بين بيروت ومونتريال.. دارين حوماني تحوّل الغربة إلى قصائد

تقول إنه: "كلما ابتعدنا عن مسقط رأس الألم كلما تمكنّا من رؤيته بشكل أعمق". حول مجموعتها الجديدة حاورت "الميادين الثقافية" الشاعرة اللبنانية دارين حوماني، وسألتها عن دور الغربة في غنى الوحي الشعري، وهنا نص الحوار.

"عزيزتي بيروت...هنا مونتريال" (العائدون للنشر) مجموعة شعرية جديدة للّبنانية دارين حوماني. شاعرةٌ مدنية تشبه نصها، تكتب ذاتها وتكتبنا فيه، وهي في الوقت نفسه تؤسس لدلالات جديدة في القصيدة النثرية. تخيطُ الحروف على وقع أوجاعها، ومن دون معرفة منّا (أي القراء) تصبح هذه النبضات أحساسينا ومشاعرنا.

أتت لوحة غلاف الديوان للفنان التشكيلي حسن جوني لتترجم ما يختلج في قلب دارين وعقلها، غربتها عن بيروت وهجرتها إلى مونتريال، بل غربة الذات في صدى أوجاع الآخرين وحنينهم إلى المدينة التي لم تغادرها يوماً حتى في غربتها. 

تقول حوماني: "للحبّ تشققات على القبور يجعلك تثق بقدرة الزمن". شاعرةٌ تقف كشجرة وارفة في النص، مكتملة الثمار إلى حين وصول القارىء عند آخر سطر من آخر قصيدة، فيقطف الدهشة والمعنى. تنتقل بين الحبّ والوجع، كانتقالها بين بيروت ومونتريال، غير أنّ هذا الإنتقال لم يكن سهلاً البتة. طريق محفوفة بالتشققات، من مدينة الأوجاع إلى مدينة الضجر، من الشغف إلى البرودة، من الموسيقى إلى الهدوء. وكم من أشجار نبتت على تلك الطريق، كم من قصائد سافرت إلى البعيد، وكم من أصوات قطعت الهواء والحدود...وبين هنا وهناك، شاعرة تبحث عن الحقيقة، تصلي، تعاتب، تثور ثم تهدأ، تحمل الماضي والحاضر، تحمل الوطن والخيبة والبحر وفلسطين والوجع الأول والحنين.

دارين حوماني حاضرة في النص، في بيروت، في الأصدقاء، ولمناسبة حضورها هذا مع صدور مجموعتها الشعرية الجديدة كان لـــ "الميادين الثقافية" معها هذا الحوار.

***

من يواكب شعر دارين حوماني من المجموعة الأولى "أكبر من نافذة قطار" (2008) وصولاً إلى المجموعة السابعة "عزيزتي بيروت...هنا مونتريال" (2023)، يلاحظ هذا التصاعد اللغوي والدلالي في قصائدك، ما الذي يدفعك إلى المثابرة على الرغم من وجع الطريق؟

الحقيقة أنّ كتاباتي كلّها كانت نتاجاً لشحنات واندفاعات حزينة في داخلي، وربما نتيجة خلل داخلي في علاقتي مع المحيط. قد لا أبالغ إذا قلت إنّ هذه المشاعر بدأت معي باكراً، ولكن بحكم تراكم التجارب والخيبات والتنازلات وبحكم أننا نصبح عبر الزمن كائنات مكونة من تجمّع هائل من القراءات، تتغير كتابتنا لتصبح أكثر التصاقاً بالوجود ككلّ من دون أن ننفصل عن الألم الذي يسبّبه هذا الوجود.

في السنة الأخيرة، توقفت مراراً عن كتابة الشعر وعدتُ إلى كتاباتي القصصية القديمة وبدأت أحكي ما أريد عبر القصة القصيرة من جديد حتى شعرتُ فجأة بالخوف من ألّا أكتب شعراً بعد ذلك، ولكن من دون وعي عاد ذلك الإحساس الشعري يتمدّد في داخلي.

وهنا أودّ أن أقول إنّ المسألة ليست مسألة مثابرة ذاتية بمعنى النية لكتابة قصيدة والعمل على صناعتها بحذر، إنها مسألة شعور يتجاوزنا ويدفعنا للكتابة كيفما كانت الكلمات وبأي مستوى وبأي مسافة بين الـ "نحن" والآخرين. قضية المثابرة تأتي في الدفاع عن كتاباتنا الشعريّة، حيث ولأسباب تتعلق باستسهال كتابة ما هو مصنّف "شعر- قصيدة نثر"، صار الناشر يتعامل مع الشاعر بلا مبالاة بحجة أن الشعر "لا يبيع"، كأننا بتنا في عالم ينبذ الشعر، وهنا تماماً يقع الإحباط وتسقط المثابرة.  

 إلى أي مدى ساهمت الغربة من بيروت إلى مونتريال (كندا) في غنى الوحي الشعري؟

كلما ابتعدنا عن مسقط رأس الألم كلما تمكنّا من رؤيته من بعيد بشكل أعمق، وربما بشكل أكثر هدوءاً، كأننا نرى الحقيقة والكون من خارج الكون. مونتريال منحتني الهدوء، نوع من التخدير لألم جوّاني عميق، ولكن كتاباتي لم تتأثر بهذا الهدوء بل وقعتُ في المقارنة بين مونتريال وبيروت، بين نهر سان لوران الذي يقطع كندا مروراً بمونتريال وبين نهر بيروت المخيف بجفافه وتلوثه، بين الأشجار التي لا تعدّ هنا وبين الأشجار التي تُقطع في بيروت، وفي كل لبنان، بدون أي وجع في نفس الجاني.

ونحن اللبنانيين، قلتُ ذات مرة إننا استحلنا أشجاراً، أشجار يسهل اقتلاعها ودفعها للخارج. المقارنات بين مونتريال وبيروت لا تعدّ ولا تحصى، هذه المقارنة جعلتني أغضب من جديد، إنه الغضب من مسبّبي كل ذلك، من كل أسباب هجرتنا التي ليست سوى هروباً، فنحن لسنا سوى هاربين من شقاء ما ولكن ربما أينما كنا سنكون في حالة هروب من شيء في داخلنا، تقول حنا أرندت: "يجب أن يتذكروا أنهم هاربون باستمرار، وأن حقيقة العالم يتم التعبير عنها بالفعل من خلال هروبهم"، وهو الهروب نفسه الذي يخلق هذا الوحي الشعري فينا. 

أنتِ الشاعرة المدنية التي تأخذ بيروت معها حتى في غربتها، برأيكِ ما هو رابط الاتصال بين المدينتين؟ 

أنا مقيمة في بيروت، في شارع الحمرا تحديداً منذ أن أتيت إلى مونتريال. لم تغادرني بيروت، لا بل لم يغادرني كل أساها، وكلما تذكرتها اجتاحتني الرغبة في البكاء. ربما كل مكان نقيم فيه يصبح جزءاً من ذاكرتنا ويصبح دليلاً لنا عند كتابة الشعر ولا يمكن إلا أن ينعكس ذلك في زاوية ما في النص، فكيف إذا كان هذا المكان هو بيروت التي تمنحنا كل أسباب الحزن عليها منذ العام 1975 وحتى الآن، وربما تتغذى كتاباتنا من أساها. أما هنا في مونتريال فتتغذّى كتابتي من صوت مياه النهر، المياه هنا لها صوت قاتل في صدري، تخلق فيّ حالة استثنائية من الخروج من هذا العالم، لذلك يبدأ شِعري بقياس الموت والزمن والذاكرة والوقت والماضي والوجود كله، أقول في إحدى نصوصي: "بدأت برؤية أشياء لم أرها من قبل.." وهذا تماماً ما أقصده. بالمعنى العملي لا اتصال مباشر بين المدينين سوى بفكرة المكان المحمّل بشجن سحبته معي من بيروت ويقيم معي هنا، وفكرة هذا التلاقح الشعوري بيننا وبين أصوات كل مدينة نعبر فيها.  

في قصيدتك "أشياء لم أرها من قبل" تغوصين في عمق العلاقة بين الموت والولادة، بين الحرية والعبودية، بين الصفح والتخلّي". ماذا تخلّت عنه الشاعرة ليرى القارئ هذه المفاهيم الوجودية في ديوانك الجديد؟

كتابتي هي تمثيل لحياتي، تنبثق كلّها من شقوق جوانية، من الماضي الموسوم بالشعور بأني في سجن صغير وصولاً إلى الحاضر وشعوري بأننا كلنا في سجن كبير. تصبح الكتابة نفسها هي هذا الجسد وسط عالم يعمل على تشويهه وينتج عن ذلك التشويه وذلك الموت لغة حيّة ترتكز على المساءلة الكليّة للكون. يقول نيتشه: "من لا يستطيع التخلي عن شيء لن يستطيع الإحساس بأي شيء"، ربما يجب أن نَعْبُرَ داخل شعور التخلي كأنه خطوة ضرورية للإدراك الحسّي من جديد. هذه الأفكار تسكنني شعرياً، والنفاذ إلى الحياة بكل مكوناتها وكائناتها وحيث ينتابنا الشعور بأن الحياة نفسها بلا معنى. أقول "الطريقة الوحيدة للصفح عن الإله والآخرين، التخلي، كما يتخلى الإله عنا وقت الألم"، تصبح الحياة ممكنة كمعادل للوحدة وللقدرة على التخلي عن الآخرين من أجل الصفح، وحيث نشعر مع تراكم أخطاء الآخرين وكأن الحياة نفسها بدأت تتراجع فينا، ولذلك يصبح وجوب الابتعاد ضرورياً. أما قَولي عن تخلي الإله عنا وقت الألم، ربما هي الحقيقة التي لا نريد أن نعترف بها ونحن ننظر إلى مآسي العالم وإلى الظلم في كل مكان وكأننا أمام دراماتورجيا مفككة وموصولة بالألم والتي لا منقذ منها سوى الموت.   

نجد في مجموعاتك الشعرية إطلالات مكثفة لـ "الأنا" صراحة أو مواربة، لكنّها تأتي لتخدم الفكرة أو الأفكار التي تخلقينها، فهل الذات الشاعرية لديك ثائرة؟ أم هي انعكاس لجيل من المثقفين؟

تمتزج الأنا مع الآخرين في كتاباتي، ما هو حكاية شخصية هو نفسه حكاية هذا الجيل. إنها مكان للتلاقي، وانعكاس للواقع من أقرب مسافة لأحاسيسي. ثمة ثورة أختزنها من بداياتي في الكتابة، تنطلق من نفاذي داخل نسيج المدينة بكل خيوطها ما يسبّب ترجيعات لأصوات وإصداءات مكثّفة فيّ، يصبح صوتي كناقد حزين يحاول تسجيل كلماته على حائط مدينة تهمّش الكلمات فيشعر بالفشل، ولكن رغم تهميشها فهي تُقال بثورتها وكآبتها ويأسها. إنها نصوص ذاتية لكنها عامة في الوقت نفسه، يقول غيوم أبولينير في كتابه "تأملات جمالية": "لا يمكننا أن نحمل جثة والدنا إلى جميع الأماكن التي نسير إليها، بل نتركها برفقة الآخرين ونتذكره.."، هكذا يصبح الموت مشتركاً والحزن على المدينة وعلى الشعر مشتركاً..

 في ديوانك السادس "أشجار آمنة" (2021) كما في ديوانك الجديد، تستخدمين مفردات الطبيعة ولاسيما كلمة "الأشجار"، على سبيل المثال: "شجرة تنبت في رقبتي.. أساي الدفين الذي ينمو على شجرة عملاقة في صدري.. إعادتي إلى ما كنتُ عليه، إلى شجرة"... وإلى ما هنالك، كيف تساعدك هذه الدلالات تحديداً على البوح؟

لكل مفردات الطبيعة صدى في كتاباتي، وللأشجار تحديداً. لقد كبرتُ في بيروت ومعها، كبرَتْ بيروت بالمعنى الذي أصبحت فيه كل شيء ما عدا ما كانت عليه حتى العام 1975. كنتُ أرى بنفسي كيف تتحول المساحات الخضراء إلى مجمّعات سكنية، بدأ غضبي يوم كنت في السابعة من عمري وإذ بي لم أعد أجد مكاناً للّهو فيه مع إخوتي أمام البيت، ثم في الثالثة عشر يوم لم أعد أجد مكاناً حميماً أسير فيها، ثم في الأربعين حين تم اقتطاع أكثر من خمسين شجرة معمّرة في الشارع الذي كنتُ أعيش فيه واسمه "شارع الجاموس" من أجل الحماية لمسيرة عاشورائية ليوم واحد، مع الحق في الحماية لكن كان يمكن استبدال المكان بدل اللجوء إلى هذه المجزرة البيئية والإنسانية في الوقت نفسه، في ذلك اليوم أُصبت بما سمّيته ذات مرة "الانفجار المكاني"، لقد سبّب لي ذلك حزناً بالغاً انعكس في العديد من كتاباتي الشعرية، وهو جاء تراكماً من الغضب منذ الصغر لتقطيع الأشجار من أجل تحويل كل زاوية ممكنة في المدينة إلى بناء سكني، حتى فقدنا الهواء والإحساس بالطبيعة، لا بل صرت أتلصص لرؤية السماء وكأن بيروت باتت بلا سماء وبلا أشجار، وهذا انعكس على توتر النفوس في المدينة. الأمر لا يقتصر على ذلك، فإذا قال لي أحد الآن كلمة "جبال لبنان" أتخيل رسماً لجرافة، جرافة تحيل كل أخضر إلى أبيض بحصي ورملي، إنها مشرحة للوطن، وليس فقط كسارات ومقالع ومرامل، استحالت جبال لبنان محميات سياسية. هذا الفقد لعنصر أساسي من عناصر الطبيعة هو إحدى الاندفاعات الجوانية التي تحرّضني على الكتابة، هي أيضاً استدعاء لفكرة الخارج المؤلم الذي يحيط بنا، وكتابتي هنا هي رسم مباشر لهذا الخارج. 

دارين حوماني شاعرة تشبه نصها وصحافية تكتب مقالات ثقافية باحتراف. كيف تحسن الكاتبة الربط أو الفصل في استعمال أدواتها؟

يقول الروائي والصحافي إدواردو غاليانو: "هناك تقليد يرى الصحافة على أنها الجانب المظلم للأدب. أنا لا أوافق. أعتقد أن كل الأعمال المكتوبة تشكل أدباً، حتى الكتابة على الجدران"، وأنا أوافقه، واختياري للكتابة في القسم الثقافي، بحكم دراستي الجامعية في الصحافة، نابعة من كوني أحب الأدب، أو يسكنني الأدب بشكل مطلق، وهذا ينعكس في كتابتي للمقالات التي أحب أن تكون قصيدة الظل، قصيدتي الأخرى، وضفة من ضفاف خريطتي الشعرية الصغيرة. مرة قال لي الرسام البريطاني توم يونغ حين كتبتُ عن معرض تشكيلي له "أشعر وأنا أقرأ المقال أنني أقرأ شعراً"، وبعد فترة قال لي المصور فوتوغرافي اللبناني ضيا مراد حين أرسلتُ له مقالة كتبتُها عن أعماله، "هذه ليست مقالة، هذه قصيدة"؛ أشعر بهذا المعجم اللغوي الشعري يتسلل بين كلماتي عند كتابة أي مقالة، فالحس الشعري فيّ يتداخل مع الكتابة الصحافية، ربما لأنني لا أحب المقالات الصحافية الجامدة، أشعر أن هذا البثّ للروح الشعرية في النص قد تحييه. 

ماذا تريد دارين حوماني أن تقول ونحن نطوي سنة جديدة من عمر الوقت، في هذا الفراغ الشاسع الذي نعيشه.

استذكار الوقت والعمر والزمن يُحيي في داخلي شجناً دفيناً، ربما حين نقطع سن الأربعين نشعر أن ما هو آتٍ أصبح بلا شك أقل ممّا مضى وهذا يثير المخاوف وخصوصاً حين نشعر بالخسارة وبرغبة أن نضع ماضينا على الرف ولا نعود ذهنيًا إليه. نحن لا نملك أي أداة لإيقاف الزمن وللعودة إلى الوراء لإصلاح ما مضى، يكفيني أنا أن أنظر إلى ما تبقى من عمري محمّلة بمشروع كتابي هو نفسه انتصاري الوحيد على الزمن، وهو الشعور بالحرية في عالم محكم بالاستعباد بأشكال متعددة، والأهم هو فكرتي الوحيدة عن الممكن الجميل في كل ما هو آتٍ.