السجود الأخير للبيت الكبير

أشعر بأن البيوت كالبشر، لها ماضٍ ومستقبل. لها أحاسيس ومشاعر مثلنا تماماً. تكبر وتصغر. وكذلك كان بيتنا الكبير. ظل شامخاً حتى النهاية. خاض الحرب معنا جنباً إلى جنب.

اعتادت عيوننا مناظر الدمار، كأنها قسمة أبصارنا ونصيبها وما خلقت له. أينما نتلفت فإننا نرى ما أحدثته رياح الموت العاصفة التي لا ترحم. 
كان الطريق طويلاً ومتعثراً، كأنه ليس هو الطريق ذاته الذي كنت أذرعه رواحاً وذهاباً من بيتي إلى عملي. هو ذاته الطريق لكن بحلة مهترئة، مشوهة المعالم وبغيضة الأوصاف!

مررنا في غزة لكن ما عرفناها! أنكرتنا وأنكرناها بعد زمن طويل من الألفة والود. كنت مشتاقة إلى الشمال كثيراً، وفي حاجة إلى تنفس عبق الليمون والبرتقال. كنت مشتاقة إلى تلك الوجوه التي لوحتها أشعة الشمس في الحقول فكستها من شعاعها لون الذهب. 

كنت تواقة إلى تلك العيون اللامعة المتقدة حماسةً وكداً، وفي الطريق وفي ظل بحر هائم من الأفكار، نسيت أن البيت الكبير دُمِّر. ليس البيت الذي عشت فيه مؤخراً، لكنه بيتي الذي وُلدت فيه وحظيت فيه بحب ليس له حدود، من جدتي وأبي وأمي وأعمامي. 

هو البيت الذي نَمَت فيه طفولتي على أصوات جدي وهو يصلح بين العائلات ويُنهي خلافات دموية بكلمة واحدة.  هو البيت الذي كان يضم حوشنا الكبير جداً، حين كان عامراً بالضيوف من علية القوم، يتوافدون على جدي في العصاري ليتذوقوا قهوته المشهورة، وينعموا بطيب كلام البطش وحديثه. 

كنت طفلة صغيرة لا تدرك قيمة تلك الصور البهية العالية التي حفرت في قلبي إلى الأبد. أذكر أن جدي كان يحبني جداً إلى درجة أن الغيرة مني كانت قدري منذ الصغر. كنا عائلة ممتدة يتعدى أفرادها 50 شخصاً، في أقل تقدير، ونقطن في هذا المكان، بيوتاً متجاورة، تتحلق حول ساحة كبيرة عامرة بالخيرات، كأنها فرقة صوفية تدور حول شيخها. كانت البيوت بسيطة لكنها واسعة جداً، أو ربما هكذا كنت أراها بعينيّ الصغيرتين. 

لم تكن كبيوت اليوم مغلقة بمئة قفل. كانت مشرعة الأبواب دوماً، حتى إنك تنسى أن لها أبواباً!

كانت الحقول تحيط بنا، وأذكر أن هناك أرضاً كنا نسميها "الكروم"، مخصصة لزراعة الدخان الذي كان يزرعه جدي ويحصده بيديه. كانت كالأرض الحرام لا يدخلها أحد من الصغار. أما ما دون ذلك من حقول الفواكة والحمضيات وبركسات الأبقار والأغنام والطيور فكانت مشاعاً لنا نتبوأ منها حيث نشاء! 

ومرت السنون سريعاً ورحل الكبار وشب الصغار وجرفت الأراضي المحيطةً بالبيت الكبير، وبُدِّلت ببيوت أكثر تمدناً وراحة، لكنها أضيق نفَساً وأقل بركة. 

انتقل الجميع إلى خارج البيت الكبير. هذا سافر وذاك اغترب. ذاك بنى وذاك باع، وبقي البيت الكبير وحوشه الأثير كما هو.  ظل يحتضننا، إذ لا يكون العيد عيداً من دون أن نجتمع فيه، ولا يكون العرس عرساً إلا إذا سمرنا فيه لياليه. وها هو اليوم نراه جثة هامدة.  أتراه ارتاح كما يرتاح من يرحل؟ 

أشعر بأن البيوت كالبشر، لها ماضٍ ومستقبل. لها أحاسيس ومشاعر مثلنا تماماً. تكبر وتصغر. وكذلك كان بيتنا الكبير. ظل شامخاً حتى النهاية. خاض الحرب معنا جنباً إلى جنب. لم يبخل علينا بالسكن والسكينة حين دمرت كل بيوتنا بالغة الرفاهية. لم يغلق أبوابه على الرغم من هجرنا له أعواماً طويلة. ظل لنا حصناً وبقينا به أغنياء عن كل البشر! 

لكنه الآن ركام. لو تأملت صورته لشعرت كأنه شيخ طاعن في السن يسجد سجدته الأخيرة. هكذا خُيِّل إلي عندما رأيته. رأيت جدي ساجداً بعمامته البيضاء وطاقيته الخضراء المشبكة وجبته الرمادية البهية ساجداً سجوداً طويلاً، كأنه أنهى ما وجب عليه إنهاؤه في عالم الحس، وعليه الرحيل إلى دار القرار. 

حزنت كثيراً، بل انفطر قلبي عندما رأيت البيت الكبير كومة من الأحجار مشوهة المعالم. لكن ما هوّن عليّ حزني أنني رأيته يسجد سجوده الأخير!

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.