بحثاً عن محمد عفيفي مطر... الطفل ومراقب النمل والنحل
شاعر مصري أشهر من أن يُعرَّف، لكن الإنسان والمُزارع فيه يحتاجان إلى إضاءات تسهل تتبع مسارات الفلاح الفصيح بين الأرض والشعر والدم. من هو محمد عفيفي مطر؟
"يا عبد العليم! ما للجِرارِ ادَّحرجَتْ والقُلَّةِ الفخَّارِ عفَّرَها الرماد، والملح، والنهرِ القريبِ مُشَقّقاً، ما للتحاريقِ ارتعت بالجمر والنسجِ المهلهلِ أعظمي وأديمَ هذا الليل.. يا عبد العليم!".
هكذا كان ينادي الشاعر المصري الراحل، محمد عفيفي مطر (1935 - 2010)، أحد أصدقائه وندمائه في إحدى قرى ريف دلتا النيل، حيث وُلد وعاش، كأنه يراقب الزمن على حواف النهر العظيم.
محمد عفيفي مطر شاعر أشهر من أن يُعرَّف، لكن الإنسان والمُزارع فيه يحتاجان إلى إضاءات تسهل تتبع مسارات الفلاح الفصيح بين الأرض والشعر والدم، حسب شوكت المصري، أستاذ مساعد في النقد الأدبي الحديث في أكاديمية الفنون بالقاهرة، وزوج ابنة الشاعر مطر.
أول السفر.. منفى
-
ظل محمد عفيفي مطر فلاحاً يرعى أرضه بنفسه حتى قبل فترة قليلة من وفاته
عانى محمد عفيفي مطر في نهايات عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات، واختلف مع نظام الحكم آنذاك، فكان مصيره أن يُنفى "اختيارياً" إلى أرض العراق، وقبلها إلى السودان، حتى عاد إلى مصر عام 1982 بعد رحيل السادات بأشهر قليلة، ليستقر في قريته "رملة الأنجب"، ولا يتركها إلا يوماً واحداً من كل أسبوع ليتواصل مع الحركة الأدبية في القاهرة.
الثلاثاء من كل أسبوع كان يأتي إلى القاهرة، ويقيم في شقة صغيرة في منطقة "الملك الصالح" في العاصمة المصرية. وداخل مقهى "زهرة البستان" وسط القاهرة، كان مطر يلتقي الأصدقاء والأدباء، وفق المصري، وحين ينهي جولته الأسبوعية تلك ثم يعود إلى مستقره في "رملة الأنجب"، كان الذي يعود هو محمد عفيفي مطر المُزارع قبل الشاعر.
فقد حافظ مطر في داخله، على مدى سنوات عمره، على ذلك الفلاح العامل، يرعى أرضه بنفسه حتى قبل فترة قليلة من وفاته، ما رسّخ عنه فكرة الإقامة الدائمة في قريته في أحضان النيل. وكانت آخر زيارة له إلى القاهرة يوم 30 أيار/مايو عام 2010 ليحتفل مع الأصدقاء بعيد ميلاده الــ 75، قبل أن يرحل بعدها بأقل من شهر واحد، في 28 حزيران/يونيو عام 2010، حيث قضى أيامه الأخيرة في غيبوبة.
اكتفى مطر ببعض الندماء في ريفه البعيد عن صخب المدينة. هؤلاء كانوا أصدقاء العمر، أصدقاء الطفولة، وأولهم ابن قريته الشاعر، مصطفى سليم، الذي يتصل بقرابة إلى زوجة الشاعر الراحل. كما كان من بين أصدقائه الشاعر، فتحي عبد الله، ابن قرية "رملة الأنجب" أيضاً، ثم المهندس، أحمد اللمعي، وهو رجل يعمل في مجال الدواجن ولديه أرض زراعية، ثم الأستاذ، عبد العليم يوسف، ابن صديق عمر محمد عفيفي مطر، الذي ورد اسمه في إحدى قصائد الشاعر في ديوان "هلاوس في ليلة الظمأ".
نحل ونمل.. مطر وبيئته ومفرداته
-
كان صاحب مطر يقضي يومه في بيئة خصبة يستل منها الشعر في كل شيء
كان صاحب "فاصلة إيقاعات النمل" يقضي يومه في بيئة خصبة يستل منها الشعر في كل شيء. فقد كان عميق النظر في أبسط الأشياء. يتدبرها ويتخذ منها شواهد شعرية، فالمَنحَل الخاص به مثلاً يجلس فيه ساعات طويلة لرعاية النحل والخلايا وترتيبها وإدارة تفاصيل تربية النحل من قطف العسل وجمعه وتصفيته. لكن هذه العملية المركَّبة كانت بالنسبة له رحلة تأمُّل ومراقبة لحركة النحل فينعكس ذلك على شعره.
وكذلك كان يفعل مع النمل الذي ينتشر في تلك البيئة، سواء في بيته أو حقله، والنمل عنصر رئيسي في شعر مطر، كما يصرّح المصري لـ "الميادين الثقافية"، فـ"كثير من مقاطعه الشعرية تشمل مراقبة دقيقة للطبيعة وانشغالاً بتفاصيلها، كل شيء في بيئته يتحول إلى خدمة القصيدة".
مريض الكبد المثالي.. وشاعر المواعيد المنضبطة
-
رفض محمد عفيفي مطر الحصول على مخدِّر طبي معتبراً أنه "يغطي على حقيقة وجود الألم ويوهم باختفائه"
كان مطر، كما يقول المصري، محباً لليل في سكونه، لكنه رغم الاضطرار إلى السهر أحياناً لا يُخِل بمواعيد استيقاظه. فقد كان منضبطاً في مواعيد صحوه ونومه، ولا يصيبه الأرق الليلي إلا مع الكتابة وانشغاله بنص جديد. لكن هذا لا يثنيه عن أن يفتح عينيه مبكراً كما اعتاد منذ الطفولة، فيما كان يبقى صامتاً في أغلب أوقات يومه، ولا يميل إلى الفرجة على التلفزيون باستثناء الأفلام الوثائقية التي كانت تستهويه.
من المعروف عن مرضى الكبد أنهم يعانون أشد المعاناة مع أغلب أنواع المأكولات والمشروبات، فهم تقريباً ممنوعون من معظم الأطعمة. لكن مطر كان مريض كبد منضبطاً ومثالياً، فهو لم يكن أكولاً، بل كان شبه زاهد في الطعام، يأكل بمنطق التذوق لا لملء المعدة ولا حتى نصفها، يتذوق من كل الأطعمة، فلا يتأذى بطنه مما يأكل، لأنه يكاد يكون صائماً.
وفي هذا الإطار، يقول شوكت المصري، إن الشاعر الراحل أُصيب بفيروس "سي" وهو في الأربعينيات من عمره. إذ اكتشف إصابته بالبلهارسيا وتوابعها وآثارها في الكبد، ولما كان نموذجياً وبسيطاً في طعامه فقد كانت المعاناة مع هذا المرض تضمحل. كما كانت عاداته خالية من "المشروبات الغازية"، فلم يكن يتقبلها، بل يسخر منها أحياناً ويستنكرها قائلاً: "ما هذا الأسود؟، لماذا لا نشرب المشروبات المصرية كالخروب والتمر الهندي أو عرق السوس؟"، إذ كان يؤمن بأن هذه المشروبات العجيبة، ومعها أكلات "التيك أواي"، غير مفيدة إطلاقاً.
ومع هذا الزهد في الطعام كان محمد عفيفي مطر طاهياً ماهراً، لكنه كان يتمسك بطهي أكلات مصرية أصيلة كـ"البِصارة والكِشْك"، فيما يقلل من تناول الأدوية، خصوصاً المسكنات، مكتفياً بالأدوية المكتوبة له لأمراض الكبد، حتى المخدِّر، "البِنْج"، لم يكن يقبل استخدامه في عمليات إزالة الجلطات، معتبراً أنه "يغطي على حقيقة وجود الألم ويوهم باختفائه"، وكان يقول: "ما دام الألم محتملاً، فمن الأفضل ألا أحصل على تخدير".
مطر الأب والجد.. أقرب إلى أمه من أبيه
-
أحد مؤلفات محمد عفيفي مطر
أنجب محمد عفيفي مطر 3 أولاد هم: ناهد ولؤي ورحمة، وكانت زوجته الكاتبة والناقدة نفيسة قنديل، قد أهداها بعض قصائده في دواوينه الأولى، فيما كان شاعرنا أقرب إلى أمه من أبيه، الذي كان يراه متجهماً أغلب الوقت. حتى أنه رفض أن يدفن معه في مقبرته، ولأنه كان أمراً معيباً أن يُدفن في مقابر أخواله، فقد اختار أن يكون محايداً ويُدفن في مقبرة وحده، بعيداً من عائلتي أمه وأبيه.
لم يعرف مطر عن والده الكثير إلا حين توفاه الله، ففتح درجه وقرأ ما كان يكتب الأب من يوميات. هكذا اكتشف كيف عاش الأب صراعاً كبيراً في قريته مع أبناء عمومته وغيرهم على منصب "العُمدة"، وقد أدرك شاعرنا مأساة أبيه وحياته الصعبة، لكن هذا الإدراك جاء متأخراً في كل الأحوال.
أدرك الفلاح الشاعر مطر طفرة الهاتف المحمول، لكنه لم يستعمله إلا كما يستعمل الهاتف الأرضي، حيث كانت علاقته بالتكنولوجيا محدودة، فلم يعرف ما هو البريد الإلكتروني، مكلفاً زوج ابنته بمتابعة ما يرسَل إليه على بريده الإلكتروني، فيما تفرّغ هو للقصيدة، خصوصاً في أيامه الأخيرة، حين ضعف بصره. حتى إن علاقته بجيرانه لم تملأ مهجته، فقد كان يتمنى أن يقرأه أبناء قريته، لكنهم ظلوا يعرفونه بـ"الأستاذ عفيفي المثقف". كان يرى أن الشعب لا يقرأ وأن أثره "ليس مباشراً في الناس"، لذا ظل – مع هذه العلاقات المحدودة - محافظاً على طاقته العقلية في المساحة الأهم والأولى، وهي القراءة والكتابة والانشغال بفكرة ما عن الشعر.
ويقول المصري، إن مطر كان أباً حنوناً مثالياً، يقبّل رأس ابنه أمام الناس، أما أحفاده فكانوا بالنسبة إليه حالة استثنائية، مسموح لهم كل ما هو ممنوع على غيرهم، فلو دخلت عليه حفيدتاه نور أو أروى، كان يترك ما في يديه من قراءة أو كتابة، فيما كان لا يلتفت إلى الكبار من العائلة في الحالة نفسها.
صديق الموت
-
لم ير محمد عفيفي مطر الموت عدواً، بل صديقاً، استشرافاً للحياة الأخرى الأكثر اتساعاً
مات لأم محمد عفيفي مطر أبناء كُثر، فلم يكن يعيش لها ولد حتى جاء محمد، الذي حكى إن آخر "سَقْط" (مولود غير مكتمل) قبل حضوره إلى الدنيا، دفنته أمه في أحد جدران البيت كطقس لطرد شبح الموت من الدار.
ثم عندما ولد محمد عفيفي مطر أقامت له أمه طقساً شعبياً تمثل بدفعه إلى امرأة أخرى أدخلته من طوق قميصها وأنزلته من فتحة الجلباب 7 مرات، وسمّته باسم جديد، وقالت له: "أنا أمّك الجديدة". هكذا صار لمطر أمّين، وصار حزنه حزنين حين رحلتا عن الدنيا.
يمكن القول إن للموت مع محمد عفيفي مطر قصة صداقة. إذ يشير شوكت المصري إلى أن مطر " لم يكن يرى الموت عدواً، بل صديقاً، استشرافاً للحياة الأخرى الأكثر اتساعاً، باحثاً عن الفلسفة والحكمة في كل شيء".