العلاقة بين الدين والسياسة في "إسرائيل"

كان قيام "إسرائيل" فكراً سياسياً لم يكن للدين فيه دخل إلا كستار خارجي فلم يشر مؤتمر بازل للدين اليهودي، مما يؤكد غلبة الطابع السياسي على الديني في الفكر الصهيوني.

  • جدلية العلاقة بين الدين والسياسة في
    جدلية العلاقة بين الدين والسياسة في "إسرائيل" وأثرها على اتجاهات التسوية

"دولة إسرائيل" مختلفة عن العالم في كلّ شيء، هي علمانية بصبغة دينية أو دينية بقشرة علمانية، يهودية تدّعي الديمقراطية التي تختلف عن كلّ ديمقراطيات العالم التي نبذت الدين حين تبنّت الديمقراطية، قومية تستمدّ قوميّتها من الدين والدين لديها مؤثّر في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والحياة اليومية، إنها لوحة بانورامية ذات ألوان متباينة متعارضة في كل شيء، تماماً كنشوئها ودورها الوظيفي الذي أنشئت من أجله حين صنعها الاستعمار كرأس حربة له في المنطقة العربية.

موضوع هذه "الدولة" والبحث فيها كان موضوعاً أكاديمياً مثلما كان صراعاً سياسياً وفكرياً وعسكرياً؛ تناول باحثون عرب كثيرون كنه هذه "الدولة" التي تقودها نخب سياسية، تستند إلى الدين حين تشاء، وتتركه حين تشاء؛ لكن دينها وديدنها الحقّ هو العنصرية والاحتلال والغطرسة والاستعلاء على شعوب العالم كافة.

في دراسة أكاديمية صدرت عن مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان بعنوان "جدلية العلاقة بين الدين والسياسة في إسرائيل وأثرها على اتجاهات التسوية" للباحث يحيى أبو عودة هدفت إلى الوقوف على الأبعاد الدينية والفكرية في الفكر اليهودي وانعكاساتها على الحياة السياسية عامة، والعملية السياسية خاصة. جاء الكتاب في 334 صفحة تشمل الملاحق والهوامش التي تعطي الدراسة دقة وشمولية إلى حد بعيد.

بدأ الجدل بين الدين والسياسة حين ظهر الفكر الصهيوني السياسي؛ فهناك الفريق العلماني الذي رأى أن "الدولة" المقبلة يجب أن تكون امتداداً لأوروبا وحضارتها، وفريق آخر رأى أن "الدولة" المنشودة ستكون وطناً يهودياً خالصاً. وقد حسم الأمر في النهاية للعلمانيّين، ولا يزال الجدل والشد والجذب قائماً بين الطرفين حتى اليوم.

جاء الكتاب في خمسة فصول: الأول بعنوان جدلية العلاقة بين المسألة اليهودية وظهور الصهيونية، الثاني حول الصراع الديني العلماني قبل وبعد إعلان "الدولة"، الثالث بعنوان دور الأحزاب والمؤسسات الدينية في السياسة والمجتمع الإسرائيلي، الرابع بعنوان "أزمة الهوية الإسرائيلية" ومكوّناتها، أما الفصل الخامس والأخير فكان بعنوان "السيناريوهات المحتملة لطبيعة المجتمع الإسرائيلي وتداعياتها على عملية التسوية".

في الفصل الأول يقول الباحث إن اليهودية هي ديانة مغلقة وغير تبشيرية، فأتباعها جنس وعرق مميّز بحسب التوراة، وجذور التميّز والاصطفاء تعود إلى عصر "يهوه" الذي كان في البداية إلهاً قبلياً قبل أن يتحوّل بمرور الزمن إلى إله للكون بحسب تصوّر اليهود، ويقول إن فكرة النقاء والجنس المتميّز تطوّرت في عهد "نحميا" الذي أبعد الغرباء عن قبيلة "إسرائيل"، وحظر زواج اليهود من أفراد القبائل الأخرى.

تكرّس لدى اليهود الشعور الدائم بالملاحقة والاضطهاد بما يسمّى "عقدة مسادا" التي تتحدّث عن ملاحقة اليهود بعد تحميلهم مسؤولية قتل المسيح واضطهادهم في أوروبا وإسبانيا وألمانيا النازية. تلك العقدة توحي وكأنّ هناك أمّة أو شعباً يهودياً تقاسم ثقافة وهموماً مشتركة منذ عهد موسى، وأن هناك مشكلة واجهت اليهود هي اضطهادهم من قبل الأغيار، مع أن اليهود قد عاشوا في البلاد العربية والإسلامية من دون اضطهاد.

كانت كتب اليهود المقدّسة هي الداعية لنقاء اليهود، كالتوراة والتلمود. فالتلمود هو أخطر وثيقة ضد الإنسان والإنسانية بحسب الباحث، فهو خرج من أوساط أغنياء اليهود ومالكي العبيد من أجل مصالحهم وعمّق عزلة اليهود، وقد برزت المشكلة اليهودية بوضوح مع بداية القرن الخامس عشر بفعل التطوّر الاقتصادي في أوروبا الغربية حيث نمت المدن ونشأت طبقة تجارية وصناعية محلية، بينما بقي وضعهم مزدهراً في أوروبا الشرقية. بموازاة النمو الاقتصادي كانت حركة التنوير الأوروبية التي تأثّر بها اليهود فشكّلوا حركة "الهسكلاه" ويعتبر موسى مندلسون فيلسوف الحركة التي دعت إلى أن يترك اليهود عزلتهم وأن يحطّموا الجيتو العقلي الداخلي. كان فشل حركة "الهسكلاه" وبروز أفكار الهيمنة الاستعمارية والتفوّق القومي والعنصري من الأسباب التي أدت إلى بلورة الفكرة الصهيونية.

لا يوجد تاريخ يهودي يمكن الرجوع إليه إلا التوراة، ومن يبحث في التوراة يجد أنه بالكاد توجد ديانة يهودية، وإن وجدت فهي غير توحيدية، بمعنى أن هناك أكثر من إله، أشهرهم "يهوه". ويردّ أن التوراة قد دوّنت خلال الأسر البابلي، وقد أورد عبد الوهاب المسيري أنه لا يمكن القول إن العقيدة اليهودية هي كلّ عضوي متماسك، بل هي تشبه التكوين الجيولوجي التراكمي. وقد أورد البعض أنها تأثّرت بالنصوص السومرية والبابلية، فهي ليست ديانة سماوية أو توحيدية.

ينقسم اليهود انقسامات عديدة إثنياً وعرقياً وفكرياً؛ فالجماعات اليهودية الإثنية منهم السامريون والفريسيون والقراؤون والصدوقيون والأسينيون والحسيديون والقبالة والغنوصيون والمارانو والدونمة وغيرهم. أما الجماعات اليهودية العرقية فمنهم الخزر والفلاشا ويهود الهند والصين والقوقاز وغيرهم، هذه التباينات العرقية والإثنية تنفي المفهوم الصهيوني للوحدة اليهودية العالمية وللعرق اليهودي الموحّد.  التيارات الفكرية في اليهودية خلال عصر النهضة الأوروبية، منها الإصلاحية والأرثوذكسية (الأصولية) واليهودية المحافظة التي هي تيار وسط بين الإصلاحية والأرثوذكسية.

العوامل التي هيّأت لظهور الفكر الصهيوني في القرن التاسع عشر منها الديني الذي يتناول الوعد الإلهي للنبي إبراهيم بتملّك الأرض لنسله، وممن تبنّى هذا القول قبل هيرتزل كلّ من الحاخامات موشيه بن نحمان، الحاخام يهودا القلعي، الحاخام زيفي هيرش كاليشر والحاخام أبراهام كوك، ومنهم أيضاً موسى هس وليوبنسكر. كما ساعد على ظهور الحركة الصهيونية تصاعد القوميات في أوروبا، وفشل اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها وما عرف بـ "معاداة السامية"، وتهافت الدول الاستعمارية على استعمار الدول العربية وفلسطين منها، مما مهّد لنقل الفكر الصهيوني من القول إلى التطبيق.

كان قيام "إسرائيل" فكراً سياسياً لم يكن للدين فيه دخل إلا كستار خارجي، ولم يشر مؤتمر بازل للدين اليهودي، مما يؤكد غلبة الطابع السياسي على الديني في الفكر الصهيوني، كما أن مؤسسي "الدولة" لم يكونوا يريدون إنشاء "دولة" قائمة على الشريعة اليهودية.

يمثّل يهودية "الدولة" موضوعاً إشكالياً إذا عرفنا أن اليهود غير موحّدين تجاه تأسيس "دولة" خاصة بهم، فمن اليهود المتدينين من يرفض قيام "الدولة" قبل مجيء المسيح. لكن دافيد بن غوريون أوّل رئيس وزراء لـ "إسرائيل" حدّد أسس العلاقة بين الدين والدولة الذي أدى إلى منح المتدينين امتيازات عديدة مما خفّف التوتر بينهم وبين العلمانيين. حركة "أغودات إسرائيل" التي كانت ترفض قيام "الدولة" وعادت الحركة الصهيونية، تراجعت عن موقفها مقابل امتيازات تمثّلت في احترام قدسية يوم السبت وما يسمّونه الطعام الحلال "الكشيروت"، وامتيازات في التعليم وقوانين الأحوال الشخصية في اتفاقية العام 1947. كما توجد جماعات دينية ترفض قيام "الدولة" من أساسه كجماعة "ناطوري كارتا" و"ساتمار" و"ليف تاهور".

ازدواجية الدين والسياسة في "إسرائيل" لم يجعل نظامها السياسي علمانياً، حيث هناك قوانين ذات بعد ديني كقانون الجنسية وقانون العودة وقوانين السبت والذبح والأعياد اليهودية والعنصرية تجاه غير اليهود في فلسطين. كما أن "إسرائيل" ليست ديمقراطية ولا ثيوقراطية، فهناك من يصفها بأنها "دولة" إثنوقراطية.

الصراع الديني العلماني ظهر قبل إنشاء "دولة" الاحتلال، تعاظم نفوذ الأحزاب الدينية بعد انتخابات عام 1977 وفوز حزب الليكود بزعامة مناحيم بيغن الذي بدأ يقوّض أسس الثقافة العلمانية، وجعل الصراع الديني العلماني لدى "إسرائيل" يأتي في المرتبة الأولى قبل الصراع مع العرب والفلسطينيين من ناحية مركزيّته.

الصراع الديني العلماني في "إسرائيل" مرّ بثلاث مراحل هي: مرحلة الدفاع الديني الحريدي خلال السنوات الأولى لتأسيس "الدولة"، مرحلة الهجوم الديني بعد حرب أكتوبر 1973، ثم المرحلة الثالثة والحالية وهي مرحلة الانعزال والفصل بين المجتمعين الديني والعلماني، وباستعراض آراء عدة علماء اجتماع "إسرائيليين" فإنهم يرون أن هناك احتمال نشوب حرب ثقافية بين الطرفين، وقد تتمزّق "دولتهم" كما حدث في العصور القديمة.

وباستعراض الحركات الدينية في "إسرائيل" يظهر أنها تقسم إلى نوعين الأول هو الصهيونية الدينية، وهم متدينون أيّدوا الحركة الصهيونية ويشاركون في مؤسساتها ويخدمون في "الجيش"، ومن الأمثلة عليه حزب المفدال، تامي، ميماد، غوش إيمونيم وكاخ. أما القسم الثاني فهم المتدينون الحريديم الذين يرفضون "الدولة" ويقولون إنها غير دينية، وهي أغودات يسرائيل، بوعالي أغودات يسرائيل، ديغل هتوراة، يهودوت هتوراة، شومري توراة سفارديم، حباد، ناطوري كارتا وغيرها.

في الفصل الثالث استعرض الباحث دور الأحزاب والمؤسسات الدينية لدى الاحتلال منذ إنشاء "الدولة" حتى نهاية العقد الأول من القرن العشرين، وبحث في صعود وهبوط دور الأحزاب الدينية وأسباب ذلك. أما في الفصل الرابع فتناول أزمة الهوية الإسرائيلية ومكوّناتها، ومشكلة تعريف من هو اليهودي من منظور قانوني وديني وعرقي، وتناول المجموعات الإثنية داخل "إسرائيل" والتي تتلخّص في اليهود الأشكناز الذين عاشوا في أوروبا الغربية وهم المؤسسون للحركة الصهيونية، وفي اليهود الشرقيين أو السفارديم، وهم بالأساس اليهود الذين عاشوا في إسبانيا والبرتغال، لكن مصطلح شرقي أصبحت تطلق على كلّ من لا ينتمون إلى الأصل الأشكنازي، الفريق الثالث هم اليهود الروس، ورابعاً يهود الفلاشا الإثيوبيون، وخامساً هناك الفلسطينيون سكان البلاد الأصليون.

عن تأثير الإثنية على السلام مع الفلسطينيين يقول الباحث إن ارتباط السلام مع العرب وإن الأشكناز هم دعاته، أدى إلى توجّه اليهود الشرقيين والروس نحو اليمين، أما الفلاشا فلا يكاد يسمع لهم رأي بهذا الخصوص لقلّة عددهم ودورهم على الساحة "الإسرائيلية".

الفصل الخامس تناول السيناريوهات المحتملة لطبيعة المجتمع "الإسرائيلي" وتداعياتها على عملية التسوية، حيث خلص الباحث إلى أن فشل مفاوضات "كامب ديفيد" عام 2000، وانتفاضة الأقصى وانتشار نظرية عدم وجود شريك فلسطيني بلور مجتمعاً إسرائيلياً يتجه نحو اليمين والتطرّف.

إن جولات المواجهات العسكرية بين الاحتلال وفصائل المقاومة المستمرة في غزة، إضافة إلى جولات مواجهة مع الاحتلال تخوضها تشكيلات عسكرية فلسطينية في الضفة الغربية، والأسباب الكثيرة التي يسردها كتاب "جدلية العلاقة بين الدين والسياسة في إسرائيل وأثرها على اتجاهات التسوية" جعلت "دولة" الاحتلال تمعن في الفاشية والتطرّف، وتخوض حرب إبادة مجرّدة من القوانين أو الأخلاق أو الإنسانية ضد الشعب الفلسطيني. وهذا عزّز القوى الراديكالية والعنصرية والفاشية، وأضعف ما كان يسمّى "معسكر السلام" حتى لا يكاد يسمع له صوت.