بروفة أولية للهجرة والنزوح واللجوء

المهاجرون السوريون قادهم حظّهم العاثر إلى سفينة "التايتانيك". سمعوا بالسفينة الحلم وإذا بها تقودهم إلى الهلاك. في شهادات الناجين نكاد نسمع الصرخات المتوحشة، وحالات الهياج أمام الأبواب التي كانت تعزل ركاب الدرجة الثالثة عن سواهم.

  • السورية عدل نصر الله، كانت تبلغ من العمر 14 عاماً عندما نجت من غرق التايتنك فيما توفي زوجها نقولا.
    السورية عدل نصر الله، كانت تبلغ من العمر 14 عاماً عندما نجت من غرق التايتنك فيما توفي زوجها نقولا.

هجرة، نزوح، لجوء، "أخذ عسكر"، مفردات أثقلت معجم السوريين بالكوارث طوال قرنٍ كامل. حدثت الكارثة الأولى بغرق سفينة التايتانيك بتاريخ 12 نيسان/أبريل عام 1912 كيوم شؤم لا يُنسى لأسوأ نهاية يتوقعها أولئك الذين حلموا بحياة أفضل في ما وراء البحار. إذ وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام الموت. السفينة "المارد" التي تتحدّى الغرق، اصطدمت فجأةً بجبل جليدي في مياه المحيط الأطلسي فحدثت الفاجعة. حكايات كثيرة اهتمت بسير الأثرياء الذين كانوا على متن السفينة، لكن لم يلتفت أحد إلى ركّاب الدرجة الثالثة، هؤلاء الذين كانوا في الطبقة السفلى من "برج بابل" العائم. 

لن نجد في غرق هذه السفينة النفحة الرومانسية التي عشناها في الفيلم المقتبس عن هذه الحادثة المفزعة، أو نسخة نادرة من رباعيات عمر الخيّام وفقاً لمخيلة أمين معلوف في روايته "سمرقند". لحظات من الرعب والصراخ والفقدان. غرقى لم يجدوا من ينتشل أرواحهم من الموت المحقّق، على بعد أمتار من قوارب النجاة. كان بوليس السفينة يطلق الرصاص على أيّ رجل يحاول التسلّل إلى القوارب المخصّصة للنساء والأطفال. بعض من نجا أخفته النساء تحت أثوابهنّ، لكنّ مئاتٍ منهم ابتلعته أمواج الأطلسي من دون رحمة. 

المهاجرون السوريون قادهم حظّهم العاثر إلى هذه السفينة. كانت رحلة الهجرة تبدأ من مرفأ بيروت إلى مرفأ مرسيليا. هناك سمعوا بالسفينة الحلم، وإذا بها تقودهم إلى الهلاك. في شهادات الناجين وأرشيف الصحف في تلك الفترة، نكاد نسمع الصرخات المتوحشة، وحالات الهياج أمام الأبواب التي كانت تعزل ركاب الدرجة الثالثة عن سواهم.

كان المهم بالنسبة إلى طاقم السفينة، إنقاذ ركّاب الدرجة الأولى وحجز قوارب النجاة لهم. لكنّ بعض مسافري القاع قفزوا من سطح السفينة إلى القوارب، غير عابئين بالتهديدات وصوت الرصاص. حين ابتلعت المياه جثّة السفينة، كان الناجون ممن انقذته سفينة "كرباثيا"، قد دفن إلى الأبد أحباءه، من دون أن يعرف مصيره اللاحق.

نساء ذاهبات إلى المجهول، ترمّلن بعد أسابيع من زفافهنّ. أطفال فقدوا آباءهم، وأزواج ينتظرون على الشاطئ الآخر من دون أمل. بالنسبة للناجين وعائلات الضحايا شكّلت الكارثة، غرق التايتانيك، انهياراً لحقيقة الحلم. وفجأة حلّ كابوس لا يُنسى محلّ التصورات المستقبلية التي أصابتها غشاوة مباغتة. قصص كثيرة ظلّت طي الكتمان عن بعض المجهولين من الركّاب السوريين الذين لم يهتمّ أحد بمصائرهم قبلاً، باعتبارهم من ركّاب الدرجة الثالثة.

يروي أحد الناجين حكايته قائلاً: "صرخات الموت المريرة المنبعثة عمّا يزيد على ألف حنجرة، عويل وأنين المتألمين، زعقات المرعوبين، والتمسّك المخيف بالنَفَس الأخير لأولئك الذين يعانون ألم الاحتضار الأخير، ذلك ما لن ينساه أيّ منّا أبداً".

بتدبير من المجاعات والعوز والحلم بأرض الذهب والثروة، هاجر آلاف السوريين إلى الولايات المتحدة من دون أن يعرفوا موقع هذه البلاد على الخريطة، لكن البواخر ألقت حمولتها على شواطئ أميركا اللاتينية لخطأ في الترجمة، فانتشروا في تشيلي وفنزويلا والأرجنتين كباعة جوّالين، وبدلاً من اكتشاف الذهب، اكتشفوا مشروباً سحرياً اسمه "المتّة". المشروب الذي سيجلبونه إلى ديارهم بعد سنوات من الاغتراب كمشروب وطني.

حدثت هذه الهجرات بمواكبة الحملة العثمانية لسوق الرجال في الولايات العربية التابعة لدولة الخلافة العثمانية إلى حرب لا تخصّهم بما عُرف ب"السفر برلك"، فمات معظمهم في بلادٍ بعيدة، فيما عانى الأهالي من أعظم مجاعة شهدتها المنطقة بموازاة اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914- 1918). إذ حاصرت الأساطيل البريطانية والفرنسية شواطئ بلاد الشام ومنعت دخول الإمدادات والمؤن إلى القوات العثمانية التي انضمت إلى دول المحور ما انعكس على الأهالي، بعد أن صادر العثمانيون مخزونهم من المؤونة لمصلحة الجيش بذريعة النفير العام.

ستتعدّد صيغ "السفر برلك" في مجاعات متعاقبة ونزوحات فرضتها الطبيعة من جهة، والصراعات المذهبية من جهةٍ ثانية. هكذا لجأت الأقليات إلى الجبال هرباً من الاستبداد العثماني وأنشأت مجتمعاتها القروية المغلقة قبل أن تحكم القبضة الإقطاعية مخلبها في رقاب هؤلاء الفلاحين، الذين عملوا كأجراء أو مرابعين أو خدم في شروط معيشية قاسية طوال النصف الأول من القرن العشرين.

في تسعينيات القرن المنصرم شهدت الجزيرة السورية العليا أكبر عملية نزوح نحو مدن الداخل بسبب الجفاف والتصحّر والقرارات الحكومية الجائرة، وعمل النازحون في مهنٍ وضيعة. كما تسرّب آلاف الأطفال من المدارس، وفرغت عشرات القرى من قاطنيها، وباتت دمشق ملجأً هجيناً للفلسطينيين والعراقيين وأبناء الجزيرة السورية، ما وضع المنظمات الإنسانية في مأزق، فهذه الخيام الطارئة لنازحي الداخل لا اعتراف حكومياً بها، وتالياً فهي ليست من اختصاص المنظمات الدولية، فكانوا نهباً للعراء والإهمال والعوز، وإذا بأبناء العشائر يخضعون لقيم جديدة بوصفهم غجراً لا سكان أصليين.

في حوار مع أحدهم قال بأسى" الديرة طلبت أهلها"، في إشارة إلى رغبته بالعودة إلى دياره، كي لا يتكرّر معه ما حدث لجاره الذي أُحتجز جثمانه في برّاد الموتى أسبوعاً كاملاً ريثما يجمع أبناؤه أجرة المستشفى وكلفة سيارة الإسعاف التي ستنقله إلى قريته البعيدة ليُدفن هناك.

هذا أقصى ما يتمناه النازح السوري في تلك الفترة، إلا أن الحرب الدائرة في البلاد منذ عقد ونصف العقد جعلت هذا النوع من النزوح بروفة أولية لاقتلاع أشدّ فتكاً، إذ جرى تهجير الأهالي من مكان إلى آخر بذرائع مختلفة، وذلك في أضخم عملية تجريف ديموغرافية شهدتها البلاد، أما موجات اللجوء الراهنة فلها شأن آخر!