلمانية، انطلاقاً من قيم يمينية أو شعبوية، وليس إيمانية بالضرورة، "ففي حين يدافع هؤلاء عن الرموز والقيم "الدينية"، قد لا يلتزمون بالتقوى والتديّن في سلوكهم الحياتي بالضرورة، بل لا يتورعون عن النقد اللاذع للمؤسسات الدينية التي لا تنحاز إلى مواقفهم". ص 412.

وفي الختام

يقدم الكتاب مقاربة مركبة للظاهرة الدينية، تتجاوز المدارك النمطية الرائجة في المنطقة العربية والشرق الأوسط عن الموضوع، من خلال تبني أطر تحليل ومقاربات أقرب عهداً وأكثر راهنية في دراسة الموضوع، وبالطبع أكثر جرأة ولا نمطية، إن أمكن التعبير، بما يتجاوز فكرة العلمانية والحداثة، إلى أفكار ما بعد العلمانية، إن أمكن التعبير أيضاً، بما يساعد في تقصي ظواهر هجينة ولا متوقعة في التداخل أو التماهي بين الديني والسياسي في العالم اليوم.

تمكن الكتاب من كسر النمط في قراءة الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية، وتقديم خريطة مركزة لتحولات الدين والسياسة في عدد من دول العالم، بما يمكن أن يساعد القارئ في فهم أعمق للواقع، والكشف عن "أقنعة الدين والسياسة" التي أجهدت مجتمعاتنا ودولنا وإقليمنا، بالكثير من الاستقطاب و"المذهبة" و"الطائفية"، في نوع من التزييف لطبيعة المشكلات والصراعات في المنطقة العربية والشرق الأوسط. 

الكتاب: أقنعة الدين السياسية: الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة

الكاتب: لوقا أوزانو 

ترجمة: السيد عمر، مراجعة: إسلام أحمد

المكان والناشر: بيروت: مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022، 418 صفحة.