بيروت مدينة الحياة!

المعنى الثقافي لبيروت هو أبرز أسباب صمودها وبقائها مدينة للحياة والعطاء والإبداع.

  • الفنانة حنان الحاج علي خلال عرض مسرحيتها
    الفنانة حنان الحاج علي خلال عرض مسرحيتها "جوغينغ"/ بييرو تشيوسي

ما من عاصمة مثل بيروت.

ما من مدينة أيضاً.

مهما دارت الأيام وجارت عليها تظل قادرة على اجتراح أسباب للحياة والاستمرار. ليس في الأمر غلو ولا إنشاء، ولا هي نظرة عاشق لمدينة سمّاها مسقط القلب.

الواقع اليومي في بيروت يبعث على الدهشة والذهول، على الرغم من كل الحروب والويلات، الإهمال والحرمان، العشوائية والفوضى، وتنصّل السلطة من كل مسؤولياتها ما تزال "ست الدنيا" تضج بالحياة.

الأهوال التي مرت على بيروت لو مرّ نزر يسير منها على أي مدينة أخرى لكانت اليوم في خبر كان، ولكان لبنان تشظّى وتناثر شقفاً وأجزاء، لكن هذه المدينة المنذورة للنوائب والمِحن تدفع ثمن سحرها وجمالها، كل مرة تُرمى في الجُبّ تعود لتخرج من جديد أكثر فتوة ونضارة.

لعلّها الآن في فترة اصفرار وشحوب بفعل أسباب كثيرة، منها الانهيار المالي والاقتصادي وسرقة جنى أعمار اللبنانيين على يد مَن يُفترَض بهم أن يكونوا حراس هذا الجنى، لكنّ "حاميها حراميها" كما يقول المثل العامي، ومنها الفوضى المفتعلة في شوارعها وميادينها (راجع مقالة الكاتب: أوجاع رأس بيروت/المدينة المتروكة)، والعدوان الإسرائيلي اليومي على الجنوب، والحصار غير المعلن من قِبل قوى دولية وإقليمية، وعبء النزوح السوري الهائل، والانقسام السياسي العمودي.

كلها أسباب كفيلة بجعل أي عاصمة (وأي وطن) عاطلة عن الحياة، لكن بيروت أقوى من كل ما ذكرناه، عصية على الموت، عصية على فقدان شهوة الحياة. وحين نقول بيروت، نعني لبنان ممثلاً بعاصمته المقاوِمة لكل أشكال الموت والخراب. ولا غرابة، هذه المدينة التي حاصرها العدو الإسرائيلي يوماً، وألقى عليها أطناناً من القنابل والصواريخ، ثم دخلها بخديعة التعهدات الدولية، لم يستطع "جيشه" المختل البقاء فيها طويلاً، واضطر تحت ضربات مقاومتها إلى الانسحاب مدحوراً منادياً بمكبّرات الصوت: يا أهل بيروت لا تطلقوا النار، إنّا منسحبون.

المعنى الثقافي لبيروت هو أبرز أسباب صمودها وبقائها مدينة للحياة والعطاء والإبداع. صحيح، ثمة أصوات تنعى بيروت ظناً منها أن الزمن توقف عند مرحلة معينة، أو حنيناً إلى مرحلة ما، لكن الواقع يقول إن كل مرحلة من مراحل بيروت لها رونقها ومعناها. حتى في السنوات العجاف، سنوات الحرب المسماة أهلية، شهد المسرح اللبناني (على سبيل المثال) أوج عطاءاته مع الرحابنة وفيروز، مع زياد الرحباني، مع روجيه عساف وفرقة الحكواتي، ومع يعقوب الشدراوي وجلال خوري وريمون جبارة وأنطوان ولطيفة ملتقى وعبد الحليم كركلا وسواهم ممن بنوا عمارة المسرح اللبناني الشاهقة. 

ما يصحّ في المسرح ينسحب على الشّعر والرسم وكل أشكال التعبير الأدبي والفنّي. وما يصحّ في زمن الحرب، يصحّ الآن حيث تغصّ المسارح اللبنانية في مونو ودوار الشمس (الطيونة) ومسرح المدينة (الحمرا) وسواها من صالات عرض بأفواج الآتين لمشاهدة عروض متنوعة يقدمها مسرحيون من أجيال مختلفة يغلب عليها عنصر الشباب، وكذلك الحال مع الأمسيات الموسيقية والغنائية ومعارض الكتب والرسم وسواها من "حيويات" ثقافية تمثّل المعنى الحقيقي للعاصمة اللبنانية التي تستمر على قيد الحياة بفعل قوة عصبها الإبداعي. فلولا هذا العصب لكانت مجرد مدينة من عشرات المدن المتناثرة على ضفاف المتوسط. 

كتبت لها في كتابي "بيروت المدينة المستمرة": "بيروت تجربة حرية، تجربة حياة (…)، تحتفل بالجديد وتحتفي به، وتحفظ للقديم حقّه ومقامه، لكنها لا تحوّله طوطماً، تكرّس الرواد والمؤسسين والرموز ولا تقدّسهم كي لا ينأى أحد عن السجال والمساءلة. كتابها دائماً بيمينها، ترفعه إلى أعلى، على رؤوس الأشهاد وأسنّة الرماح، شهادة لها وعليها، وعلى الذين جاؤوها غزاة وفاتحين، عشاقاً وملهوفين، صعاليك ومنفيين، وشهادة للمقيمين أبداً في ضيافة حريتها الباهظة.  بيروت زادتني حُبّاً، زادتني حرية".

في بيروت لا تعود الحرية مجرد فكرة أو شعار، قصيدة أو أغنية، لون أو لوحة، تظاهرة أو هتاف. إنها، مع كل ذلك، وقبل كل ذلك، عيش وسلوك ونمط حياة.