"الظهر إلى الجدار" أو ما يموت فينا ونحن أحياء

بعد مجموعة من الأفلام القصيرة، ما زالت ظلال الحرب تخيّم على أعمال المخرج السوري أوس محمد، وآخرها فيلم "الظهر إلى الجدار". كيف يظهر الفيلم أثر الحرب في السوريين؟

  • لقطة من فيلم "الظهر إلى الجدار"

بعد مجموعة من الأفلام الروائية القصيرة التي كتبها وأخرجها السوري أوس محمد، وجميعها تدور في فلك الحرب السورية ويومياتها وتفاصيل عيش البشر فيها مثل "سراب" (2016)، "يوم من 365 يوم" (2017)، "88 خطوة" (2018)، والوثائقي "معلولا.. قصة الحجر الحي" (2012)، تبقى ظلال الحرب مُخيِّمة على فيلمه "الظهر إلى الجدار" أولى تجاربه في الأفلام الروائية الطويلة، والذي شهد الخميس 23 حزيران/يونيو 2022 عرضه الخاص في "سينما كندي دمر"، وهو من إنتاج "المؤسسة العامة للسينما" في سوريا.

لا تحضر الحرب ضمن الشريط السينمائي الذي استمر قرابة الساعتين بشكل مباشر، لكن من خلال تأثيرها في مصائر الشخصيات، وضياعها، ومحاولتها مداورة حيواتها لتحصل على نوع من الاستقرار النفسي، والأهم عبر مواجهة اللا معقولية التي تُغلِّف تفاصيل عيشها ماضياً وحاضراً، وكأن الفيلم ما هو إلا محاولة لرتق الذاكرة، وإكمال القطع الناقصة في تركيبة الحياة السورية.

هذا ما نراه من خلال قصة قصي سليم (أحمد الأحمد) الدكتور المحاضر في كلية الإعلام، والمهتم بالتحقيقات الاستقصائية، والباحث عن الأزمات التي يعيشها الإعلام السوري، ليجد نفسه مُضطراً للبحث عن خيوط قضية تمسُّه شخصياً، ولها علاقة بصديق طفولته ليث خليل (عبد المنعم عمايري)، بعدما أخبره الطبيب النفسي زاهر عبد الحميد (علي صطوف) أنه نزيل مستشفى الأمراض العقلية.

يبدأ قصي تَّحرِّي ماضي صديقه منذ انقطعت أخبارهما عن بعض عام 2002، وبقدر ما كانت تتكشف الحقائق، وتتجمع خيوط القصة وتكتمل شيئاً فشيئاً، كانت الصورة تتوضَّح عن عبثية الوجود السوري عموماً، خلال الحرب، التي ما زالت مستعرة. إذ بعد العثور على ليث مُصاباً ومنهكاً من قبل إحدى دوريات الحرس في منطقة الضمير الصحراوية، ونقله إلى مستشفى الأمراض العقلية لمعاناته من اضطراب يجعله يظن نفسه الشاعر الراحل محمد الماغوط، فإن صورة تجمعه مع قصي سليم كانت بداية حلّ لغز وجوده وجنونه معاً.

فقد استطاع الدكتور في الإعلام الاستقصائي شيئاً فشيئاً تجميع عناصر الصورة كاملةً، ليكتشف أن صديقه انتقل للعيش في عدرا العمالية بعد أن كان جاراً له في منطقة التجارة، وأنه في عام 2013، تم تقطيع أوصال أطفاله وقتل عائلته وحرقها أمام عينيه من قبل الجماعات المسلحة.

لكن هذه الحكاية التي يسمعنا إياها جار ليث (جسّده أكثم حمادة) من دون أي مادة فيلمية تُصوِّر تلك الفظاعة، أضعف السَّرد البصري، وخلخل إيقاعه، بعدما تسرَّب الملل إلى ثناياه. ثم، استطاع المفجوع الذي راقب المشهد من حديقة قريبة، أن يهرب عبر الصحراء بطريقة غير معروفة، والسير لمسافة 60 كيلو متراً، لمدة تقارب الأسبوعين، حتى وصل إلى نقطة الحرس تلك، أي أن الصدمة النفسية التي تعرض لها جعلته هائماً.

ولكونه عاشقاً للأدب، وخاصةً أدب الماغوط، تقمص شخصيته، وكرِّر عباراته التي حفظها عن ظهر قلب، ومنها: "إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى.. الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء"، لتكون هذه العبارة محوراً أساسياً بنى عليه المخرج أوس محمد فيلمه، ودواخل شخصياته.

نجح أوس محمد أن يجعل من الكاميرا مُتفحِّصة للنفس البشرية. تلتقط عُمق الملامح في الوجوه، وتستقرئ تفاصيل المكان. وبقدر اهتمامها بالظاهر، فإنها تُحلِّل وتُرَكِّب سيمياء الواقع المأزوم. من ذلك علاقة قصي بصديقته ريما (لين غرة)، الفنانة التشكيلية الجريئة والمتحررة من عقد المجتمع التقليدي، ولقاءاتهما المستمرة بما تتضمنه من جدل عن عُري الجسد ومرادفاته من العُري المادي والمعيشي والنَّفسي والخدمي الذي يعيشه السوريون، وأيضاً عن التفاوت الطبقي والالتزام الأخلاقي وقبول الآخر المختلف.

وأيضاً عبر علاقة دكتور الإعلام المصلحية بصديقه النقيب (الفرزدق ديوب) الذي يُقدِّم له معلومات ووثائق تفيده في تحقيقاته الاستقصائية، في مقابل وعود بأن يعرِّفه على فتيات جميلات، وغير ذلك مما يُفسِّر لنا برود قصي الظاهر، وانفعاله الداخلي المستعر دائماً، وهو ما ظهر خلال لقاءاته مع الطبيب النفسي، وفي ما تضمنه الحوار بينهما من صد ورد لا منطقيين، انتقل لاحقاً  إلى مجابهة، خاصةً بعد نجاح قصي بإقناع ليث بالهرب معه عبر سور المستشفى، بعدما ألهت ريما الممرضين بمساعدتها لنقل منحوتة محمد الماغوط التي أرادت إهداءها لمريضهم.

هنا، نكتشف أن انقطاع العلاقة بين الصديقين القديمة كان ناجماً عن رفض ليث لعلاقة الحب التي نسجت بين قصي وأخته، وأن هروبه من واقعه وتقمصه لشخصية الماغوط لما يزيد على 6 سنوات، ليس سوى حبل نجاته الوحيد، والجدار الذي يتكئ عليه أثناء تعبه، لكنه في الوقت ذاته كان مقتله، بعدما حطَّم عدنان، أحد المرضى النفسيين، تمثال الماغوط على رأسه وهو نائم، بسبب غيرته من اهتمام كادر المستشفى المُبالغ فيه، قبل أن نجد قصي في مشهد ختامي باذخ يُعدِّل الكرسي المرمي على الأرض في غرفة صديقه المتوفى، ويجلس في مواجهة الكاميرا، وكأنه يتطلع إلى رأيهم بجدوى الجنون وإمكانيته.

لقطات مدروسة بعناية وزوايا أخَّاذة استطاعت كاميرا المخرج أوس تحقيقها، مع إدارة تصوير مميزة لناصر ركا، جعلت من الممثلين يتحرَّكون بثقة أمامها، خاصةً في ظل تبنِّيهم الجميل لشخصياتهم، وجاءت موسيقى إياد حنا متناغمة مع دراما كل مشهد، ومشدودة إلى عمق إيقاع كل منها. كل ذلك جعلنا نشعر أننا أمام شريط سينمائي مشغول بعناية، وواضح التأثر بانشغالات السينما السوفياتية، التي خبرها أوس محمد في دراسته الأكاديمية، لنكون أمام تتويج لمعرفته بها في خطوته الاحترافية الأولى على صعيد الفيلم الروائي الطويل.