تاريخ جديد

لقد تسبَّب زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي بكوارث لا عَدّ لها ولا حصر، لكن أخطر ما فعله اتفاق سايكس بيكو معطوفاً عليه وعد بلفور، ليس تقسيم الجغرافيا فحسب، بل تقسيم الأمة الواحدة وجعلها مجموعة أقليات متناحرة أيضاً. 

لعلها المرحلة الأكثر وضوحاً في تاريخنا الحديث.

لم ينكشف العالم من قبل كما هو عليه اليوم، ولم ينكشف الغرب وسياسته القائمة على الكيل بمكيالين والنظر بعين واحدة كما ينكشف اليوم.

منذ غزو أفغانستان والعراق، وصولاً إلى حرب أوكرانيا وجريمة الإبادة الجماعية في غزة، وبينهما كل ما جرى ويجري في بلادنا العربية، يعيدنا إلى لحظة الحقيقة، وإلى ما جرّه الاستعمار المباشر وغير المباشر من ويلات ونكبات، لكن رغم كل هذا الوضوح نستدرك بالقول إنه لا ينفي مسؤوليتنا عما آلت إليه أوضاعنا، وضمير الجماعة هنا عائد إلى السلطات المتعاقبة منذ نهاية حقبة الاستعمار المباشر حتى يومنا هذا، وكذلك القوى السياسية المختلفة موالاةً ومعارضةً، وكلّ مَن تولى شأناً عاماً. تلك المسؤولية تطاول الجميع، ولا تستثني يميناً أو يساراً، تيارات إسلامية أو علمانية. 

الجميع مسؤول عما نحن فيه؛ إما لكونه حَكَمَ وفشل في تحقيق تنمية حقيقية ومستدامة وبناء دولة مدنية عادلة، وإما لكونه لم يقدِّم بديلاً صالحاً يقنع الناس بتبنيه وبالتحلّق حوله ودعمه ومؤازرته، وإما لأن معارضته ظلت على مبدأ: قُمْ لأقعدَ مكانك.

نافل القول إن الوزر لا يقع على الكل بالتساوي، فمن حَكَم ليس كمن ظلّ خارج الحكم، لكن لا يمكن إعفاء أحد من الواقع المزري الذي نعيشه.

المسألة ليست مفاضلة على مَن تقع المسؤولية الأكبر، فالاستعمار الذي خرج من بلادنا مرغماً استطاع فرض واقع جيوسياسي جعله قادراً على التحكم في المنطقة والاستفادة من ثرواتها وخيراتها وموقعها الهام في قلب العالم. لم تكن اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت بلادنا مجرد خرائط جديدة للمنطقة، بل كانت مشروعاً جهنمياً بعيد المدى، لأنها سمحت لقوى الاستعمار بالخروج الشكلي، فيما ظلَّت مفاتيح تقدمها (المنطقة) بيد تلك القوى. 

المفارقة المؤلمة أن ثروات بلادنا العربية (وثروات أفريقيا وأميركا اللاتينية) من نفط وغاز ومعادن مختلفة وموقع استراتيجي ساهمت في نهضة الدول المهيمنة، فيما لم تستفد منها شعوبها صاحبة الحق بها، والبرهان هو واقع الحال الذي يفيد بأن لا تنمية حقيقية ومستدامة في تلك الدول كافة، فمعظمها رازح تحت وطأة أزمات قاتلة وحروب مدمرة يذكي نارها الاستعمار الجديد/القديم ويحول دون نهضة شعوبها من تحت رماد حرائقها وركام خرائبها.

 ما مِن ماضٍ يمضي نهائياً؛ كل ما جرى في الأمس له علاقة مباشرة بما يحدث اليوم، فالقوى الاستعمارية لم تنسَ لحظة أن العرب والمسلمين كانوا حتى الأمس القريب على تخوم أوروبا ووصلوا إلى حدود الصين، ولو تسنَّى لهم أن يكونوا موحدين من المحيط الى الخليج لشكّلوا قوةً عالمية سياسية واقتصادية لا يُستهان بها، ولا نتحدث عنها عن وحدة اندماجية تلغي خصوصيات كل قطر عربي، بل عن وحدة مصالح وتطلعات، وحدة لغة وتاريخ وجغرافيا مشتركة، وحدة شبيهة بالاتحاد الأوروبي أو سواها من التكتلات القارية أو الاقتصادية، لكن القوى المستعمِرة أدركت هذا الأمر مبكراً، فخدعت بعضنا بوعود كاذبة، وصَدَقَتْ فقط بوعد بلفور الذي لم تكن غايته الفعلية إقامة "وطن قومي لليهود" على أرض فلسطين فحسب، بل أيضاً فصل المشرق العربي عن مغربه، وعزل مصر عن بلاد الشام، وهذا ما حصل للأسف. 

إضافةً إلى احتلال فلسطين وتشريد أهلها وتضييق الخناق على من تبقَّى منهم عبر جعل حياتهم جحيماً لا يُطاق، وصولاً إلى مشروع الإبادة الجماعية والتهجير القسري كما يُراد أن يحدث في غزة الآن ولاحقاً في الضفة (لولا صمود المقاومة وتصديها الباسل للمحتل وآلته العسكرية الجهنمية)، ثمة كلفة اقتصادية هائلة تسبب بها وجود هذا الكيان الغاصب، ليس بفعل عدوانه الدائم فحسب، بل أيضاً بفعل موقعه في قلب الوطن العربي. 

يمكن لنا أن نتصور لو أن تنقل الأشخاص والبضائع متاح براً من ساحل بلاد الشام إلى سواحل المغرب العربي وصولاً حتى موريتانيا، من أقصى الخليج العربي حتى أقصى المحيط.

لقد تسبَّب زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي بكوارث لا عَدّ لها ولا حصر، لكن أخطر ما فعله اتفاق سايكس بيكو معطوفاً عليه وعد بلفور، ليس تقسيم الجغرافيا فحسب، بل تقسيم الأمة الواحدة وجعلها مجموعة أقليات متناحرة أيضاً. 

لقد خلق المشروع الجهنمي لقوى الاستعمار واقعاً جيوسياسياً عبارة عن حقل ألغام. لو أمعنا في التركيبة السكانية والمجتمعية والقبلية والجهوية والطبقية لكل بلد عربي على حدة، لوجدنا بذور الانفجار كامنة تحت الشعارات الفضفاضة عن الوحدة والعيش المشترك وسواها من عناوين إنشائية لم تجد لها ترجمة فعلية راسخة على أرض الواقع. 

هذا الواقع الذي أوجده سايكس بيكو جعل أي محاولة تغيير محكومة بالتحوّل حروباً أهلية طائفية ومذهبية وجهوية تماماً كما حصل في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان وقبلها في لبنان، وبعدها مَن يدري أين تحط الحروب أوارها، حيث لا أحد في مأمن من نيرانها وشروطها المستطيرة. 

من الواجب الاستدراك فوراً أن تلك الصراعات ما هي إلا صراعات سياسية بين مشاريع دولية وإقليمية متضادة متناقضة آخر ما يفكر فيه أصحابها هو الشعوب المحترقة بنيرانها وحرائقها القابلة والمنذرة بالتوسع ما لم يدرك أبناء هذي البلاد أن لا خلاص لهم بغير توحدهم إن لم يكن حول لغتهم وتاريخهم وجغرافيتهم، فعلى الأقل حول مصالحهم المشتركة، وما أكثرها!

الخارج، كل خارج وأي خارج، لا يهمه سوى مصلحته، وما يجري اليوم ليس سوى امتداد لما جرى بالأمس. مَن لا يقرأ التاريخ ولا يفهمه ولا يستخلص دروسه وعبره لن تُكتَب له النجاة لا في حاضره ولا في مستقبله، فالواقع الجيوسياسي إياه هو الذي سهَّل على القوى الاستعمارية المهيمنة المتحالفة مع رجعية متخلفة سرقة أحلام الشباب المشروعة والمحقة بالعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية.

لا تقدّم ولا عدالة، ولا حتى ديمقراطية، بلا تنمية. التنمية تنقل الشعوب من حال إلى حال، وتنتج وعياً تراكمياً يسمح بتحقيق انتقال سياسي سلس وديمقراطي. لهذا السبب بالذات لم تسمح القوى المهيمنة وشركاؤها المحليون لشعوبنا العربية بأدنى شكل من أشكال التنمية، بل أوجدت طبقة سياسية حاكمة غارقة في الفساد والارتهان، عاجزة عن تحقيق طموحات الشعوب وتطلعاتها المشروعة بالتنمية والعدالة والمساواة وبنهضة لا تتحقق بغير تلك العناوين الضرورية التي تمثل ممراً الزامياً نحو ديمقراطية حقيقية، كما ساهمت القوى المهيمنة بصناعة تيارات تكفيرية والغائية حالت وتحول دون ولادة مشروع تنويري لا بد منه لمواجهة التيارات الفتنوية التي تحركها القوى الخارجية.

الغرب، بمعناه السياسي، هو المسؤول الأول عمّا نحن فيه، وما تسخيف أي كلام عن مسؤوليته وتآمره سوى جزء من مشروع التآمر نفسه، بحيث صار كل مَن يتحدث عن المصالح العربية المشتركة، وعن الأطماع الاستعمارية المستمرة والباقية والمتمددة، متهمَاً بأنه يتكلم لغة خشبية، كيف؟ ثمة آلة سياسية/إعلامية/ثقافية ضخمة وهائلة مهمتها الأساس حرف البوصلة نحو الاتجاه الخاطئ، عبر تزييف الوعي وتزوير الحقائق وقلب الوقائع واستخدام المصطلحات في غير موضعها الصحيح.

القراءة الواقعية لما تعيشه بلادنا من نكبات وأزمات، وعجز النظم الحاكمة عن اتخاذ أي موقف حقيقي، ولو بحده الأدنى، تفرض علينا مقاربة واقعنا بشفافية وصراحة، فما يحدث في غزة خصوصاً، وفلسطين عموماً، يؤسس لمرحلة جديدة لا مجال فيها للمواربة واللف والدوران. 

مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لا تنفصل عن مواجهة الاستعمار بأشكاله المختلفة، سواء كان مباشراً أو غير مباشر، مرتدياً أثواباً سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية. من هنا تغدو حركة المقاطعة المتنامية باباً واسعاً من أبواب الوعي لدى الشعوب، ولا سيما الأجيال الجديدة. 

اتساع رقعة المقاطعة هو دليل وعي متزايد، تماماً مثلما هي التظاهرات والاعتصامات الشعبية والطلابية في مختلف أنحاء العالم. لقد كتبت غزة بدماء بنيها تاريخاً جديداً لا ينبغي لأحد أن يتجاوزه أو يقفز فوقه. العالم بعد غزة لن يكون هو العالم نفسه الذي كان قبلها. 

ما كان مستتراً بالأمس صار مكشوفاً اليوم، وما كان خافياً بات واضحاً وجلياً، وما بعد غزة ليس كما قبلها، رغم أن القوى الاستعمارية المهيمنة لا تزال تعتبر "إسرائيل" ذراعها الطولى في بلادنا، ولا مجال لقطع هذه الذراع من دون فهم الواقع على حقيقته ومقاربته انطلاقاً من هذه الحقيقة الساطعة كما الشمس التي لا يمكن حجبها بغربال. 

فهم الواقع هو أولى درجات تغييره.