بمشاركة 7 مبدعات.. هنادة الصباغ تُجدِّد إيمانها بعقيدة الدمى

أعمال الورشة كانت مفعمة بتعبيريتها الهائلة وجماليات خطوطها، والدراسة المتقنة لألعاب الظل والنور وقدرتها على أسر العين.

تؤكد هنادة الصباغ على إيمانها بما أسماه الباحث الفني الأميركي جون غراي "عقيدة الدمى". إذ إنها منذ عرضها المسرحي "حياة من ورق" وبعده "موزاييك العرائس" ثم "القبطان والفئران"، والآن في الورشة التي أقامتها في "غاليري البيت الأزرق" بعنوان "دمى من كرتون"، ما زالت الصباغ تُجسِّد روح ذاك الإيمان المُتمحور حول أن الدمى أكثر حرية من البشر، بغض النظر عن وعيها. فالماريونيت لم تكتشف قانون الجاذبية بعد، ولا تعرف شيئاً عن القصور الذاتي للمادة، وهي في طريق تحقيق وعيها الذاتي تدين بالغنوصية/العرفانية التي تُحرِّرها من ماديتها وتبث فيها الروح.

والمُبهِر في مُخرَجات هذه الورشة، هو قدرة المشاركات تايا عثمان، رندا الشماس، ريم الحايك، ريم الماغوط، روان عودة، زينب علي، سحر سالم، بما فيهم المشرفة الصباغ، على تحقيق ذاك الإيمان من خلال خامة الكرتون (الورق المقوى) البسيطة وحدها، وذلك وفق تدرُّج في عملية الإحياء، بدأت من لوحات بورتريه، لتتحرر الوجوه من أُطُرِها شيئاً فشيئاً، نحو مشهديات من الحياة اليومية، فيها زخم بالمشاعر والهواجس، ثم لم تلبث أن تحوَّلت شخصيات تلك المشاهد، إلى مُجسَّمات كبيرة لها فضاؤها الخاص، وفيها من الروح ما يجعل ملامحها تكاد تنطق.

طبعاً تحقق ذلك برؤى جمالية لافتة. مجرد التأمل البسيطة فيها، يُحيلنا إلى معماريات خاصة من قصاصات الكرتون بأشكالها الهندسية المختلفة، مثلثات ومستطيلات ومربعات ودوائر، شرائط طويلة مستقيمة أو مُجعَّدة، حلقات مختلفة الاتساع، وطبقات متعددة المساحات، وكلها تمّ تسخيرها لخلق نبض خاص بكل عمل.

أعمال كانت مفعمة بتعبيريتها الهائلة، وجماليات خطوطها، وانضباط تكوينها، والدراسة المتقنة لألعاب الظل والنور، وقدرتها على أسر العين، ودفع النَّاظر إليها للتأمُّل في معقولية ما يراه، ومدى الجَلَد لتصميمه، والأهم الإيمان بإمكانية تحقيقه، رغم قصر زمن الورشة (شهران) وانتماء المشاركات فيها إلى اختصاصات مختلفة بين الفنون الجميلة، والعمارة، والسينوغرافيا المسرحية، والتمثيل.

ورغم عدم استخدام الألوان في جميع الأعمال المعروضة، إلا أن حيوية لون الورق المقوّى كانت آسرة هي الأخرى، لا سيما مع اقترابه من لون الجلد البشري، لتأتي تقنيات التنفيذ في مقاربات لإحساس ضربات الريشة، والتهشير، وما يشبه كثافة العجينة اللونية، وغير ذلك، فتشعر أن عملاً ينتمي إلى روح فان غوخ الانطباعية، وآخر متجذِّر في تكعيبية بيكاسو، وثالث يتكئ على واقعية ليوناردو دافنشي، ورابع يقارب التعبيرية، وآخر تجريدي، وكأننا أمام تجسيد لمدارس فنية مختلفة بإيحاءات الكرتون وحدة، وبالحياة التي بثتها الفنانات الثمانية فيه.

ولمزيد من الإبهار، لم تكتفِ هنادة الصباغ وشريكاتها بإبقاء دُماهنَّ مُعلَّقات بخيطان شفافة، أو مُتَّكئات على جدران وأبواب وأشجار ودرابزين البيت الأزرق وشرفاته وأدراجه، بل جعلنَ أعمالهن تتحرك وتنفعل وتعبِّر عن مكنوناتها على وقع الموسيقى، في عرض ساحر. كأن إرادات الدمى تحررت، وانعتقت من جمود مادِّيتها.

فقد رأينا دميتان ترقصان معاً، في تأكيد على إمكانية الكرتون في أن يتجسَّد مذكراً ومؤنثاً، وماريونيت يعزف الكمان، ودمية تعزف على الدف، كما شاهدنا المرأة العجوز تتمشى في ساحة البيت الدمشقي على أنغام أغنية "بيتك يا ستي الختيارة بيذكرني ببيت ستي"، بينما دمية تُجسِّد السيدة فيروز تغنّي على الشرفة، وتكمل "يا أهل الدار طعمونا يا أهل الدار اسقونا"، فيتمايل معها القروي بقبعته الكبيرة، وفي زاوية أخرى تتلوى الحيّة، أما الدجاجات والديك فيتحركون بحيوية.

اتبعت الصباغ في الورشة منهجاً أكاديمياً لمسرح العرائس وطرائق تصنيع الدمى فيه، وحول ذلك قالت في تصريح خاص بــ "الميادين الثقافية": "اشتغلت بدايةً مع الفنانات المشاركات على مفهوم القناع وآليات تنفيذه، ثم حرَّكناه برقبة، لننتقل بعدها إلى تحريك الجذع والرجلين، وصولاً إلى منحوتة كاملة من مادة خام بسيطة قادرة على أن تتحرك بالكامل، لذلك سعيت إلى أن أُقرِّب بين الفنانات ومسرح العرائس شيئاً فشيئاً، لأن مسرح العرائس فنّ شامل هو نحت ورسم ثلاثي الأبعاد وفيه اللون والماكياج والـ"جيستات" الحركية.

وعن مادة الكرتون أوضحت هنادة أنها كانت مفاجأة للكل، بملمسها وإحساسها وألوانها الطبيعية، حيث استخدمناها بكل تفاصيلها بتجعيداتها واستوائها، وألوانها الفاتحة والغامقة، المهترئة والصامدة، قائلةً: "خرجنا بنتيجة مذهلة، أذهلت المشاركين في الورشة أنفسهم، فمن هذه المادة البسيطة التالفة استطعنا أن نشكل تماثيل متحركة بإمكانها أن تُبدي مشاعرها، صحيح أنها مادة هشة لكن بإمكاننا استخدام مواد صلبة أكثر، ومن يرى الصور يعتقد أنها من خشب أو صلصال، وعندما يشاهدها واقعياً يتفاجأ أنها من مجرد كرتون".

وبيَّنت صباغ أن الجانب الثاني من نتاجات الورشة تمثَّل بالدمى الورقية المصنوعة من ورق بسيط، والتي جسدت شخوصاً حَمَلت من خلال الجيست الحركي انطباعات مختلفة، وطرقنا من خلالها مواضيع الحياة بشكل عام، والتي تتمحور حول الإنسان ومشاعره، ومنها العبودية، المرح، الهروب، الحياة كمسرح، المحبة، النجاح، الفشل، الهجرة... لتختم بالقول: "الدمية ليست مخصصة للأطفال فقط، وإنما هي فن عالمي، بإمكاننا أن نتواصل من خلاله مع أي كان، ونطرق فيه أي موضوع نريده، ومن خلال هذا المعرض استطعنا أن نضفي على البيت الدمشقي بحميميته مزيداً من إحساس بالألفة والمحبة والروح الحلوة".