الكذب وعالم ما بعد الحقيقة

يتحث المؤلف عن مصطلح ما بعد الحقيقة مثل إشاعة وهم العلاقات الافتراضية حيث تعطي لكلّ شخص حجماً أكبر مما يستحقّ، وتكبر أسطورة الشخص البعيد ويجمّل بصفات عالية على الأغلب غير موجودة فيه.

  • كتاب
    كتاب "تاريخ الكذب" لـ خوان خاثينتو مونيوث رنخيل

انطلاقاً من مقولة لودفيغ فيورباخ "التظاهر جوهر العصر الحالي؛ سياستنا تظاهر؛ أخلاقنا تظاهر؛ وعلمنا تظاهر"، يتدرّج الكاتب في تقصّي تاريخ الكذب في المفاهيم والتاريخ والقناعات والأفكار بتوجيه خطابه إلى القارئ بأن يكون مستعداً لقبول حقائق جديدة، واعتبار كلّ ما تعلّمه وما قصّ عليه وحتى هويّته محض كذب وافتراء. ومن هذا المنطق يستهلّ كتابه بمقطع لفرناندو بيسوا وهو:

" الشعر مدّعٍ 

يدّعي بدرجة من الإتقان

تصل إلى ادعاء ماهية الألم 

الألم الذي يشعر به حقاً"

كتاب تاريخ الكذب من تأليف الإسباني "خوان خاثينتو مونيوث رنخيل" وترجمة "طه زياده" ومن إصدار دار الخان للنشر والتوزيع في الكويت، يرجع فيه الكاتب إلى أول الوجود ويفسّر كيف أنه حتى الطبيعة تكذب، مثل بعض الكائنات كالحرباء والحبار والتي لها خاصية التمويه وتغيير أشكالها وألوانها، وأيضاً فراشات الكاليجو التي تظهر كالبومة وتظهر على كل جناح عين محدقة، وكذلك قبوع الهرة ساكنة بلا حراك بانتظار الفريسة، أليس ذلك نوعاً من الخداع؟ ليعود ويستنتج أن الكذب بالطبيعة موجود وهو أسبق من ظهور اللغة. 

إذ يلجأ الإنسان إلى الكذب من أجل تطوير مدلولاته الرمزية في خلق تصوّر ذهني عن العالم كاستعارة بلاغية، ومن ثم تحوّلت الصورة إلى صوت ونشأ الكلام، وبعدها تطورت الأكاذيب مع تطوّر اللغة وصارت أكثر تعقيداً، وأنتجت الفنون والمعتقدات والعلوم وسائر أصناف الثقافة، ومع تطور وسائل الإنتاج والملكية برزت أنواع جديدة من تحايل الإنسان على أخيه الإنسان، ومنها تحايل الفرد على ذاته ليشعر بالانسجام والتوازن في حياته، وساد التبرير والتفسير والتوهّم وما اعتقاد البشر بالخلود عن طريق النسب بأن الأولاد امتداد لهم باعتبارهم كنسخ مكرّرة منهم كمن يعتقد بالسراب، وحتى اختراع الحقيقة كان أحد المفاهيم التي سجنتنا كما يرى الكاتب، وهو مفهوم فخ نصبه الجبناء لإبعاد الفرد عن الحياة وعن غرائزه الحيوية. 

ويورد كيف اشتغل الفيلسوف الفرنسي صاحب فلسفة الشك رينيه ديكارت على إخضاع مفهوم الحقيقة لكل اعتبارات الشك، ومع ذلك تبقى الحقائق الرياضية ثابتة لا مجال للشك فيها، مثلاً أضلاع المربّع أربعة وواحد زائد واحد اثنان، ومن هنا جاءت مقولته الشهيرة "أنا أفكّر إذاً أنا موجود". 

الواقع بوصفه تجربة محاكاة:

تعتبر محاكاة الواقع فكرة فلسفية أو جزءاً من الفلسفة، فمنذ القدم ظهرت نصوص الأوبانيشاد المقدّسة حيث مفهوم المايا هو الوهم، فالعالم الظاهري يقابله ثمة عالم آخر ضمني لا يظهر، وكذلك عندما فصّل أفلاطون عالم المثل عن الواقع. ويستعرض الكاتب نظرية الكهف فعندما تكون المؤثّرات حول الكائن محدودة فهو يبني ثقافته ورؤاه وقناعته بناء على ما يراه وليس على أمر آخر، وهناك نظرية جوانغ زي المعروفة بالديانة الطاوية عن جوانغ الذي رأى في حلمه أنه فراشة، ثم يأخذنا التداعي في الفانتازيا لعل الفراشة هي التي حلمت أنها جوانغ وهو موجود في حلم الفراشة، والإشكال القائم في أيهما موجود في حلم الآخر لأنّ كل شيء في الواقع له شبيه بالحكايات الخرافية فمن يقلّد من؟!

عندما يقول أحدهم لأليس أنها ليس لها وجود واقعي وإنما هي موجودة في حلم الملك وعندما يستيقظ تنطفأ مثل شمعة، وهذه الفكرة تتماهى مع ما قدّمه بورخيس في كتابه "كل شيء ولا شيء" الذي خصصه لشكسبير، حيث يعرض شكسبير مخاطباً الإله وهو على سرير الموت، "لقد كنت العديد من الرجال ولكني أريد شيئاً واحداً الآن أن أكون أنا فقط، فخاطبه الرب بصوت كالرعد، وأنا كذلك أنا لم أكن أنا لقد حلمت بالعالم مثلما حلمت أنت عزيزي شكسبير بأعمالك وكنت أنت موجوداً من أشكال حلمي وكنت مثل كثيرين ولا أحد".

فبورخيس الذي استخدم الرب موضوعاً وأداة سردية في العديد من النصوص مما هيّأ بعده لظهور أدب الخيال العلمي وبعض الفنون، مثل السينما ثلاثية الأبعاد ذات المشاهد الخارقة التي لو عاصرها أسلافنا لاعتبروها من قبيل المعجزات الماورائية. 

فالخيال كان الأكذوبة الكبرى التي تمتع بها الإنسان دوناً عن الكائنات الأخرى، تلك الإمكانية التي جعلتنا نتكيّف مع الظروف المحيطة إذ سمح الكذب بالخداع والمراوغة بالديمومة والتكيّف، فمنذ أن ظهر الإنسان أطلق عن طريق  الكذب التخمين والمقامرة بفرضية وجود العالم، ومن هنا نشأ التفكير السحري والخيالي حيث أسقطت أوهامنا وتخيّلاتنا من الأشباح والسراب على الواقع، لذا تمّ واستناداً إلى الحدس تأكيد وجود العالم، رغم أن الفرضيات اللاحقة أثبتت أن الواقع مخالف لمداركنا، إلا أننا ما زلنا نحتفظ  بالفكرة ذاتها لأنّ عقل الإنسان البدائي احتاج لاختيار سياق يفسّر ويدعم مغزى ونظام العالم، ومن هنا نشأ التفكير السحري والتفكير الأسطوري، حيث كبر شأن المشعوذين والمهرطقين وتم إضفاء القداسة على مروياتهم وطقوسهم. 

ويعتبر الكاتب أنه من هنا نشأت الديانات، فالأشجار بذرة الخصوبة الكونية لطالما اعتمدت عليها ديانات مثل البوذية والكونفوشسية، أيضاً الماء، فالإنسان كيفما نظر يختلق أطيافاً لوجوده وينسج رؤى دينية أرضية أو سماوية مثل السماء والنجوم والقمر، وكان فيها الدين أكثر تنظيماً واتساقاً من الشعوذة، فما أن استقرّ له الأمر حتى أعلنها حرباً شعواء على الهرطقة والشعوذة، وخاصة عندما كانت السلطة رديفاً لوجوده. 

إذ اعتبر الكاتب أن "الديانة" فرضت عقيدتها على الغرب بإقحامها عدداً من الأكاذيب المستحدثة "فكرة الخطيئة –فكرة الذنب"، واستخدام الثواب والعقاب وخلود الروح من دون أي إثبات ليبحث بعدها في وجود الإله، وهل هو وجود مثالي، ويستشهد بفلسفة فيورباخ بأن الإله لم يخلق الإنسان على صورته بل إن الإنسان هو من خلق الإله باستقراء صفاته الخاصة عن طريق الخيال، ويرجع إلى تاريخ صراع الكنيسة والسلطة بمفهوم بيت الرب كيف يكون بيتاً للرب بيت صنعه الإنسان، وحتى أن فكرة القيامة موجودة سابقاً مثل قيامة أوزبريس بمصر، وبعل في كنعان، وكذلك قيامة تموز وأدونيس.

فكنيسة الفاتيكان قالت لا تطمع بما لدى غيرك، وأحاطت نفسها بالأموال والذهب والمجوهرات، وقالت لا تقتل، وشنّت الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، وقالت لا تكذب واختلقت الحقيقة، فمنذ البدء حتم على المرء تزييف الواقع في عقله وهكذا تتأسس الأنشطة اللاحقة عبر التدليس، فمجرد أن يتحوّل التفكير الأسطوري إلى ديانة ويجد له جمعاً من الاتباع حتى تجد لها استمراراً ما، فيصير تخزين أي جزء من رفات مقدّس ما قضية إيمانية للتبارك بها، وما تلبث  أن تتحوّل  إلى صفة تجارية، مثل فرض استخدام الزيت المقدّس على مراسم الطقوس الدينية، وكذلك كان لنشاط بعض التنظيمات الدينية مثل فرسان المعبد، فغايتها بالبدء إخفاء الرفات المقدّس ثم أصبحت تجارة يعتاشون عليها بعد ذلك. 

أيضاً يفنّد في الكتاب  أكاذيب الإلحاد في الكذب الذي يمارسه الملحد في تأكيد عدم وجود الخالق، لأن هذا الأمر مجرد افتراض أو تخمين يتشابه في ذلك وجود الملائكة ومدينة الأقزام وخلود الروح ووجود قارة أطلنتس، وكلها جزء من ثقافتنا وموروثنا وبانتظار إثباتها  أو دحضها، لأن الإنسان يتمتع بالقدرة على صياغة الأوهام- المعرفة – التماسك – التعايش، ولذلك اعتبر الكذب ضرورياً من أجل التعايش مع الآخر وقبوله، ولو أن كل شخص وضح آراءه الحقيقية بالآخرين لولّد التنافر إلى حد القطيعة والاقتتال، فالحاجة إلى التجمّع والاتحاد تسوق الفرد إلى التغاضي عن مكنوناته لأجل الوحدة مع الآخرين، ومن هنا كان الانتماء لعشيرة أو تجمّع ما أو قومية، أو ما يسمّى تقنين الخداع من أجل أن نبرز بأحسن صورة عند الآخر. 

إذ يقول ميكافيللي: "سوف يرى الجميع ما تبدو عليه، ولكن القلة سيدركون حقيقتك".

ففي التجارة والاقتصاد كانت أول إجراءات المقايضة قد أجريت بين جماعات متشاحنة، وخاصة عندما أصبح فائض الإنتاج ملحوظاً ونتيجة الخداع والغبن الذي سيلحق بطرف ما، مما هيّأ لوجود النقود للتبادل، ومن هنا كبرت أرباح التجار والوسطاء ما بين السلعة والمستخدم وبقي الخاسر الأكبر منتج السلعة نتيجة تواطؤ من يخترعون القوانين، والسياسة أساسها الكذب بالوعود والانتخابات والخطط المستقبلية المزمع إنشاؤها، وحشد كل شيء لإنجاح هدف ما في السياسة العامة من خلال اللعب على نقاط الضعف البشرية في التلاعب بمعتقدات الناس.

ففي سياسة إنكلترا البرلمانية ثلاثة أنواع للكذب، الكذب المفتري وهو تشويه سمعة شخص؛ والكذب المبالغ فيه مثل إضفاء سمات مبالغ فيها للشخصية السياسية لتلميعها؛ وكذب الادعاء في منح خصلة فعل حميد أو نزع خصلة فعل ذميم عن شخص ونسبه إلى آخر. 

والدول الشمولية تحاول من خلال الكذب الممارس من قبلها السيطرة على كل شيء، السياسة والإعلام الموجّه والثقافة ومصادرة الحريات لدى الأفراد. 

الفن بوصفة أداة للكذب:

أكد أرسطو في كتابه تاريخ الشعر أن الفن بمجمله نوع من التقليد أو المحاكاة، ولكنّ الفنان الذي يسرق عمل غيره أو يقلّده أو يسخّر موهبته لخدمة نظام سياسي، فهو يستنسخ الواقع والذي كان بمثابة شرك للفنانين، فالفن في كل ثقافة يتوقّف على مفهومها للجمال، فالتكعيبية خالفت المفهوم الكلاسيكي للجمال، وجاءت الدادائية لتحطيم فلسفة المنطق، ورغم التحرّر من القواعد كانت كل جماعة جديدة تحتاج إلى كيان جديد يؤكد وجودها بقيم وقواعد جديدة، أي جماعة فنية جديدة تعتمد على هذا النحو أو ذاك، لذا نرى فنان ما بعد الحداثة يبني مجازاً فوق المجاز من خلال إعادة تصوير الواقع مجازياً عن طريق القفزة المجازية الجديدة. 

كما تبرز في الأدب تقنيات الانتحال – التقليد - الاقتباس – الكولاج - المرايا، وكلّها أساليب جديدة في المراوغة، والعلم أيضاً كاذب مخادع فمن خلال عبارة شائعة أن نقول عن أمر ما أنه "مثبت علمياً" حتى ترفع الأقلام وتغلق الصحف. 

ففي التوقيت الدقيق لاكتشاف علمي ما نلاحظ عدداً لا حصر له من المكتشفين الجزئيين والنظريات المتقاطعة في مراحل العلم غير الناضجة، إلى أن يثبت الاكتشاف الناجح ويهمل ما عداه رغم أنه ستنشأ مشاكل جمة عن حالة الشواذ التي بقيت من دون حلول، وتبرز دائماً إلى العلن كمشكلات عالقة، وخاصة الربط بين العلم والقوى السياسية والاقتصادية، فالعلم يموّل من جهات اقتصادية لها أهداف معينة، فأحياناً يجري تجاهل حقائق علمية مؤكَّدة إذا كانت لا تخدم مصالح المموّلين "شركات الدواء مثلاً".

ويأتي عصر المعلومات واقتفاء الأثر وكله يعتمد على اختراع أكاذيب جديدة وخاصة مصطلح ما بعد الحقيقة، فعصر المعلومات هو عصر التضليل كذلك، إذ لكلّ فكرة نقيضها  فمحرّك البحث يستطيع تقفّي أثر كل حجة وإثباتها وبالمقابل عرض وإثبات نقيضها، إضافة إلى إشاعة وهم العلاقات الافتراضية حيث تعطي لكلّ شخص حجماً أكبر مما يستحقّ، وتكبر أسطورة الشخص البعيد ويجمّل بصفات عالية على الأغلب غير موجودة فيه، لأن الإنسان يعشق الوهم ويعتاش عليه، مما يدمّر الحياة الواقعية والأسرية وتنشأ عنها مشاكل أخرى "الخيانة – الانفصال – الطلاق".

وتنشأ مغالطة كبيرة أن السواد الأعظم من البشرية ينتمي للعالم الحرّ، علماً أنّ من يستخدمون الإنترنت هم ثلاثة مليارات وخمسمئة مليون من أصل سبعة مليارات و400 مليون. 

أكاذيب الحب:

عندما يشعر المرء بعاطفة ما تتحرّك تجاه شريك ما، مثلاً الذكر تجاه الأنثى أو العكس، نقول إن الأمر محض كذب، ذلك يفسّره الكاتب بأنّ الذاكرة والخلايا والهرمونات تعمل كلها مجتمعة ليتجه هذا الإحساس تجاه من يتفق وينسجم مع ذاكرة خزّنت طويلاً سلالم أولوياتها وتفضيلاتها ومصالحها كذلك. 

قد يكون الضعف البشري هو ما يفسّر بقاء شعارات مثل الحقيقة – لموضوعية – الوضوح – العقلانية – الأمانة العلمية رائجاً لحاجة الفرد إلى الاطمئنان والشعور بالأمان، فما أن يطل الموت في الأيام الأخيرة للإنسان حتى ترافقه الكآبة والإحباط نتيجة الفرص التي ضيّعها، واكتشافه أنه كان عرضة لأكاذيب حالت بين أن يختار ما يريد، وبعد الموت من يتذكّر من؟! 

لن يمنع موت أحد من استمرار الآخرين بالحياة، ولن يمنعهم من الأكل والشرب وممارسة سائر النشاطات الأخرى، لأنه بالمجمل الأهمية الكبرى للجنس البشري وأسلوب استمراره أكثر منها للفرد بشكل خاص.