تجلّيات المقدس في عبادات الشعوب القديمة

من أجل تأكيد فكرة تشابه الخبرة الدينية لدى الشعوب المختلفة، يقدّم الكتاب نماذج من العبادات القديمة حول العالم، ليصل إلى مخطط تقريبي لعلاقة الإنسان بالمقدّس.

  • كتاب: تجلّيات المقدس في عبادات الشعوب القديمة
    كتاب: تجلّيات المقدس في عبادات الشعوب القديمة

يبيّن الدكتور غسان السّيّد في كتابه "تجلّيات المقدس في عبادات الشعوب القديمة" (وزارة الثقافة السورية-2023) أن الخبرة الدينية للإنسان ليست مرتبطة بالديانات السماوية، بل هي علاقة قديمة قدم الإنسان، وأن الإنسان هو الذي خلق علاقته مع المقدس، أي أنه هو الذي خلق الدين، إذ تأتي الفكرة أولاً ثم تليها الطقوس والأساطير والرموز والقربان والأعياد التي تُثبِّت هذه الفكرة في وعي الجماعة. 

وخلف المعنى الظاهر للعبادات القديمة، كما يشير الدكتور السيد، هناك فلسفة عميقة، تعبّر عن موقف من الحياة والكون والإنسان، وعن خبرة دينية ناتجة مباشرة من التعامل مع الطبيعة، مؤكداً أن "حضور هذه العبادات في حياتنا المعاصرة أقوى مما نتصوّر، إذ إننا نسبح في عالم من الرموز التي يعود أصلها إلى العبادات القديمة". 

ينطلق الباحث في كتابه من أن وعي الإنسان تفتَّح على مجموعة من الأسئلة المرتبطة بعيشه في الطبيعة، وما واجهه من أحداث وكوارث، ما ولَّد لديه من رعب حقيقيّ دفعه للبحث عن معنى لهذا كله، ونتيجة عدم قدرة العقل البشري على تقديم إجابة شافية جعله يخاف من كل شيء، ويعتقد أن كائنات خفية هي التي تحرّك ما يحيط به في الطبيعة حتى ولو كان جماداً، وهي ما أُطْلِقَ عليه اسم المرحلة (الأحيائية أو الأرواحية) التي سبقت المرحلة الميتافيزيقية أو الدينية، وتلتها المرحلة الوضعية أو العلمية.

ومن أجل تأكيد فكرة تشابه الخبرة الدينية لدى الشعوب المختلفة، يقدّم الكتاب نماذج من العبادات القديمة حول العالم، ليصل إلى مخطط تقريبي لعلاقة الإنسان بالمقدّس، يوضِّحه السيد بالقول: "تجري في البداية عملية تحديد المقدّس الذي يصبح رمزاً تلتف حوله الجماعة، وتقدّم له القرابين لكسب رضاه وتجنّب غضبه، ويترافق ذلك ببعض الطقوس والتراتيل، ثم تظهر الحاجة إلى بناء معبد تُقدَّم فيه القرابين وتقام الطقوس. المعبد يحتاج إلى أشخاص يشرفون عليه، وتدوين الطقوس وتعليمها كي تقام في مناسبات معينة أصبحت أعياداً دورية لاحقاً".

وبما أن أعظم الأفكار تموت دون طقوس مصاحبة، والطقوس يلزمها رموز تتوجه إليها، لذا يتحوّل المعتقد إلى مجموعة من الرموز التي يمكن أن تختصر المعتقد كله. وفق هذا التصوّر بنيت العقائد جميعها، من دون أن يعني ذلك عدم وجود تمايز بينها، يتمحور حول خصوصية الخبرة الدينية لدى كل شعب، وتمركزُها في اتجاه محدّد من العلاقة مع المقدّس عبر الزمن.

ومن الأمثلة التي يطرحها الباحث أن الطوائف الهندية تشترك في عدد من الأفكار والمعتقدات التي ترقى إلى اليقين المطلق. أولها الإيمان بتناسخ الأرواح، وثانيها معتقد الكارما، ذلك أن الحالة الجديدة التي تصير إليها الروح بعد موت الجسد تتوقّف على طبيعة أفعالها في الحيوات السابقة، مع التأكيد أنّ النفس البشرية هي استمرار بطريقة ما للنفس الكونية (براهمن). 

وإذا كانت الفيدية لم تهتم بالتجسيد وصناعة التماثيل بسبب طبيعة عقيدتها، فإن الهندوسية أولت هذا الجانب أهمية كبيرة. ويمكن القول إن الديانة الهندوسية كلها تتمحور حول خدمة التمثال وتقديم الولاء له. جاءت البوذية بعد الهندوسية ومؤسسها سدهارتا غوتاما الذي لُقِّب ببوذا "المُتَيَقِّظ"، لتؤكد أنه ليس على الإنسان كي يكتشف معنى الوجود، إلا الغوص في داخله ضمن عملية استغراق باطني فردي توصله إلى النيرفانا، فطريق خلاص الإنسان هو السيطرة على رغباته التي هي مكمن الشرور كلها. 

أما الحضارة اليابانية فانتقلت من تجلّي الإله كامي في عناصر الطبيعة المختلفة، ومن مظاهرها تقديس الشمس والصاعقة (زوج الرز)... إلى التجسيد وتأليه بعض الأشخاص ولا سيما الإمبراطور باعتباره (الكامي الحي)، لتشيع قداسة الإنسان الياباني عموماً رجالاً ونساءً من خلال ديانة الشنتو، لأنه ابن الكامي، فمنه تكون الحياة، وبه يستمر كل يوم. من هنا يأتي احترام الياباني للإنسان بغض النظر عن عرقه وقوميّته، وربما هذا هو السبب وراء عدم وجود دعوات إلى العنف في هذه الديانة. فالإنسان بذاته مقدّس ولا يحتاج إلى الخروج خارج ذاته كي يتطّهر، بل عليه أن يعيش اللحظة بكامل أبعادها، لذا هو لا يؤمن بعالم آخر. 

ومثل الكامي الياباني، كان هناك مجمع للآلهة في أثينا يضم اثني عشر إلهاً، فالإغريق يعتقدون بأنّ للآلهة أجساداً مثل البشر، لكنها غير قابلة للفناء بسبب طبيعة خلقها، واستمر هذا الأمر في الحضارة الرومانية التي أخذت عن الحضارة الإغريقية فكرة البانثيون الإلهي مع تغيير الأسماء فقط، لكن الإمبراطورية الرومانية أدخلت تقليداً جديداً إلى العبادات يتمثّل في تأليه الأباطرة بعد موتهم.

ولتأكيد تشابه العقائد الدينية القديمة رغم اختلاف الجغرافيا أن العبادات في بلاد الرافدين ومصر وبلاد فارس كانت مرتبطة أيضاً بالظواهر الطبيعية، بسبب عدم القدرة على فهم آليّتها. ومنشأ هذا التقديس هو الخوف من المجهول الذي لم يستطع الإنسان القديم فهمه، لكن ما يميّز تلك العبادات أن الآلهة في هذه المنطقة ارتبطت بالأسطورة، ولا يمكن فهم عبادة هذه الآلهة من دون معرفة الأسطورة التي تنسب إليهم خوارق يعجز الإنسان عن تخيّلها. 

يقول الدكتور غسان السيد: "لاحظنا أن عبادات الشرق القديم تركّز على الطقوس أكثر من المضمون القيمي للعبادة، بعكس ما رأينا في ديانات الهند والصين واليابان. أما الثقافة البابلية فكان لها تأثير كبير في ثقافة المنطقة، وحتى في ديانات المنطقة التي اعتمدت قصة الطوفان البابلية، وأسطورة الخلق بوصفهما حقيقتين مقدّستين. والشيء الواضح في الديانات القديمة أنها لا تنتسب إلى مؤسِّس وإنما تتبلور كفكرة ثم تتطور". 

ويؤكد الكتاب أن البابليّين ورثوا المظاهر الدينية عن السومريين، وكانوا يعتقدون بأن الروح لا تموت بعد مفارقتها الجسد، وإنما تذهب لتكمل حياتها في مكان لا عودة منه، لذلك كانوا يضعون مع الميت حاجاته وأمتعته، أي أن أبرز ما يوحّد آلهة الممالك التي نشأت في المدن السورية هو التجسيد ضمن حكاية أسطورية، فضلاً عن أنها كانت في حالة صراع دائم، وإذا كانت الآلهة يمكن أن تموت فإنها قادرة على العودة إلى الحياة، والملاحظ أن آلهة أوغاريت وآلهة الفينيقيين والآراميين تتشابه وإن اختلفت الأسماء. 

أما الديانة في مصر فامتازت بالجمع بين الآلهة الفرعونية والحيوان، وأبرز مثال (أبو الهول) أسد برأس بشري يعود للملك، وذلك يشير إلى أن هذا الملك أصبح يمتلك في ذاته قوة لا تُقهر هي قوة ملك الغابة. كما كان الإله الشمس سيّداً في المراحل كلها، إلى أن جاء أخناتون محاولاً فرض فكرة الخالق الواحد، وأمر بتحريم تجسيد الآلهة، وقام بتحطيم التماثيل، ومُسِحَت عن جدران المعابد صورة الآلهة القديمة وأسماؤها كلها، لكن محاولته باءت بالفشل لأن العبادات القديمة كانت متجذرة في عقول الناس ووجدانهم. 

وبما أن الظاهرة الدينية ملازمة للوجود البشري، وهي ظاهرة طبيعية يمكن فهمها شرط وضعها في سياقها التاريخي وارتباطه بظروف المكان وتطوّر الوعي، فإن الدكتور السيد يبيّن أنه حينما يستقرّ الوعي على تحديد المعتقد يعمل على تشكيل مجموعة من الرموز المصاحبة لهذا المعتقد، وتصبح مقدّسة مثل أصل المعتقد، هذا إذا لم تصبح أقوى منه وتأخذ مكانه، ولا سيما أن المعتقد فكرة غير مرئية، بينما الطقوس فعل مرئي. لذا كانت الديانات منذ فجر التاريخ تشجّع على أداء الصلوات جماعةً ضمن المعابد، لأن الفرد ضمن الجماعة يفقد استقلالية التفكير ويصبح شخصاً آخر في سلوكه. 

وإلى جانب تلك الطقوس والرموز كانت هناك القرابين بنوعيها الفردية والجماعية، والغاية من تقديمها ضمن طقوس معينة نقل عناصر القربان من الحالة الدنيوية إلى الحالة الدينية، والتذكير بدم الضحية الأولى في البشرية، وفوق تلك الطقوس والرموز نشأت الأسطورة باعتبارها "الذاكرة الجمعية التي تحفظ كل ما يتعلق بعالم الآلهة المقدّس، وهي التي تنقل عالم الآلهة من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل"، بحسب السيد الذي يؤكد "أن الإبداع الميثولوجي هو أهم ظاهرة في التاريخ الثقافي الذي أبدعته البشرية. وهي الشكل الأول للثقافة الروحية التي صنعتها البشرية".

ومن الأساطير التي تؤكد تشابه الخبرات الدينية تلك المتعلقة بالخلق من مثل أسطورة إنوما إليش البابلية، وأسطورة الخلق المصرية القديمة، وأسطورة الخلق اليابانية، والإغريقية، إلى جانب أسطورة إنانا ودوموزي السومرية التي قد تكون أصل هذه الأساطير كلها، فهي نفسها أسطورة تموز وعشتار، وبعل وعنات الكنعانية، وأدونيس، وأوزيريس وإيزيس المصرية، وديونيسيوس الإغريقية، وأسطورة باخوص الرومانية. 

يقول السيد: "يجب فهم الديانات السماوية في سياقها التاريخي، أو ضمن التطور الطبيعي لمعتقدات الإنسان الذي انتقل من مرحلة إلى أخرى وفق تطوّر وعيه. والشيء المهم الذي يجب إدراكه هو أن الظاهرة الدينية ستستمر إلى ما لا نهاية، طالما أن لغز الموت لم يحلّ. يحاول الإنسان الديني دائماً استحضار الزمن القدسي الأول، لأن ذلك يقرّبه من الآلهة وعملية الخلق الأولى. والبشرية عبر تاريخها اخترعت طرائق متعددة مختلفة لاستعادة هذا الزمن". 

ويضيف: "الدين هو قبل كل شيء جزء لا يتجزأ من ثقافة الإنسان الروحية، وواحد من العناصر المكوّنة لنشاط الناس الروحي. إنه واحد من أشكال الوعي الاجتماعي الرئيسة. وبهذا المعنى يمكن مقارنة الدين بأشكال الوعي الاجتماعي الهامة الأخرى مثل: السياسة، التشريع، الأخلاق، الفن، العلم والفلسفة. فمهمة الوعي لا تنحصر في تصوير الواقع، والواقع الاجتماعي وحسب، بل تمتد لتشمل عملية توجيه الناس لاتخاذ خطوات أو إجراءات محدّدة والامتناع عن خطوات وإجراءات أخرى. ويوجّه كلّ شكل من أشكال الوعي الاجتماعي المذكورة، سلوك الناس وفق معطياته ومعاييره. وهذا ينسحب على الدين أيضاً".