بطرس يا بطرس

لكلّ عصر بطرسه. بطرس يخاف وينكر ثم يبكي. وما أكثرهم في أيامنا من يفترس الخوف وجدانهم.

في الليلة الليلاء سلّم يسوع نفسه للموت المحيي. كان ظله بطرس معه. التلميذ الأوفى الذي ما طلب يوماً كما توما تحسس جروح المصلوب بإصبعه. هو الصياد الذي رمى شباكه المخرمة إلى سمك البحر وذهب ليتصيّد الحقيقة.

تتبّع بطرس النور المتجسّد. رآه يشفي الأجسام من الأسقام، يحب ويكره. كان لصيقاً بالمعلم جسداً وروحاً. كافأه المخلّص بتكليف ما زالت الكنيسة تتناقله في هيكلها المقدّس. "أنت الصخرة" قال له ثم أردف "وعلى هذه الصخرة سأبني بيعتي". انكسر بطرس يومها ولحسن حظ البيعة لم تنكسر الصخرة.

حين تجهّمت السماء وتهجّم أهل الأرض على أهل السماء، تراجع بطرس. خاف من الأرض. أنكر السماء. ثلاث مرات تنصّل من يسوع قبل صياح الديك. سقوط بطرس لم يكن في الجسد، بل في النفس. أنكر بطرس معلمه. خانه بالنكران.

بعد النكران بكى بطرس ودموعه كانت صادقة. شفاعة الدموع ألا تكون أكذوبة تمساحية. ذرفها قلب بطرس قبل أن تذرفها عيناه. لم تكن عبراته غفرانية فحسب. كانت عين ماء الصحوة وإكسير الوجدان ودواء ناجعاً ضد التهابات الضمير.

خوف بطرس كان البوابة. بإنكاره يسوع فتحت له البوابة دفّتيها. حين يتغلغل الخوف تطفئ المصابيح. تلج الكذبة إلى الذات لا إلى الآخرين . بطرس والحالة هذه لم يكذب على أحد. بطرس كذب على نفسه ناكراً من يحبّ ومفرّطاً بالحقّ.

لكلّ عصر بطرسه. بطرس يخاف وينكر ثم يبكي. وما أكثرهم في أيامنا من يفترس الخوف وجدانهم.

لم يحمل يسوع سيفاً ولا أراد من بطرس استلال السيوف بل حمل كلمة الحقّ في وجه الظلم. سار بين الفقراء، وواجه الطغيان بالمحبة، والظلم بالعدل، والكراهية بالغفران. كان المسيح أول من قاوم القهر لا بالعنف، بل بالقيم التي لا تهزم. وقف في وجه الإمبراطورية بكلمة، وفي وجه الفساد بنقاء القلب. هو المقاوم الأول. مقاوم علّم البشرية أنّ القوة في الحقّ، لا في القوة.

الصبر من سلالة النور. هو ما يبقي الروح منتصبة. الصبر من مشتقات اليقين. تركيبته لا تتفكّك ولا تتخلّل. هو السلاح الأمضى في شدائد الزمان ولبنان نموذج.

المقاومة ليست فكرة فحسب. إنها نبض. روح. وطن. لا دين لها سوى الكرامة. لبنانية، لا شرقية ولا غربية. حملها المسلم والمسيحي معاً. سقط من أجلها شهداء من كل بيت. كل طائفة.

من يزعم أنها غريبة، فليقرأ أسماء شهدائها. فليزر مقابر الجنوب وروضات شهداء الضاحية والبقاع وبيروت وجبل لبنان. فليسمع أصوات أمهات الشهداء. المقاومة ولدت من رحم عذابات الناس، في الجنوب على الأخص. ربّاها الحرمان والخذلان وإهمال الدولة. صارت رجاء.

وكما حملت المسيحية صليبها، حمل المقاومون جراحهم. المسيح لم يسكت أمام الظلم. قلب موائد الهيكل بعصا. قال الحقيقة ومشى بها إلى الصليب.

وإسطفانوس؟ قال كلمة حقّ، فكان رجمه. وأغناطيوس؟ حاول الإمبراطور الروماني إغراءه لترك المسيحية فرفض فاستشاط الإمبراطور غضباً وأمر أن يقيّد بالسلاسل ويؤخذ إلى روما ليلقى للوحوش فبادر أغناطيوس بتقبيل السلاسل التي ستكون وسيلة إلى نيله إكليل الشهادة، وقد سعى المؤمنون أن يخلصوه بدفع أموال للجند فرفض لأنه كان متعطّشاً للاستشهاد. مضى إلى الوحوش وهو يكتب عن الفرح. بربارة؟ لم تساوم. وجان دارك؟ قاومت حتى النار.

تلك هي المسيحية التي نؤمن بها. المسيحية الرمح. الإسلام الرمح أيضاً. عروة وثقى بين الرسالتين.

خوف بطرس أنبت الإنكار. والإنكار خيانة. هذا لم يقفل طريق الشهادة لبطرس. صبره كان طوق نجاته. نستطيع مقاومة الصخرة بالماء. المخرز بالعين. قال لاو تسي: "الماء يلين، لكنه لا يقهر". وكونفوشيوس علم أن الشجاع ليس من لا يخاف، بل من يواجه خوفه. سقراط حين أدين، لم يخف. واجه. لم ينكر. شرب السمّ بثبات.

اليوم، يحاول العدو زرع الخوف. يقصف، لا ليقتل فقط، بل ليربك. ليحوّل اليقين إلى شكّ. يريدنا أن ننكر. أن نشكّك. ثم نطبّع. فيصبح الباطل حقاً. بطرس في كلّ واحد منا اليوم. يريد الإسرائيلي أن ينتزع إنكارنا للحقّ قبل صياح الديك ولو لمرة واحدة.

التطبيع أيها السادة يمرّ من بوابة الخوف. من نافذة إنكار المقدّسات. من إنكار المسيح والحسين وتشي غيڤارا وأدهم خنجر ويوسف العظمة على تفاوت مراتبهم في وجدان الشعوب. يريد العدو أن نصلب بصمت. بالاعتراف أننا أبناء صليب لا أبناء قيامة. لكننا نعرف. ونفهم. ولن نخدع.

علينا أن نعيد الصياغة. أن نربط بين الصبر والشجاعة. بين الإيمان والثبات. بين دم الشهداء وأمانة الأحياء. فالدماء ليست بورصة. لا تباع ولا تشترى.

المقاومة شرف. والتفريط بها خيانة. والتاريخ لن يرحم. يجب ألّا تملي علينا لحظة ضعف مسار أمة. الصراع مع الصهاينة ليس عرضاً عابراً. إنه جرح مفتوح لا يلتئم بالإنكار ولا يشفى بالتطبيع. إن دماء المسيحيين الأوائل، وشهداء الإسلام، وكلّ من قاوم، تصرخ: لا تخونوا.. لا تنكروا.

هذه المقاومة، بصبرها، بثباتها، بحبها، هي الحياة وهي النور وهي العهد الذي لا يكسر. فلنكن أوفياء. لا بطرس الخائف. بل بطرس الذي تاب. هناك في مكان ما من لبنان حقّ لا ينكر، ومقاومة لا تهزم، ورب لا يخذل.. والسلام.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك