"الوطن" العاملي: أسماء متعدّدة وهوية واحدة (1)

كيف اتخذ جبل عامل اسمه؟ وما خصوصيته الاجتماعية والسياسية قبل قيام دولة لبنان الكبير وبعده؟

تختزل عبارة "الوطن" العاملي المجال الجغرافي للمكان الذي اختارته ذريّة "عاملة" وطناً للسكن والمعاش، أي حيث استوطن العامليون بما هم إجتماع أهلي ملتئم حول عناصر تكوينه في وحدة النسب واللغة، وفي ما بعد، العقيدة والمذهب. 

وتؤشر عبارة "إجتماع أهلي" إلى افتقاد عبارة "الوطن" العاملي لكل دلالة سياسية من أي نوع: دولة خاصة، إمارة، إدارة ذاتية، إلخ... وبمعنى آخر، فإن "الوطن" العاملي لا يلغي حقيقة إرتباطه العضوي بدولة مركزية، بقدر ما يشير إلى خصائص إجتماع أهلي بما هو جزء من دولة أكثر مما هو كيان سياسي ناجز. 

وتستهدف هذه الملاحظة التمهيدية إزالة كل إلتباس قد تسقطه مفردة "وطن" عاملي على هويّة أهله الوطنية – بالمعنى اللبناني – ومثلها على واقعية إعتباره جزءاً من الدولة – الدول التي حكمته على امتداد تاريخه. وبالتالي، لم يكن جبل عامل – موطن العامليين ومحل سكناهم ومعاشهم – كياناً سياسياً خاصاً ومنفصلاً عن تلك الدولة/الدول وإنما تميّز بخصوصية علاقتها به: ففي مقابل إصراره على انتمائه إلى دولة مركزية تحميه وترعاه وتحفظ أرواح أهله والأرزاق، كانت الدولة المركزية تتعامل معه كغنيمة، أو كمجال مفتوح لكل أنواع التسلط والإستبداد أو كمصدر للضرائب والثروات أو كقطعة أرض معروضة للمزاد بين الولاة والأمراء حيناً، وبين الدول الأوروبية حيناً آخر، وفي نهاية المطاف، كأرض مستباحة للتوسّع الإسرائيلي.

  • السيد عبد الحسين شرف الدين
    السيد عبد الحسين شرف الدين

ومهما يكن من أمر وأثر هذه العلاقة على حال وأحوال هذا الإجتماع الأهلي، فإن تخصيصه بعبارة "وطن" لا تتجاوز معنى المكان الخاص بهذا الإجتماع، أي المجال الحيوي لوجوده وعوامل تكوينه والتئامه ومعاشه وتاريخه وذاكرته، إضافة إلى عناصر تمايزه في حدود مجاله الجغرافي بما هي حدود تمايزه في النسب والمذهب وخصوصية موقعه في سياسة الدول ومصالح سلطاتها المتعددة. 

وإذا كان النسب تعبيراً عن الأصل العربي للعامليين، فإن المذهب الشيعي – الإمامي كان، ولا يزال، السمة الطاغية على مختلف خصائص الإجتماع العاملي: نظرته إلى نفسه ونظرة الآخرين إليه، إنعكاس هويته المذهبية على حراكه التاريخي وعلاقاته مع الجماعات المجاورة والسلطات المتعاقبة، وما اعتمل فيها من أحداث ومتغيرات كانت، في معظمها، ثقيلة الوطأة وباهظة الثمن على دورة الحياة وراحة الأنفس وتماسك الجماعة ومساحة المجال الجغرافي وخيارات المصير والإستمرار.

وفي هذا السياق يندرج تعبير "الوطن" العاملي بما هو البقعة من الأرض التي استقر وتواصل فيها الإجتماع العاملي الأهلي – الشيعي في بلاد الشام. ومع ذلك، فإن مفردة "وطن" لا تعني أكثر من تعيين جغرافي لمركز إستيطان، ولأنها كذلك، كانت نادرة التداول بالمقارنة مع مفردات أخرى أكثر شيوعاً مثل جبل عامل، بلاد بشارة، بلاد المتاولة، جنوب لبنان إلخ... إلا أنها جميعها تبقى مفردات تمايز مشدودة إلى عصب مهيمن: مركز ثقل الإستيطان الشيعي في بلاد الشام. وبهذا المعنى، أي "الوطن" العاملي الذي يستبطن المفردات الأخرى كلها، نفهم معنى عبارة "الوطن" التي وردت في رسالة من السيد عبد الحسين شرف الدين إلى كامل الأسعد الأول قبل سنة واحدة من ولادة دولة لبنان الكبير. 

تعرض الأصل العروبي للعامليين لتشكيك متأخر، وبخاصة من قبل بعض المستشرقين الذين كتبوا عن بلاد الشام، الأمر الذي دفع العامليين إلى التشدد عند الحديث عن أصلهم وفصلهم وهويّتهم، ما أعطى مشروعية لتحصنهم بصفة العاملية – العربية. وقد حدث الأمر نفسه في ما يتعلق بهُويتهم المذهبية – الاعتقادية. 

ففي هذه الرسالة المؤرخة في شهر أيلول سنة 1919، يطلب السيد شرف الدين من الأسعد أن لا ينسى دوره في الدفاع عن الوطن – أي جبل عامل – وحماية أرواح أهله وأرزاقهم[1]. وكانت الأديبة والشاعرة زينب فواز قد استخدمت مفردة الوطن أيضاً دلالة على مسقط رأسها العاملي وهي ترثي حالة بلدتها تبنين:

"أبكيك يا صرح كالورقاء نادبة          شوقاً إليهم إلى أن ينتهي الأجل

قد كنت مسقط رأسي في ربى وطني     إن الدموع على الأوطان تنهمل[2]

بيد أن مفردة "عاملي" ظلّت، ولا تزال، طاغية على غيرها من المفردات ومستوعبة لها في آن معاً، إذ أن مفردات – وطن، بشارة، متاولة، شيعة وجنوبيون – تلتقي كلها في معنى "العاملي" وهو يختزلها ويجسدها، وإن كانت كل مفردة قد نالت نصيبها من التأويل والترجيح، وذلك وفق أهواء وخلفيات المؤرخين والدبلوماسيين والشعراء ومن سار على نهجهم في الصحافة والدراسات الجامعية...

وهناك شبه إجماع على الأصل العاملي – العربي اليمني – لأهل هذا الإجتماع وموطن سكنه ومعاشه، ويرجع إلى هجرة قبيلة عاملة بن سبأ من اليمن إلى بلاد الشام حيث استوطنت في الأرض التي أعطتها إسمها منذ ذلك الحين، وتحديداً إلى ثلاثمائة سنة قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وبالتالي، فإن أهل الإجتماع العاملي "عرب خلّص بنسبهم ولغتهم وعاداتهم متحدرون من عاملة بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهي قبيلة هاجرت من اليمن إلى أطراف الشام قبل الميلاد بثلاثمائة سنة على وجه التقريب، بعد حادثة سيل العرم وانهيار سد مأرب وضياع مملكة سبأ المعروفة في التاريخ..."[3]

ويتفق المؤرخون القدامى على صحة هذه التسمية، أي جبل عامل أو بلاد عاملة، وإليهم يرجع مؤرخو الحقبات اللاحقة. وترد هذه التسمية عند اليعقوبي وياقوت الحموي وإبن الأثير والطبري وأبو الفدا والقلقشندي إلخ...[4] ويستند معظمهم إلى الحديث الشريف الذي ذكره صاحب مجمع البيان: "... عن فروة بن ميسك، سألت رسول الله (ص) عن سبأ رجل هو أم إمرأة فقال (ص)، هو رجل من العرب، ولد عشرة، تيامَنَ منهم ستة وتشاءَم أربعة، فأما الذين تيامنوا: فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وإنمار وحمير... وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان. ثم قال في المجمع: المراد بسبأ هنا القبيلة الذين هم أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان..."[5].

  • السيد عبد الحسين شرف الدين والإمام السيد موسى الصدر
    السيد عبد الحسين شرف الدين والإمام السيد موسى الصدر

وقد تعرض هذا الأصل العروبي للعامليين إلى تشكيك متأخر، وبخاصة من قبل بعض المستشرقين الذين كتبوا عن بلاد الشام، الأمر الذي دفع العامليين إلى التشدد عند الحديث عن أصلهم وفصلهم وهويّتهم، ما أعطى مشروعية لتحصنهم في صفة العاملية – العربية. وقد حدث الأمر نفسه في ما يتعلق بهويتهم المذهبية – الإعتقادية. 

ففي حين حاول البعض إرجاعهم إلى أصل كردي أو فارسي، حاول البعض الآخر إحداث شرخ في تشيّعهم بأن أطلق عليهم تسمية "المتاولة"، بمعنى يجرد هويّتهم من مضمونها الفكري – المعتقدي ويحيلها إلى مجرد هويّة سياسية لإجتماع في طور التشكل الطائفي سوف ينتهي في توصيف جغرافي صرف: (جنوبيون)؟ وقد أشارت الفرنسية صابرينا ميرفان إلى هذه المسألة بقولها إن العامليين كانوا ينادون أنفسهم، في المرتبة الأولى، "على أنهم أحفاد قبيلة عربية من الجزيرة، وذلك لقطع دابر الشك الذي كان يحوم حولهم. فقد كانوا، بصفتهم من الشيعة، متّهمين بأن لهم أصولاً فارسية أو كردية، وقد ساهم الرحالة الأوروبيون والمستشرقون في نشر هذا الرأي، وقد ترك آثاره، على الرغم من أن المعنيين به قد واجهوه بالدحض مرات عديدة. وهم مجمعون، فعلاً، على أصلهم العربي العاملي. ويؤكد محسن الأمين مثلاً، أن جذورهم ضاربة في العروبة، بعد أن يصرّح أنهم يتكلمون العربية الأقرب إلى الفصحى، وأنهم يحافظون على القيم والعادات العربية، وأن إسم بلادهم جبل عامل، يعيدهم إلى إسم القبيلة (بني عاملة) ويجمعهم إلى أصل واحد. وهذا ما دفع بأحمد عارف الزين إلى القول إنه كان ينبغي للعامليين أن يحافظوا على هذا الإسم وأن يغاروا عليه لأنه يحمل أمجاد الماضي... وإلى الأسف لما آلوا إليه من تعميم إسم "لبنان الجنوبي" الذي فرضه عليهم الفرنسي المحتل، أو مختصره، "الجنوب"[6]. 

وكان المستشرق الفرنسي إرنست رينان أول من ظن أن المتاولة كانوا من الكرد الذين رافقوا حملة صلاح الدين الأيوبي[7]. وسار على نهجه الرحالة الفرنسي لويس لورتيه الذي كتب قائلاً: "أظن أنه بإمكاننا أن نؤكد بلا تردد، أن المتاولة هم من الكرد، وقد أتوا من تخوم بلاد فارس إثر بعض الهجرات المسلمة، في القرن 13 م على الأغلب..."[8]. 

وبهذا المعنى أيضاً تحدّث لانس – الذي كان يفضل أن تكون سوريا سوريةً على أن تكون عربية وفق تعبير صابرينا ميرفان – عن الأصل الفارسي للمتاولة قبل أن يحسم أمره ويتفق مع رأي العامليين أنفسهم وبأنهم من "سلالة بني عاملة"[9]. 

كما تنقل ميرفان عن روجيه ليسكو، الذي لم يكن بإمكانه القول، سنة 1936، إلا بمخاتلة وسطية، وبرأيه فقد كان العامليون من "أصل عربي ولغتهم العربية"، إلا أنهم تلقوا "مدداً كبيراً خارجياً، ولا سيما من الكرد والفرس"...[10].

لم تلبث، أيضاً، هذه الإشكالية أن سقطت على هذا الإجتماع الأهلي بعد أن أخذ على عاتقه مهمة التصدّي للأطماع الإسرائيللية في أرضه وأرزاقه ومياهه. وفي حين يسترجع أهل هذا الإجتماع نسبهم العاملي بما هو تواصل مع الذاكرة وآليات ممانعتهم التاريخية، تسقط هذه الإشكالية عليهم وتجردهم من عروبيتهم العاملية بل وحتى من "جنوبيّتهم اللبنانية" ليصبحوا، هكذا، مجوساً وفرساً وأي شيء آخر غير "اللبنانيين". 

  • السيد عبد الحسين شرف الدين متوسطاً مجموعة من العلماء
    السيد عبد الحسين شرف الدين متوسطاً مجموعة من العلماء

وقد عرف "الوطن" العاملي تسمية أخرى رديفة لجبل عامل أو بلاد عامل، عندما إرتأى البعض تخصيصه، "عائلة" بدل القبيلة. فكانت تسمية "بلاد بشارة" بداية إنزياح النسب من الأصل إلى الفرع. وبالرغم من انتقال الإجتماع الأهلي من تسمية تربطهم بالقبيلة - الأصل إلى تسمية تحشرهم بالعائلة – الفرع، فإن الإنزياح المذكور، من إسم القبيلة إلى إسم الزعيم، كان مؤشراً إلى بدايات تشكّل القيادة السياسية أكثر مما كان دلالة على تغيير في هوية الاجتماع الأهلي نفسه. 

وإلى هذا المفصل بالذات، ترجع أهمية إضافة "بلاد عاملة". ومن دون إثقال التسمية الجديدة بأحمال لاغية للنسب العاملي – العروبي، فإن هذا التطور كان طبيعياً، منظوراً إليه من زاوية المتغيرات التي عرفها الاجتماع العاملي في حراكه التاريخي ومعاناته من وطأة الاستبداد السلطوي المتواصل. غير أنه لا يشكل أكثر من إرهاصات سوف تتحول تدريجاً إلى وقائع ملموسة مع بلورة الدور المتنامي للعائلات ومنازعتها في ما بينها وتقاسمها لمناطق نفوذها داخل الجبل العاملي، وتحالفاتها اللاحقة ضد أطماع "الآخرين" في استتباعهم وإخضاعهم للعامليين بشراً وأرزاقاً، من دون أن يعني ذلك تجاوزاً لدور العلماء في القيادة وتدبير أمور الإجتماع الأهلي وتمثيله والنطق باسمه والتعبير عن مصالحه والتطلعات. 

فقد ظلّت القرارات المصيرية على عاتق رجال الدين، كما ظلّ رأيهم حاسماً وملزماً للخاصة والعامة، مع رغبة مكبوتة، في المزاحمة تارة، وفي قلب الأدوار تارة أخرى. 

كان المستشرق الفرنسي إرنست رينان أول من ظنّ أن المتاولة هم من الكرد الذين رافقوا حملة صلاح الدين الأيوبي، وسار على نهجه الرحالة الفرنسي لويس لورتيه الذي كتب قائلاً: "أظن أن بإمكاننا أن نؤكد بلا تردد أن المتاولة هم من الكرد، وقد أتوا من تخوم بلاد فارس إثر بعض الهجرات المسلمة في القرن الـ13 على الأغلب".
 

صحيح أن الزعامات العائلية واظبت على الإلتزام برأي العلماء، عن طيب خاطر عند البعض، وعلى مضض عند البعض الآخر، لكن الخروج الصحيح أو الانتقال في أرجحية القرار من العالم إلى الزعيم لم يشهدها العامليون إلا عندما أصبحوا "لبنانيين". 

وعليه، فإن "بلاد بشارة" ستبقى تسمية عابرة ومضافة ومنضوية في النسب العاملي، رغم أنها، وفي مقاربة أخرى، قد تندرج في سياق التمهيد لتسمية لاحقة: بلاد المتاولة، حيث فرضت المتغيرات مشاركة فاعلة للعائلات السياسية والزعماء في تقرير مصير جبل عامل. 

ترجع تسمية "بلاد بشارة" إلى إسم زعيم تمكّن من ممارسة سلطة محلية في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي انطلاقاً من بلدة زبقين، مركز إمارته. "والذي يقرب من الصواب أن بشارة هذا هو إبن أسد الدين العاملي الذي أقطعه الملك الناصر خيط بانياس. ويدل على ذلك ما (نُقل) عن تاريخ بن فتحون أن حسام الدين بشارة بن أسد الدين بن عامر بن مهلهل بن سليمان بن أحمد بن سلامة العاملي من رهط عاملة بن سبأ حضر فتح قلعة هونين مع الملك الناصر بن أيوب وأقطعه الملك الناصر خيط بانياس"[11]. 

ولم يتمكن القائلون بوجود "بشارة" آخر من إسناد رأيهم إلى مصادر موثوقة. وقد انفرد الشيخ علي سبيتي في حديثه عن بشارة بن مقبل القحطاني، ويقول الشيخ محمد تقي الفقيه إنه "لم نر لهذا الإسم ذكراً في ما لدينا من المؤلفات التاريخية، ولم يذكر العلامة السبيتي المصدر الذي نقل عنه"[12]. 

ولم يجد الشيخ أحمد رضا دليلاً يثبت أن بشارة هو إسم لأحد أمراء الأسرة المعنية (1516 – 1697)، كما أن محمد  جابر آل صفا لم يجد أحداً من الأمراء المعنيين الذين حكموا جبل عامل يحمل إسم بشارة[13]. 

ويجزم السيد محسن الأمين بأن تسمية جبل عامل ب "بلاد بشارة" تعود إلى سنة 1187 م، أي إلى بشارة العاملي الذي شارك في حملة الأيوبيين على عكا[14]. 

  •  المستشرق الفرنسي إرنست رينان
    المستشرق الفرنسي إرنست رينان

ومهما يكن من أمر، فإن "بلاد بشارة" لم تتجاوز النسب العاملي بقدر ما سعت إلى تخصيصه، وهذا ما جعلها أضعف من الأصل العاملي، أي عابرة وهامشية. 

بيد أن تسمية جبل عامل ب "بلاد المتاولة" كانت أكثر تعبيراً عن المتغيرات التي أصابت الإجتماع العاملي منذ بداية القرن السابع عشر الميلادي. 

وعلى عكس سابقتها، بلاد بشارة، فإنها صمدت وطغت بعد أن أمعن في تداولها مؤرخو جبل لبنان وبلاد الشام في تدوين أحداث تلك المرحلة التي إستمرت إلى إنتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة العثمانيين، ومثلهم واظب السفراء والقناصل وقادة الجيوش الأوروبية على تداولها، وعمل الرحالة والمستشرقون على ترسيخها في مؤلفاتهم. 

وترجع كلمة "متاولة" إلى مصدرين متقاربين في المعنى والقصد. الأول، المتاولة وهي جمع متوال، "مشتق من غير قياس من تولى، أي إتخذ ولياً ومتبوعاً، ويراد به هنا ولايتهم لأهل البيت عليه السلام... وأنه مشتق من توالى، بمعنى تتابع، وهو على القياس والمعنى المشار بها إليه، هو تتابعهم في موالاة أهل البيت خلفاً عن سلف". 

الثاني، "ما ذكره الأمير شكيب أرسلان قائلاً: سمعت من فم أستاذنا الشيخ محمد عبده المصري أكرم الله مثواه، أنهم كانوا يقولون للعلوي: (مت ولياً لعلي)، إلى أن قال: فصيغت من ذلك كلمة متولي، ثم صارت بتوالي الأيام متوالي"[15]. 

وفي خطط جبل عامل، يقول السيد محسن الأمين إن "متاولة" ترجع إلى أحد مصدرين أو إليهما معاً: مت ولياً لعلي أو من يتولى علياً وأبناءه. ويضيف إليها صفة الولاء أي حب أهل البيت[16]. "ولا تصحّ هذه التسمية إلا على شيعة جبل عامل وبعلبك وكسروان، أما باقي شيعة بلاد الشام فلا يسمّون كذلك حتى من كان منهم من الإمامية، سوى شيعة الصالحية والميدان في دمشق وشيعة حوران لأنهم من ذرية المهاجرين من جبل عامل وبعلبك"[17]. 

  • السيد محسن الأمين صاحب كتاب
    السيد محسن الأمين صاحب كتاب "موسوعة أعيان الشيعة" ومؤسس المدرسة المحسنية في دمشق

وينفرد الشيخ علي الزين في تفسيره لمعنى التسمية الجديدة – المتاولة – بأن وضعها في سياق المنازعات والمعارك التي عرفها العامليون أثناء ممانعتهم ضد أمراء جبل لبنان من معنيين وشهابيين، فكانت عبارة (مت ولياً لعلي) مجال التعبئة وشحن النفوس بإرادة التضحية والقتال دفاعاً عن الأرواح والأعراض والأرزاق...[18]. 

إذا كان العامليون قد جاهروا بهويتهم المذهبية وأدرجوها في سياق توليهم لعصبية سياسية مدافعة عن مشروعية حقهم في إدارة منطقتهم أسوة بغيرهم من الجماعات والملل، وإذا كانوا قد إرتضوا التسمية الجديدة طالما أن "المتولة" تندرج في سياق الدفاع عن "المذهب" وأهله، فإن استخدام الآخرين لم يكن معزولاً عن إستراتيجية أوروبية باشرت إختراقها لأطراف السلطنة العثمانية وإعدادها المشاريع وآليات سيطرة مباشرة تنتظر السقوط المدوّي لدولة الخلافة: تهيئة أطراف المركز العثماني للتشكّل في دويلات وممالك وإمارات على قياس الطوائف والقبائل والأعراق. 

عرف "الوطن" العاملي تسمية أخرى رديفة لجبل عامل أو بلاد عامل، عندما ارتأى البعض تخصيصه "عائلة" بدلاً من القبيلة، فكانت تسمية "بلاد بشارة" بداية انزياح النسب من الأصل إلى الفرع. وعلى الرغم من انتقال الاجتماع الأهلي من تسمية تربطهم بالقبيلة - الأصل إلى تسمية تحشرهم بالعائلة – الفرع، فإن الانزياح المذكور من اسم القبيلة إلى اسم الزعيم كان مؤشراً إلى بدايات تشكّل القيادة السياسية أكثر مما كان دلالة على تغيير في هُوية الاجتماع الأهلي نفسه. 

وبهذا المعنى، فإن تسمية "بلاد المتاولة"، التي بدأ الفرنسيون بإطلاقها منذ منتصف القرن السابع عشر، تغذّت بعشرات المعارك التي خاضها العامليون ضد أمراء جبل لبنان واعتراضاً على إصرار العثمانيين على تلزيمهم – أي العامليين – إلى سلطة طائفة أخرى. فكانت "المتولة" تجسيداً لإرادة التمايز عن "الآخر" الطائفي ورغبة في لفت نظر الباب العالي إلى حق العامليين في أن يكونوا شركاء في تقرير مستقبل المنطقة. 

بيد أن "المتولة" سرعان ما أدخلت العامليين، رغم أنفهم، في الحسابات الأوروبية البعيدة المدى بحيث تتحول معارك العامليين وتحالفاتهم الإقليمية إلى عصبية تبرر إنتقالهم من اجتماع أهلي على هامش دولة مركزية، إلى اجتماع سياسي يبحث عن نصابه المخصوص في الدولة المركزية نفسها. 

وفي حال انهيار هذه الدولة، وهذا ما حصل، فإن عصبية المتاولة تصبح تدريباً بالذخيرة الحية وتأهيلاً للإجتماع العاملي ودفعه دفعاً للإنتقال من "المتولة" إلى "الطائفة". 

  • المؤرخ العاملي الشيخ علي الزين
    المؤرخ العاملي الشيخ علي الزين

إنطلاقاً من هذه الخلاصة، نفهم الحرص الفرنسي على تسمية "بلاد المتاولة" وإبرازها لدلالات إفتراقها عن هوية العامليين الإسلامية، بما هي هوية مشتركة لأطراف المنازعات والحروب الداخلية (عثمانيون، سنة، دروز). مثلما نفهم حرص دولة الإنتداب وأعوانها على دفع العامليين إلى الإنتظام في "طائفة" شرطاً لقبولهم شركاء في لبنان الكبير. 

وهكذا، تتماهى "بلاد المتاولة" مع العصبية العاملية ويوصلان إلى غاية واحدة: اجتماع أهلي – مذهبي يتمتع بنوع من السيادة على محل سكناه ومعاشه مع بقائه على اندماجه العضوي في دولة مركزية واحدة. وكانت هذه الغاية أقصى ما أراد العامليون الوصول إليه من خلال خروجهم من "التقيّة" إلى "المتولة"، "فقد كانوا يتصورون جبل عامل بالفعل بمقتضى ثلاثة اعتبارات تناسب ثلاث طرق من الشعور بالإنتماء وثلاثة أنماط من الإنتماء نفسه: أرض ذات حدود معينة بتاريخها وتقاليدها وعاداتها، دولة يدخل فيها هذا الكيان الجغرافي والثقافي مع احتفاظه بخصوصياته وبسيادة نسبية، وحدة دينية تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية، وتنظّم على نحو يبقيها مستقلة عن الدولة"[19].

ولم يكن هذا التصور ممكناً في مرحلة "التقية" حيث إختزل العامليون تواضع غاياتهم: قبولهم كرعية هامشية في دولة مركزية مع حرية اختيارهم المعتقدي – المذهبي. وفي حال الرفض، تكون "التقية" تحصيناً للمذهب والإجتماع الأهلي والأرزاق. 

تَشيّعُ العامليين لم يستتبع مشروعاً سياسياً أو ينتج تهديداً ملموساً للسلطة منذ العباسيين إلى العثمانيين. وعلى الرغم من أن تاريخهم عرف أنواعاً مختلفة من الاعتراض على السياسات الجائرة والانحراف المتمادي عن تعاليم الإسلام ومبادئه، ورغم أنهم، وبسبب هويتهم المذهبية، عانوا ويلات العنف السلطوي، فإنهم لم يتوسلوا التشيّع سبيلاً إلى السلطة بقدر ما تحصّنوا فيه بانتظار "دولتهم" الموعودة بظهور المهدي؛ الإمام الثاني عشر.

عندما أصبح جبل عامل جزءاً من دولة لبنان الكبير سنة 1920، وبصرف النظر عمّا إذا كان هذا الإلتحاق قسرياً وفاقداً للشرعية الأهلية والمطالبة الجماعية، أصبح العامليون "لبنانيين"، أي غير ما كانوا عليه وغير ما أرادوا أن يكونوا عليه. وإضافة إلى ما يمكن أن تثيره هذه التسمية من حساسيات ترجعها الذاكرة إلى الحروب الممانعة ضد أمراء جبل لبنان، فإنها تنزع العامليين من تاريخهم وإصرارهم على الإنضواء في دولة إسلامية جامعة وتقذفهم إلى أحضان دولة صغيرة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة. وفي حين لم تفلح رهاناتهم على الإنضواء في دولة – مملكة عربية – ولا تطلعاتهم إلى وحدة بلاد الشام بقيادة سورية ولامركزية عاملية، فإنهم وجدوا أنفسهم في فراغ سياسي أو استسلام غير مشروط أمام الجنرال "غورو". 

وبما أنهم كانوا دائماً جزءاً من دولة كبرى، أمة وخلافة، وبما أن هذه الدولة باتت من الماضي ومعها الخلافة نفسها، بكل ما ترمز إليه، ألمح بعض الأوروبيين إلى رغبة العامليين في الإحتماء والإنضواء في إيران بما أنها دولة كبيرة يلتقون معها في شيعيتهم. وكما كتب "ورتابه" سنة 1860"... بما أن المتاولة هم من الشيعة، فإنه من السهل أن نفهم أنهم يضمرون في سرّهم نفوراً شديداً من الحكومة العثمانية، وذلك على الرغم من إعلانهم الطاعة لها. وتتجه كل عاطفة المتاولة في بلاد الشام نحو الفرس، إذ يعتبرون أن بلادهم حصن لدينهم وسياج لإيمانهم..."[20].

ومهما يكن من أمر هذه التلميحات، فإن مجرد التفكير بإنضمام جبل عامل إلى إيران كان رجماً في الغيب وقفزاً فوق الفواصل الجغرافية وتحريفاً للوقائع، وإن كان لا يخفي رغبة دفينة في تحصيل حماية خارجية بعد أن وجد العامليون أنفسهم، فجأة، في عراء كامل، من دون دولة مركزية أو إقليمية ومن دون حماية من أي نوع. 

صحيح أنّ الزعامات العائلية واظبت على التزام رأي العلماء، عن طيب خاطر عند البعض، وعلى مضض عند البعض الآخر، لكن الخروج الصحيح أو الانتقال في أرجحية القرار من العالم إلى الزعيم لم يشهدها العامليون إلا عندما أصبحوا "لبنانيين". 

وبالفعل، فإن العامليين كانوا، لحظة تفكيرهم بالعرض "اللبناني"، معلقين في الهواء. فقد كانوا "بلا صلة بالخارج، وبأنهم كانوا لا يتمتعون بدعم من دولة عظمى، خلافاً لباقي الطوائف. وبالفعل فقد كانت فرنسا تحمي الموارنة، وروسيا تحمي الأرثوذكس، وبريطانيا العظمى تحمي الدروز، والدولة العثمانية تحمي السنّة، أما الشيعة فكانوا متروكين لحماية أنفسهم بأنفسهم". كما يقول جوزيف أولمرت[21].

وهذا يعني أن قبول العامليين بإسمهم الجديد ودولتهم المقترحة، سوف يكون قبولاً بالإنتماء إلى دولة صنعتها فرنسا نزولاً عند رغبة "طائفة"، وانكشافاً في دولة تحتمي كل طائفة فيها بدولة خارجية، وهم على ما هم عليه. بل أكثر من ذلك، فإن قبول العامليين بهويّتهم اللبنانية يعني إقراراً متأخّراً بهزيمة لم تحصل قبل قرنين، عندما كانوا "متاولة" يتحصنون في عصبية مدافعة وممانعة ضد إخضاعهم لسلطة أمراء جبل لبنان.

إذا كان صحيحاً أنَّ الشيعة هم آخر من انتظم في طائفة، فإن ما هو صحيح أكثر أن الدولة اللبنانية، في آليات قيامها وممارستها ومؤسساتها، هي التي اشترطت عليهم اجتماعهم في طائفة سبيلاً لتحصيل حقوقهم، شراكةً أو تنميةً في مرحلة، ومقاومةً وتحريراً في مرحلة أخرى.

ومن الناحية العملية، فإن الإسم اللبناني للإجتماع العاملي كان تشريعاً إلحاقه بدولة طائفة وليس دعوة للمشاركة في بناء دولة كل الطوائف. وبالمقارنة مع كل التسميات الأخرى التي عرفها الإجتماع العاملي وارتضى بها، فإن "لبنانيته" تجاوزت الإسم المرتبط بالنسب أو المذهب أو العصبية، وفرضت عليه، كما سيحدث في سنواته اللبنانية اللاحقة، ضرورة البحث عن عامل جديد لانتظامه وحراكه: إعادة تشكيل الاجتماع في هيئة طائفة. 

فاللبنانيون، جميعهم، لا يتعرفون إلى ذواتهم كمواطنين أفراد في دولة، والدولة اللبنانية لا تدير مجتمع مواطنين بقدر ما تدير مجتمعاً طوائفياً. وبمعنى آخر، إذا أراد العامليون – الشيعة – أن يكونوا "لبنانيين" حقاً، ينبغي عليهم أن ينتظموا في طائفة، وإذا لم يفعلوا سوف يبقون هكذا على رصيف الدولة وهامشها، في مكانة دونيّة وحرمان مقيم. وإذا كان صحيحاً أن الشيعة كانوا آخر من انتظم في طائفة، فإن ما هو صحيح أكثر أن الدولة اللبنانية، في آليات قيامها وممارستها ومؤسساتها، هي التي اشترطت عليهم، اجتماعهم في طائفة سبيلاً إلى تحصيل حقوقهم، شراكة أو تنمية في مرحلة، ومقاومة وتحريراً في مرحلة أخرى. لم يتأخر العامليون في تلمّس دلالات إسمهم "اللبناني" وفي تبيان تمايزاته عن أسمائهم الأخرى. وقد أثبتت وقائع العقود الخمسة التي تلت إلحاقهم بدولة لبنان الكبير أن "لبنانيتهم" لا تعني مشاركتهم ومساواتهم بغيرهم من اللبنانيين، ولا ترفع الحرمان والبؤس عن مناطقهم، ولا تحمي أرضهم والأرزاق والأرواح. وقد تعايشوا معها كما هي، هزيمة متأخرة للعصبية العاملية أمام أمراء جبل لبنان. فما حالت دونه تلك العصبية في زمن "المتاولة" تحقق عندما تحوّل أولئك الأمراء إلى طائفة، أما النتيجة فكانت واحدة: إخضاع جبل عامل لسلطة جبل لبنان بعد أن أصبح الأخير دولة على قياس طائفة، وأصبح الأول مدلولاً عليه بصفته "جنوب" تلك الدولة، أي معزولاً عن أسمائه كلها وعن كل معانيها ورموزها. وعن هذه النتيجة كتب الشيخ عبد الحسين صادق أبياته الشعرية التي ردّدها العامليون لسنوات طويلة:

"فلم نُبقِ منه مسمّى يُرى    ولا إسماً يُحلى به المسمع 

بلعتهما غير مستأثمٍ           ولا منكر ما له تصنع

أتيت بها أيّ أعجوبة          بها جبل جبلاً يبلع"[22]

وهكذا أصبح جبل عامل مجرد منطقة أو مساحة أرض على خارطة دولة، وأصبح العامليون "سكان جنوب لبنان". وبما أنه شكل إضافة جغرافية وديمغرافية، فإن تعديل مساحته على الخارطة لن يعكّر مزاج الدولة وطائفتها الحاكمة. ولطالما تعاملت معه هذه الدولة بصفته حمولة زائدة: فهي غير معنية بممارسة حمايتها له بإعتباره يدخل ضمن سيادتها، وغير مستعدّة لتقبّل مشاركته في أمورها وما تتطلبه تلك المشاركة من سياسات تهدد الإمتيازات المتماهية مع معنى الإبتلاع. 

  • الجنرال الفرنسي غورو في قصر الصنوبر ببيروت عام 1920 أثناء إحتفالية الإعلانعن قيام دولة لبنان الكبير ويظهر إلى جانبه البطريرك الحويك
    الجنرال الفرنسي غورو في قصر الصنوبر ببيروت عام 1920 أثناء إحتفالية الإعلان عن قيام دولة لبنان الكبير ويظهر إلى جانبه البطريرك الحويك

وبالتالي، فإنه، على خلاف غيره من المناطق اللبنانية، إنفرد في قابليته للإنكماش في بعض مساحته، أو في التخلص منه كله، كحمولة زائدة، وفي أحسن الأحوال تركه يواجه قدره "الإسرائيلي" بمفرده، طالما أنه، هكذا، يسبّب وجعاً في الرأس وتهديداً للمصالح أو إحراجاً لدولته أمام حليفها الخارجي وحامي سلطتها.

لم تتجاوز "بلاد بشارة" النسب العاملي بقدر ما سعت إلى تخصيصه، وهذا ما جعلها أضعف من الأصل العاملي، أي عابرة وهامشية، بيد أن تسمية جبل عامل بــ"بلاد المتاولة" كانت أكثر تعبيراً عن المتغيرات التي أصابت الاجتماع العاملي منذ بداية القرن السابع عشر الميلادي. 

لهذه الأسباب كلها، ولأسباب أخرى تتعلّق بتصور العامليين لهويّتهم، أهملوا الحديث عن معنى إسمهم اللبناني – الجنوبي، ولم يهتموا بتقديم وجهة نظرهم حول هويّتهم اللبنانية. وعندما كتب العامليون تاريخهم، على الأقل إلى ما بعد الإستقلال، توقفوا عند دلالات تسمياتهم السابقة ولم يجدوا فائدة في الحديث عن معنى التسمية الجديدة، طالما أنها، هكذا، مشدودة ومتجسّدة في ما آلت إليه أحوالهم بعد أن أصبحوا "لبنانيين" بإرادة خارجية. 

أما عندما جاهروا بهويتهم اللبنانية، أي عندما ارتضوا وطنهم اللبناني النهائي، وجعلوا إسمهم اللبناني والجنوبي واقعاً ملموساً، بما هو شراكة غير منقوصة في القرار والمصير، فإنهم أعطوا لمعنى إسمهم اللبناني مضامين أخرى غير مجرد منطقة جنوبية على خارطة أو على هامش، وغير الحمولة الزائدة المعروضة في المزاد الإقليمي والدولي: "لبنانيون"، يتوقف مصير لبنان كله على ما يحدث في "جنوبه"، و"لبنانيون"، يفرضون "لبنانهم" شريكاً في رسم مستقبل المنطقة. 

تلتقي أسماء "الوطن" العاملي في تعددها ومسوّغاتها وتستظل تسمية جامعة شاملة: بلاد الشيعة. فالعامليون والبشاريون والمتاولة واللبنانيون الجنوبيون يشتركون جميعهم في هويّة مذهبية تعطيهم شمولية في التسمية وخاصيّة في التمايز. وفي كل مرحلة سادت فيها واحدة من هذه التسميات لم تغب عنها شيعيتها بقدر ما عبّرت عن وجه من وجوهها، وحالة من حالاتها المستقرة أو المتوترة.

كان العامليون لحظة تفكيرهم في العرض "اللبناني" معلقين في الهواء، فقد كانوا "بلا صلة بالخارج، ولا يتمتعون بدعم من دولة عظمى، خلافاً لباقي الطوائف. وبالفعل، فقد كانت فرنسا تحمي الموارنة، وروسيا تحمي الأرثوذكس، وبريطانيا العظمى تحمي الدروز، والدولة العثمانية تحمي السنّة. أما الشيعة فكانوا متروكين لحماية أنفسهم بأنفسهم"، كما يقول جوزيف أولمرت.

ومن الناحية العملية، فإن التشيّع كان أول خاصيّة للعامليين أو الإسم الذي أضافوه إلى أصلهم العربي ولم يتراجعوا عنه ولم يستبدلوه رغم أكلافه الباهظة. وقد إختاروه بعد أقل من نصف قرن على اعتناقهم للدين الإسلامي، الأمر الذي حوّل جبل عامل إلى المنطقة الأولى التي ينتشر فيها نهج أهل البيت والأئمة، بعد أن كان منتشراً فقط في الحجاز والعراق. وبمعزل عن انتشار أشكال أخرى من التشيع على إمتداد القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، بنو عمار في طرابلس والبويهيون في العراق وفارس والحمدانيون في شمال سوريا والفاطميون في المغرب ومصر والحجاز وبلاد الشام...، فإن جبل عامل حافظ على شيعيته ولم يستبدلها بحيث انفرد وحده بتسمية "بلاد الشيعة". 

إذا كان العامليون قد جاهروا بهويتهم المذهبية وأدرجوها في سياق توليهم عصبية سياسية مدافعة عن مشروعية حقهم في إدارة منطقتهم أسوة بغيرهم من الجماعات والملل، وإذا كانوا قد ارتضوا التسمية الجديدة ما دامت "المتولة" تندرج في سياق الدفاع عن "المذهب" وأهله، فإن استخدام الآخرين لهذه الكلمة لم يكن معزولاً عن إستراتيجية أوروبية باشرت اختراق أطراف السلطنة العثمانية وإعداد المشاريع وآليات السيطرة المباشرة التي تنتظر السقوط المدوّي لدولة الخلافة: تهيئة أطراف المركز العثماني للتشكّل في دويلات وممالك وإمارات على قياس الطوائف والقبائل والأعراق. 

وقد ترسّخت هذه التسمية في كتابات الرحّالة والمؤرخين المسلمين والأوروبيين على حدّ سواء. ويمكن الجزم بأن تماهياً تاماً جمع العامليين والشيعة في توصيف جامع لم تقدر التسميات الأخرى على تجاوزه. ذلك أن "بلاد بشارة" و"بلاد المتاولة" أو "سكان جنوب لبنان"، ظلّت منفردة ومجتمعة، مشدودة إلى أصلها العاملي – الشيعي، بل إن مؤرخين، كالشيخ علي الزين مثلاً، ينزعون النسب العاملي عن غير الشيعة المقيمين في جبل عامل، قديماً وحديثاً[23].

ويبدو أن موقع جبل عامل الجغرافي جعله ملاذاً للشيعة الناجين من الإضطهاد المملوكي الذي تعرضت له منطقة كسروان بين عامي 1291 و1305 م. مثلما خفّفت "التقية" من تبعات الإستبداد المملوكي لحظة إمتداده إلى جبل عامل، من دون أن يعني ذلك أن العامليين لم يدفعوا أثماناً باهظة بسبب هويّتهم المذهبية، سواء في عهد المماليك أو في عهد العثمانيين. 

بيد أن عدم انخراطهم في سياسة انفصالية، من أي نوع، وقبولهم بمكانة هامشية في دولة مركزية، وتأدية المطلوب منهم في الضرائب والحشد العسكري، هذه العوامل سمحت لهم بتحصين مذهبهم وتكاثر مدارسهم وبروز علمائهم، الأمر الذي منحهم فرادة في الهوية المذهبية المتماسكة والمتواصلة في بلاد الشام بعد زوال جميع "الإمارات" الشيعية التي عرفتها تلك المنطقة. 

وأكثر من ذلك، فإن هذه الفرادة كانت عاملاً حاسماً في اختيار الصفويين لعلماء جبل عامل من أجل ترسيخ التشيّع في بلاد فارس. وبالتالي، فإن اختيارهم الفكري – المذهبي رافق متغيرات أحوالهم واستوعب تعدّد تسمياتهم وأعطاهم خاصيّة تمايزهم وثباتهم أما عاتيات القدر والأحداث. 

تتماهى "بلاد المتاولة" مع العصبية العاملية، وهما يوصلان إلى غاية واحدة: اجتماع أهلي – مذهبي يتمتع بنوع من السيادة على محل سكنه ومعاشه مع بقائه على اندماجه العضوي في دولة مركزية واحدة. كانت هذه الغاية أقصى ما أراد العامليون الوصول إليه من خلال خروجهم من "التقيّة" إلى "المتولة"، "فقد كانوا يتصورون جبل عامل بالفعل بمقتضى 3 اعتبارات تناسب 3 طرق من الشعور بالانتماء و3 أنماط من الانتماء نفسه: أرض ذات حدود معينة بتاريخها وتقاليدها وعاداتها، ودولة يدخل فيها هذا الكيان الجغرافي والثقافي مع احتفاظه بخصوصياته وبسيادة نسبية، ووحدة دينية تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية وتنظّم على نحو يبقيها مستقلة عن الدولة".

ومنذ أن أصبح العامليون "شيعة"، ذابت القبيلة في المذهب واختاروا هوية تمايزهم. ولم تتمكن التسميات الأخرى من إزاحة هذه الهوية بما هي العامل الحاسم في وحدة الاجتماع الأهلي وفي متغيرات حاله وأحواله. ومما لا شك فيه، فإن ولاء العامليين لنهج أهل البيت، بما هو إختيار فكري – إعتقادي، كان من أهم أسباب رسوخه وثباته، مقارنة مع أنماط أخرى من التشيع الناتجة من الأهواء والمصالح والمنازعات السلطوية، بحيث يمكن القول إن تشيّع العامليين لم يستتبع مشروعاً سياسياً أو ينتج تهديداً ملموساً للسلطة، منذ العباسيين إلى العثمانيين، ورغم أن تاريخهم عرف أنواعاً مختلفة من الإعتراض على السياسات الجائرة والإنحراف المتمادي عن تعاليم ومبادئ الإسلام، ورغم أنهم، وبسبب هويتهم المذهبية، عانوا ويلات العنف السلطوي، فإنهم لم يتوسلوا التشيّع سبيلاً إلى السلطة بقدر ما تحصّنوا فيه بانتظار "دولتهم" الموعودة بظهور المهدي، الإمام الثاني عشر.

 وهناك ما يشبه الإجماع في أن بداية التشيع العاملي تعود إلى أبي ذر الغفاري، أحد أشدّ المؤيدين للإمام علي بن أبي طالب، وهو الصحابي الذي نفاه الخليفة الثالث عثمان إلى الشام وضجّ من مواقفه معاوية، فأبعده إلى جبل عامل، حيث نشر أفكاره وزرع بذور الولاء للنهج الذي تحول لاحقاً إلى مذهب قائم بذاته. 

إن مجرد التفكير في انضمام جبل عامل إلى إيران كان رجماً في الغيب، وقفزاً فوق الفواصل الجغرافية، وتحريفاً للوقائع، وإن كان لا يخفي رغبة دفينة في تحصيل حماية خارجية بعدما وجد العامليون أنفسهم فجأة في عراء كامل، من دون دولة مركزية أو إقليمية، ومن دون حماية من أي نوع. 


وبهذا المعنى، فإن تشيّع العامليين كان اختياراً حراً لأفكار ونهج وولاء وتموضعاً إرادياً في مذهب. وهذا ما جعله قادراً على الثبات طالما أنه، هكذا، كان خياراً لا تغريه "الدنيا" وما في معناها [24]. 

ففي الجزء الأول من كتابه "أمل الآمل في علماء جبل عامل"، يذكر محمد حسن الحر العاملي أن تشيّع العامليين بدأ مع أبي ذر الغفاري وأنه أقدم من كل تشيّع آخر، بإستثناء المدينة المنورة، وأن شيعة جبل عامل كانوا أكثر عدداً من شيعة مكة والطائف والعراق وفارس واليمن...[25]. 

ومنذ تلك الفترة، أصبح جبل عامل معروفاً بهذه التسمية وبتلك الصفات التي أعطته خاصيّة ومكانة، وهي صفات زادت من صدقيّتها وغذّت ثباتها رواية منقولة عن مؤسس المذهب الإمام جعفر الصادق، والتي يذكرها الحر العاملي نقلاً عن الشهيد الأول عن إبن بابويه عن الصادق أنه سُئل: "كيف يكون حال الناس في حال قيام القائم عليه السلام وفي حال غيبته ومَن أولياؤه وشيعته من المصابين منهم المتمثلين أمر أئمتهم والمقتفين لآثارهم والآخذين بأقوالهم. قال الصادق: بلدة بالشام. قيل: يا إبن رسول الله إن أعمال الشام متسعة. قال: بلدة بأعمال الشقيف أرنون وبيوت وربوع تعرف بسواحل البحار وأوطئة الجبال. قيل: يا إبن رسول الله هؤلاء شيعتكم؟ قال الإمام الصادق: هؤلاء شيعتنا حقاً، وهم أنصارنا وإخواننا والمواسون لغريبنا والحافظون لسرّنا، والليّنة قلوبهم لنا والقاسية قلوبهم على أعدائنا، وهم كسكّان السفينة في حال غيبتنا، تُمحل البلاد دون بلادهم، ولا يصابون بالصواعق، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعرفون حقوق الله ويساوون بين إخوانهم، أولئك المرحومون المغفور لحيّهم وميّتهم وذَكَرهم وأنثاهم ولأسودهم وأبيضهم وحرّهم وعبدهم. وأن فيهم رجالاً ينتظرون، والله يحب المنتظرين..."[26].

المصادر والمراجع

[1] السيد عبد الحسين شرف الدين: بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين، الدار الإسلامية، بيروت، طبعة 1991، الجزء الثاني، صفحة 467
[2] مقاطع من قصيدة كتبتها زينب فواز من هجرتها المصرية، ويمكن الرجوع إلى نص القصيدة كاملة المنشورة في مجلة العرفان، المجلد الثاني، صفحة 289، وكذلك كتاب الشيخ محمد تقي الفقيه: جبل عامل في التاريخ، دار الأضواء، بيروت، طبعة 1986، صفحة 447. 
[3] محمد تقي الفقيه: جبل عامل في التاريخ، مرجع مذكور، الصفحات 74-75. ونجد العبارات نفسها تقريباً عند محمد جابر آل صفا: تاريخ جبل عامل، دار النهار، بيروت، 1981، الصفحات 24-25. والسيد محسن الأمين في خطط جبل عامل، الدار العالمية، بيروت، 1983، صفحة 47. 
[4] يمكن الرجوع على سبيل المثال، لا التخصيص، إلى كتاب البلدان لليعقوبي، المطبعة الحيدرية النجف الأشرف، 1957، صفحة 83 وما بعدها، الكامل في التاريخ لإبن الأثير، دار صادر، بيروت، 1967، الجزء 12، صفحة 129 وما بعدها، تقويم البلدان لأبي الفدا، طبعة 194، الجزء 13، صفحة 38 وما بعدها، معجم البلدان لياقوت الحموي، الجزء الثاني، الصفحات 110-111.
[5] نقلاً عن جبل عامل في التاريخ، مرجع مذكور، صفحة 83.
[6] صابرينا ميرفان: حركة الإصلاح الشيعي، ترجمة هيثم الأمين، دار النهار، بيروت، 2003 صفحة 486. أما مواقف السيد محسن الأمين وأحمد عارف الزين، فيمكن الرجوع إليها في خطط جبل عامل، الصفحات 69 – 71، ومجلة العرفان، المجلد 27، العدد الأول، صفحة 4.
[7] م.ن، ص. ن على الهامش. راجع أيضاً :

Ernest Renan: Mission de phenicie, Imprimerie Nationale, Pari s, 1874, P.633.
[8] م.ن، ص. ن على الهامش. راجع أيضاً :

Louis Lortet: La Syrie d’aujourd’hui, Hachette, Paris, 1884, PP. 115-116.
 [9] م.ن، ص. ن ععلى الهامش. راجع أيضاً :

Henri Lammens : Les ‘’Perses’’ du Liban et l’origine des Metoualis, MUSJ, 14, 1929, PP. 21-39.
[10] م.ن.، ص. ن على الهامش. راجع أيضاً: Roger Lescot : « les chiites du Liban – Sud », rapport du CHEAM,N3, 1936, 23P.
[11] الشيخ محمد تقي الفقيه: جبل عامل في التاريخ، مرجع مذكور، صفحة 73.
[12] م.ن.، صفحة 76.
[13] للوقوف على رأي الشيخ أحمد رضا، راجع مقالته المنشورة في العرفان: المتاولة والشيعة في جبل عامل، المجلد 11، صفحة 242. ورأي محمد جابر آل صفا في تاريخ جبل عامل، مرجع مذكور، الصفحات 27 – 28.
[14] السيد محسن الأمين: خطط جبل عامل، مرجع مذكور، الصفحات 132 – 133.
[15] الشيخ محمد تقي الفقيه: جبل عامل في التاريخ، مرجع مذكور، صفحة 31.
[16] السيد محسن الأمين: خطط جبل عامل، مرجع مذكور، صفحة 67.
[17] صابرينا ميرفان: حركة الإصلاح الشيعي، ص 32.
[18] الشيخ علي الزين: مع التاريخ العاملي، منشورات العرفان، صيدا، 1954، الصفحات 165-166.
[19] صابرينا ميرفان: حركة الإصلاح الشيعي، ص 168
[20] John M.D. Wortabet: Researches into the religions of Syria. P. 281 
[21] Joseph Olmert: The Shi’is and the Lebanon state. In ‘’Shi’ism, Resistance and Revolution’’, Ed. Martin Karmer, London, 1987, p. 190. 
[22] الشيخ عبد الحسين صادق: سقط المتاع، المطبعة العصرية، صيدا، بدون تاريخ، الجزء الأول، صفحة 149.
[23] الشيخ علي الزين: مع التاريخ العاملي، منشورات العرفان، صيدا،1954، الصفحات 165-166.
[24] حول التشيع في جبل عامل، أنظر جبل عامل في التاريخ، مرجع مذكور، الصفحات 34 – 38.
[25] يقول صاحب أمل الآمل أن تشيّع العامليين "أقدم من تشيّع غيرهم. فقد روى أنه لما مات رسول الله (ص) لم يكن من شيعة علي إلا 4 مخلصين: سلمان، والمقداد، وأبو ذر، وعمار، ثم يتبعهم جماعة قليلون إثنا عشر، وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفا وأكثر، ثم في زمن عثمان لما أخرج أبا ذر إلى الشام بقي أياماً فتشيع جماعة كثيرة ثم أخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيعوا من ذلك اليوم. "ثم ينهي حديثه قائلاً أنه لم يسبق أهل جبل عامل إلى التشيع إلا جماعة محصورون من أهل المدينة، وقد كان أيضاً في مكة والطائف واليمن والعراق والعجم شيعة قليلون، وكان أكثر الشيعة في ذلك الوقت أهل جبل عامل". راجع الشيخ محمد بن حسن الحر العاملي: أمل الآمل، مكتبة الأندلس، بغداد، 1385 ه، صفحة 13 من الجزء الأول.
[26] م.ن، الجزء الأول، الصفحات 15 -16.